اعتدنا أن نقرأ العبادات، لاسيما عبادة الصيام، قراءة روحية تبحث عن الزاد الروحي والزكاة القلبية.. وكثيرًا ما غاب عنا، للأسف، أن نقرأها قراءة فاعلة متعددة الجوانب؛ بحيث تعود تلك العبادات ذات أثرٍ فاعل في حياتنا، كما كان شأنها أول مرة، وعبر عصور الألق الحضاري في مسيرتنا التاريخية الممتدة.

إسلام أون لاين” يقرأ مع الباحث الجزائري خليل عبد السلام فريضة الصوم من منظور حضاري، يمزج بين الأبعاد المتعددة لتلك العبادة الجليلة؛ فكريًّا وروحيًّا واجتماعيًّا ومقاصديًّا.

و”عبد السلام” باحث ذو رؤية فكرية تحاول أن تنفض الغبار عما لحق بالمفاهيم والتصورات والقيم.. وصدر له مؤخرًا: “محمد الغزالي.. أبعاد المشروع الفكري”، و”خواطر في مقاصد الصيام” الذي يفتتح به سلسلته: “مقاصد العبادات”، والتي سيصدر فيها قريبًا: “مقاصد الصلاة.. مشروع بناء إنسان الحضارة”.. بجانب كتابيه: “الإغارة على الأفكار”، “مقاصد السيرة النبوية” (مخطوطان).

 

في بداية كتابكم (خواطر في مقاصد الصيام) قلتم: “لن يستطيع العالم الإسلامي الرجوع إلى فاعليته الحضارية إلا بالعودة إلى العبادات وفق مقاصدها”.. كيف ترون أثر العبادات في النهوض الحضاري؟

يقول مالك بن نبي: “الحضارات الإنسانية وُلدت تحت سقف في المعابد. ولما فقدت العبادات فعاليتها الفردية والاجتماعية في بناء الفرد والمجتمع، توقف تأثيرها في صناعة الإنسان؛ الذي يمثل العنصر المحوري في بناء الحضارة.

ومردّ ذلك إلى فساد عالم الأفكار أي (مفهوم العبادة) الذي تحول إلى المفهوم الكهنوتي؛ الذي يجعل من العبادة خدمة نقدمها إلى الله، وليست خدمه نقدمها لأنفسنا.. فأصبحت العبادات أشبه بالقرابين الحسية التي يتقدم بها الكهان بين يدي الأوثان، مما أخمد روح العبادة وجعلها شكلاً جامدًا لا تؤثر في نفس المكلَّف تأثيرها الإيجابي الذي يصنع (إنسان الحضارة).

ونظام العبادات في الإسلام- من صلاة وصيام.. إلخ- بشروطها وأسبابها وفرائضها ونوافلها وآدابها وأوقاتها، يرمي إلى صناعة إنسان متوازن، يحسن ترتيب الأولويات؛ لاستدراجه إلى الانسجام في مجتمع منظم يتجه نحو طريق الحضارة.. أي يحسن ضبط أولوياته وترتيبها وفق مقتضى الفقه الصحيح للدين؛ والذي هو ضبط إحداثيات النص في الواقع بواسطة العقل تحت حراسة القلب؛ بما في معنى الضبط من دقة الترتيب.

كما أن التوازن النفسي والإشباع الروحي هو أثر للتحقق بمقاصد العبادات وفق مراد الشرع؛ واختلال ذلك التوازن هو نتيجة فراغ روحي يعانيه المكلف جراء فوات مقاصد العبادات من نفسه: بسبب جهل أو إهمال أو تقصير؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام جُنَّة، أي وقاية من الفراغ الروحي والاختلال النفسي.

والمشكلة في عالمنا اليوم أن المسلم وغير المسلم كلاهما يعاني من فراغ روحي واضطراب نفسي؛ فحتى المسلم لم يسعفه تدينه الطقوسي الشكلي من إشباع حاجاته الروحية وتحقيق توازنه النفسي!

ما أهم المقاصد التي نتعلمها من فريضة الصوم؟

الانطلاق الحضاري لابد له من وقود حيوي يحرك قوى الإنسان الروحية نحو الفعل الحضاري، والصيام هو الذي يزود الإنسان بالطاقة اللازمة للانطلاق، فهو محطة سنوية يملأ فيها الإنسان خزان روحه بالطاقة اللازمة مسيرة عام.

ولما كان الإنسان هو العنصر المحوري في بناء الحضارة؛ فإن العبادات عمومًا هي بناء للذات الإنسانية، تؤهله لتفعيل دوره في بناء الحضارة التي هي صورة الكمال في الإنسان والعمران، وهي ما تمثل عند علماء الأصول مرتبة التحسين في مقاصد الشريعة، أو ما يسمى عند الصوفية مقام الإحسان.

والصيام هو المحطة التي يتم فيها الارتقاء في مدارج الكمال؛ حيث تنفخ فيه روح جديدة. وليلة القدر هي بمثابة الميلاد الجديد الذي يفرح به يوم العيد.

كما أنه يربي في ضمير المكلَّف (الضمير الأخلاقي)؛ أي الرقابة الأخلاقية الداخلية التي تربط الطلبات المجردة (أحكام التكليف) بأصولها العقائدية ومقاصدها السلوكية؛ لأنه شعيرة يمارسها الفرد بإخلاص، بعيدًا عن مراسيم الرياء التي قد تشوب سائر العبادات؛ ولذا جاء في الحديث: “الصيام لي وأنا أجزي به.

إن الصيام، بما يفرضه من انضباط ونظام، يعمل على إضعاف شوكة النفس، وتهيئتها لتشرب مقاصد العبادات، وتحقيق (التقوى) الجامعة لفضائل الخير والصلاح: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).

الصيام تذكيرٌ للإنسان بضرورة تجاوز بنائه المادي إلى بنائه الروحي، وبأن البناء الأول مجرد وسيلة للعبور إلى معارج الثاني.. كيف نتحقق بهذا؟

الإنسان الذي يحقق التوازن بين مطالبه الروحية ومطالبه المادية هو الذي يصنع الحضارة. والأصل في الإنسان أنه كائن روحي وابتلي بغلاف الطين لكي يحقق التوازن المطلوب؛ من خلال مدافعة غرائزه الحيوانية المتعلقة بجانبه المادي وإضعاف شوكتها، لكي لا تطغى على جانبه الروحي.

وهذا ما تحققه عبادة الصيام؛ حيث تضعف الغرائز المادية بالجوع والظمأ؛ لكي يتخفف المكلف من أثقال المادة، ويحلِّق بروحه في عالم الكمال.. وكلما ارتقى الإنسان في مدارج الكمال الروحي، اقترب من كمال إنسانيته.

و”مرحلة الروح” من منحنى الحضارة هي التي تعطى للحضارة قوة الانطلاق الأولى في التاريخ.. ثم تستوي في “مرحلة العقل”.. ثم تهوي في “مرحلة الغريزة”، التي تمثل مرحلة الأُفول.

“ما قيمة صيامنا إذا لم يزرع فينا إرادة التغيير وتشرق به عقولنا وقلوبنا لتنير لنا دروب الحضارة والحياة؟”.. هكذا تساءلتم.. نود إضاءة الإجابة هنا؟

المقصد الأساسي من العبادات تغيير النفس الإنسانية نحو الأصلح والارتقاء بها في مدارج الكمال؛ فإذا تعطل هذا المقصد ولم يشعر الإنسان بالتغيير في ذاته أو في وسطه الاجتماعي، فهذا دليل على أن مفعول العبادة قد تعطل نتيجة خلل ما في أدائها؛ وهذا الخلل هو نتيجة خلل في عالم الأفكار.

فمن أجل تفعيل دور العبادة في النفس لتحقق مقصودها فيها، لابد من تغيير عالم الأفكار الذي أفضى إلى عطالة العقل؛ فالعبادات لا تتفاعل مع عقل معطَّل؛ أي تغيير التصورات الذهنية للعقيدة والعبادة باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.

فالعقيدة هي الأساس الذي يرتفع عليه بناء العقل ويفعل دوره في تحقيق مقصود العبادة؛ ولما أصبحت العقيدة تصوراتٍ حسيةً وأشكالاً لفظية- تصاغ في مقررات كلامية مجردة، ومتون تحفظ- وليست قيمًا تبني العقل وتطهر الضمير؛ تحولت العبادات إلى أشكال جوفاء من الممارسات العادية الشكلية؛ التي لا أثر لها في النفس والمجتمع والحضارة.

الصيام له دور في البناء الاجتماعي، يتجاوزه الأثر الفرد له.. كيف نُفعِّل الدور الاجتماعي لفريضة الصوم؟

إن من مقاصد الصيام تفعيل البعد الاجتماعي في الفرد؛ من خلال الشعور المشترك بالجوع والظمأ عند عموم المكلفين، مما يفعِّل القيم الأخلاقية التي تمثل الروابط الأساسية في شبكة العلاقات الاجتماعية المكونة لبناء المجتمع. وضعف القيم الأخلاقية في أي مجتمع هو أمارة على تفكك نسيجه الاجتماعي، ونذير بزواله.

والصيام- لِمَا يفرضه من التزامات أخلاقية على المكلفين تجاه بعضهم؛ من تكافل، واحترام، والتزام بآداب العبادة- يعمل على نسج شبكة علاقات اجتماعية متينة تبني مجتمعًا قادرًا على الدخول في حركه التاريخ ودورة الحضارة.

الصوم يُخرج الفرد من تدينه الفردي الأناني إلى بعده الاجتماعي؛ الذي يمثل المقصد الأساسي من مقاصد هذه العبادة؛ أي إخراجه من كونه فردًا معزولاً إلى كونه شخصًا صاحب وظيفة اجتماعية: بتفعيل بُعْده الاجتماعي الذي يؤسس لميلاد مجتمع الحضارة.

فمن مقاصد الصيام كسر ذلك الشره في نفوسنا، وغرس معاني الإنسانية الرحيمة؛ لنشن غارات على موائدنا المترفة بإرادتنا، ونوزع بعض ما فيها على من جعلنا الله مستخلفين في أموالهم؛ فما جاع فقير إلا بسرقة ماله من غني!

فريضة الصيام تُخرج المكلَّف من رق العادة إلى حرية الإرادة.. كيف ترون علاقة الصيام بالتأسيس لمفهوم الحرية؟

الحرية هي أكبر تجليات الدين في النفس الإنسانية، وهي قرار ذاتي لا تكتسب بالإكراه؛ فلا إكراه في الدين ولا إكراه في الحرية.

ومقاصد الدين عمومًا جاءت لتحقيق حرية الإنسان من خلال تحرير ذاته؛ فكما يقول الإمام الشاطبي: جاءت الشريعة لإخراج المكلف عن داعية هواه؛ ليكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا.

ونقطة البداية في حرية الإنسان هي النفس؛ أي تحريرها من رق الشهوات ورق العادات. والصيام جاء لكسر شهوة النفس وترويضها حيث تدخل تحت سيطرة العقل، وكسر عاداتها الفاسدة التي تستعبدها؛ فالإلف والعادة يتحديان إرادة الإنسان في التغيير. والصيام يزودنا بالإرادة التي نستطيع بها تجاوز المألوف نحو الوضع الجديد الذي هو مقصود الصيام.

فإذا لم تحرر نفسك، لا تستطيع أن تحرر غيرك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11).