إن جملة الأفكار الاجتماعية في القرآن الكريم لا تقف عند مجرد الأمر والنهي بالتكاليف التشريعية أو الأخلاق الاجتماعية المعيارية التي تحافظ على استقرار المجتمع وتماسكه بهدف المحافظة على بقاء المجتمع ووجوده. وإنما تتجاوز هذه الأفكار الاجتماعية – التي تؤسس في كنهها قواعد ضرورية لعلم اجتماع القرآن – هذا الشكل المعياري إلى الكشف عن الجوانب المَرَضية التي من شأنها أن تُصدَّع حالة التماسك الاجتماعي، وتهدد بقاؤه, كما ترصد وتحلل هذه الجوانب المَرَضية وأبعادها وأماكن استوطانها في الجسد الاجتماعي, وشكل حاملي الأمراض فيها وصفاتهم وأحوالهم.

 

لقد اعتنى القرآن عناية متوازية بالتوجيه إلى تجنب الآفات من ناحية, وبالكشف عن تلك الآفات التي قد تصيب المجتمع، وتؤدي إلى ضعفه وسقمه، وتمنعه من مقاومة الجراثيم الاجتماعية التي تصيب أعضاؤه وشبكاته الثقافية والاجتماعية -وما تتضمنه من قيم ومكونات للحياة وعناصر للتطور الاجتماعي اللازم- وهو ما يمكن أن يؤصل كما ذكرنا لعلم اجتماع القرآن في منطلقاته ووظائفه.

المرض الاجتماعي: التكوين والنشأة

          تقوم النظرة التوحيدية للمجتمع على مبدئية “العضوية” بين أفراده ونظمه ومؤسساته, فالمجتمع مثله مثل الكائن الحي في بنائه العضوي والنفسي والاجتماعي- من الناحية الوظيفية- لكل عضو فيه وظيفة/دور تتكامل مع وظيفة/ دور العضو الآخر، وإذا حدث خلل ما في وظيفة العضو يصاب الجسد كله بخلل في أداء وظائفه الحيوية. فلا يستطيع القيام بدوره ووظيفته على الوجه المطلوب.

ويتراوح تأثير هذا الخلل – أي طبيعته ومساحته وحجمه – بقدر عِظَمِ الإصابة التي أحدثت الخلل, وبقدر عمقها واستمرارها، وكذلك بقدر السرعة على معالجتها أو التباطؤ في الاكتشاف والعلاج, فاكتشاف أماكن الإصابة (الخلل) وأسباب تلك الإصابة (المرض) يساعدان في تحديد العلاج المناسب، وكذلك فإن سرعة تقديم العلاج (بشرط مناسبته وفعاليته).. كل ذلك يسهم في استعادة حيوية (العضو المريض) في الجسد بما يمنح الجسد القدرة على استعادة المعافاة والحيوية اللازمة، وذلك ينطبق على الفرد فسيولوجيا كما ينطبق كذلك على الجماعة والمجتمع اجتماعيًا وحضاريًا.

وينشأ “المرض الاجتماعي” كما ينشأ المرض العضوي من خلال مهاجمة الجراثيم (الفيروسات) لأضعف ما في الجسد وأقله مقاومة للفيروسات، وتتسلل الجراثيم من ناحية هذا العضو الضعيف وتحاول أن تُفقد باقي أعضاء الجسد الاجتماعي المقاومة اللازمة لإيقاف نشاط هذه الجراثيم ووقف حركتها في باقي الجسد, وتحاول هذه الجراثيم -أيضًا- أن تنتقل  إلى باقي الجسد بعد أن (تتمكن) من العضو الذي لم يستطع المقاومة فأصابته بالسقم والعطل.

ومن الناحية العلمية المرض هو اعتلال الصحة، وهو حالة غير طبيعية تصيب الجسد البشري محدثه انزعاجًا أو ضُعفًا في الوظائف التي يقوم بها الجسد. ويتسلل المرض في الجسد عبر طريقين: إما الاستجابة المباشرة للفيروس (كالاستجابة للشهوات في حالة المرض الاجتماعي) أو نقل العدوى (كغياب الضمير المجتمعي عن العمل وقت مهاجمة الفيروسات الاجتماعية فتنتقل العدوى لقطاعات كبيرة من المجتمع).

والعامل المُمْرض يكون عن طريقين – أيضًا – الأول: من خلال الفيروس المسافر الذي يطير إلى كل أجزاء جسد الإنسان ولا يسبب له علة أو داءً بصورة آنية ومباشرة ويظل باطنًا آثاره إلى حين، والطريق الثاني عن طريق ما يتناوله الإنسان من أغذية ملوثة بالبكتيريا المسببة للأمراض أو ما يعرف بالتسمم الغذائي.

وبالمثل: فإن الفيروس الاجتماعي المسافر في جسد المجتمع يتمثل في الهجوم الثقافي الخارجي الذي يمكن أن يواجهه المجتمع, كما في  دعوات التحلل الأخلاقي والثقافي التي تأتي من الخارج لتغزو قواعد المجتمع وثوابته الحضارية. كما كانت رياح العولمة وعواصفها, ومن قبلها مشروع التغريب ومخاطره، فهذه فيروسات مسافرة لم تصب جسد المجتمع الإسلامي وقتها بالداء أو الاعتلال المباشر، ولكنها ظلت كامنة فترة من الوقت تنتقل بين مجالاته (أعضاء الجسد): التربوية والثقافية والاجتماعية والقانونية والسياسية حتى تمكنت عبر الزمن من إتلاف أجزاء مهمة من هذا الجسد تمثلت في الازدواجية المعرفية والأخلاقية التي عليها العالم العربي والإسلامي وامتدت إلى حالات ذوبان الخصوصية الحضارية للأمة في ظل العولمة.

أما “التسمم الغذائي” الذي أُصيبت به مجتمعاتنا الإسلامية، فهو تلقيها أغذية جامدة فسدت على مر الزمن، وهذه الأغذية -في حالتها الاجتماعية- هي جملة الأفكار والمعتقدات التي تكونت – على خلاف حقيقية الإسلام عبر قرون الضعف والتراجع الحضاري. لم تفلح معها بعض الأغذية الصالحة التي قدمت لها مثل : الموافقات للشاطبي، والمقدمة لابن خلدون وإحياء علوم الدين للغزالي، وفصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال لابن رشد, حيث لم تُقبل الأمة على هذه الأغذية الصالحة والطازجة لتطهير معدتها, واستمرت في تناولها للأغذية المصابة بالتلوث والبكتريا الممرضة على يد نزعات الجبر والتوكل والجمود والتقليد غير المبصر وغياب الشورى والتنازع على السلطة بغير حق.

لقد اجتمعت في الأمة كل الطرق التي تُسبب العلة والداء واضطراب الجسد، وهو ما أدى إلى الخلل الوظيفي والحيوي لأداء الأدوار والوظائف المناطة بها عبر التاريخ. ومن المؤسف هو انتقال هذه  الفيروسات الممرضة إلى أجيال الأمة اللاحقة، ويزيد من خطورة (عمليات الانتقال) هو ضعف عناصر المقاومة الذاتية وضعف نشاطها -بين أبناء الأمة- في البرامج التعليمية والتربوية والثقافية, مما يجعل انتشار المرض في جسد المجتمع أقرب وصفًا إلى العدوى. ولعل أكثر العدوى التي أصابت مجتمعنا هي: حالة اليأس من القدرة على التغيير والتي نتجت عن عدم إيمان الفرد بقيمة التغيير أولًا، وثانيًا: عدم القدرة على إحداث التغيير والتحكم فيه ومن ثم فقدت الأمة دورها التاريخي في التبليغ والشهود والوسطية. والعدوى الثالثة: الاستجابة “غير المبصرة” لكل ما من شأنه تفتيت كيان الأمة وخصوصيتها الحضارية من تفرق مذهبي وطائفي وسياسي وأيدلوجي. والعدوى الرابعة : ضُعف مساحات التجديد الفكري في المجالات الفكرية التي يناط بها إحداث التطور الاجتماعي في الأمة مثل الفقه، والاجتماع والثقافة والتربية. والعدوى الخامسة: تغييب مصادر الحياة اللازمة للأمة – لاسيما القرآن والسنة النبوية – عن التفعيل الثقافي والتربوي في برامج التنشئة الفردية والجماعية.

القرآن والمرض والاجتماعي

للقرآن موقف من المرض الاجتماعي – كما أشرنا سابقًا-  حيث ينقسم المرض في القرآن إلى قسمين[1]: الأول: عضوي وهو الخاص بالمرض الجسمي وهو المذكور في قوله تعالى {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور: 61]،{ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } [التوبة: 91]. وذُكر – هذا النوع من المرض الجسمي- حين الترخص من بعض التكاليف للأجسام المعتلة وغير الصحيحة التي لا يستطيع الإنسان القيام بها حال اعتلال صحته.

والقسم الثاني: هو المرض الاجتماعي والقلبي: وتحديدًا : الآفات الأخلاقية كالرذائل والجهل، والجبن والبخل، والنفاق، وغيرهم من الرذائل الخلقية: كما قوله {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة : 10]، {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة : 125]، ونحو قوله – أيضًا – {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [المائدة ” 64].

وتشبيه النفاق والكفر ونحوهما بالمرض؛ إما لكونهما مانعةً عن إدراك الفضائل كالمرض الذي يمنع صاحبة من التصرف الكامل، وإما لكونها مانعةً عن تحصيل الحياة الأخروية المذكورة في قوله تعالى {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64]. وإما لميل النفس بها إلى الاعتقادات الرديئة ميل البدن المريض إلى الأشياء المضرة، ولكون هذه الأشياء متصورة بصورة المرض دوي صدر فلان، ونغل قلبه. وقال – صلى الله عليه وسلم – “وأي داء أدوأ من البخل”، ويقال شمس مريضة: إذا لم تكن مضيئة لعارض عرض لها[2].

ويستعار مرض الجسم للنفاق والفكر فهما علة في القلوب والوصف منه مريض والجمع مرضى وقوله تعالى “فيطمع الذي في قلبه مرض” أي فجور وشهوة خبيثة[3].


[1] أنظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن.

[2] الراغب الأصفهاني، ص765.

[3]  أحمد عبد الفتاح: القاموس القويم للقرآن الكريم، ج2، ص223.