لماذا نتحدث كثيراً عن الفاروق عمر لاسيما في مسائل الإدارة والاستراتيجية والعدل؟ لماذا تحدث غير المسلمين عنه بصورة إيجابية فيها كثير تقدير واحترام؟ لأنه باختصار: ساوى بين الناس، فلم يستفد شريف من شرفه للاقتراب من الفاروق ولم ييأس ضعيف بلا واسطة في عدله..
تأمل وصية من وصايا الفاروق عمر لأحد ولاته وماذا قال فيها: ” آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك (ساوي بين الناس) حتى لا يطمع شريف في حيفك (أي ميلك معه لشرفه) ولا ييأس ضعيف في عدلك. لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
يتحدث “ويليم موير” المستشرق الاسكتلندي في كتابه ( حياة محمد وتاريخ الإسلام حتى عصر الهجرة ) عن الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قائلاً :” كانت البساطة والقيام بالواجب من أهم مبادئ عمر، وأظهر ما اتصف به إدارته، عدم التحيّز. وكان يقدّر المسؤولية حق قدرها وكان شعوره بالعدل قوياً ولم يحاب أحد في اختيار عماله، مع أنه كان يحمل عصاه ويعاقب المذنب في الحال، حتى قيل إن درّة عمر أشد من سيف غيره، إلا أنه كان رقيق القلب وكانت له أعمال سجلت له شفقته على الأرامل والأيتام…)
تلك شهادة من مئات شهادات غير المسلمين في حق الفاروق عمر، والتي لم تأت من فراغ، بل بعد دراسة مستفيضة لحياة رجل عظيم في تاريخ الإسلام القديم والحديث.. إنك حين تقترب أكثر فأكثر من شخصية وقامة عظيمة مثل الفاروق عمر، ستجد أنه جمع الأضداد في شخصيته.
تجده قمة في الشدة في موقف ما، لا يلبث أن تراه يجسّد أعمق معاني الرقة والرحمة في موقف بعده.. وقد تجده بركاناً فائراً حين يرى حرمات الله تُنتهك، ثم يذرف دموعاً غزيرة لمجرد إحساس بالتقصير تجاه أحد رعيته، حتى وإن لم يقصّر فعلياً في نظر من حوله، باعتبار أن معاييره ونظرته للأمور كشخص مسؤول مؤتمن، كانت تختلف عن عامة المسلمين..
لم يتحرك الفاروق عمر وفق أهوائه وأمزجته، ولا أهواء وأمزجه من حوله من مستشارين وغيرهم، بل كان قد وضع نصب عينيه هدي المصطفى – ﷺ – ومن بعده خليفته الصديق – رضي الله عنه – وبهديهما سار عمر، واجتهد فيما لم يجد مرجعية لا من عند رسول الله ولا الصديق أبي بكر..
أسلم آخر ملوك الغساسنة وهو جبلة بن الأيهم ، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه في القدوم عليه، فرحب به وأدنى مجلسه. ثم خرج في موسم الحج مع عمر، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة، فالتفت إليه جبلة غاضباً فلطمه وهشم أنفه. فغضب الفزاري واشتكاه إلى عمر فبعث اليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟
قال جبلة: لستُ ممن ينكر، أو يكتم شيئاً. أنا أدَّبتُ الفتى. أدركتُ حقي بيدي ! قال عمر: أيُّ حقٍّ يا ابن أيهم؟ يريد أن يقول عمر لجبلة بأن مثل هذه المفاهيم لا محل لها عنده، بل هي عند غيره، حيث يُقهر المستضعف العافي ويُظلم.. أما عندي فلا. هي جاهلية وأزحناها من حياتنا يا جبلة. ثم قال عمر: ارض الفتى. لابد من إرضائه مازال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك. قال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقة وأنا صاحب تاج. إنني عندك أقوى وأعز. أنا مرتد إذا أكرهتني. قال عمر:” عالم نبنيه، كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى ” .
لم يستوعب جبلة ما كان يعنيه عمر.. لم يفهم أن الإسلام ساوى بين الناس، وأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى. المعيار الجديد في الإسلام للتمييز بين الناس إنما هو بالتقوى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )، وليس أكثركم مالاً وعزاً وشرفاً ونسباً وحسباً، وغيرها مما كان منتشراً ومعروفاً بين الناس في الجاهلية. كل تلك المعاني لم يستوعبها جبلة، الذي طلب من عمر أن يمهله إلى الغد. حتى إذا انتصف الليل، هرب نحو القسطنطينية حيث هرقل الروم، مرتداً عن دينه. حتى إذا أصبح الناس وطلب الفاروق جبلة، علم أنه فر، لكنه لم يبال ويهتم به، وإن كان ملكاً من ملوك العرب، وإن كان بارتداده سيرتد ألوف معه.
عمر لا يقيم لمثل تلك الاعتبارات أي وزن، فإن ارتداد رجل عن الإسلام أهونُ عنده بكثير، من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه وهو المساواة بين الناس، وإقامة العـدل بينهم، وخسارة فرد لا يمكن أن تُقاس بخسارة مبدأ.
حين صار الفاروق معياراً للحق
بمقاييس اليوم، سيعتبر البعض أن ما قام به الفاروق مع جبلة، عمل سياسي قصير النظر، وكان بالإمكان لملمة الأمر وتطييب خاطر فرد ضعيف لا وزن له في الأمة، مقابل مصالح كثيرة متوقعة من وجود شخص عظيم وملك من ملوك العرب ضمن الأمة المسلمة. لكن ثبات عمر على موقفه وشدته في الاقتصاص للمظلوم من ظالمه، رسخ معنى أن يعيش الناس أحراراً آمنين مطمئنين، لا يظلمون ولا يُظلمون. وبموقفه ذاك، عاش عمر في النفوس المسلمة إلى اليوم وإلى ما شاء الله أن يكون، قامة عظيمة شامخة راسخة، يترحم عليه الملايين المسلمة، ويعجب به كثيرون من خبراء وقادة الإدارة في العالم، ويعتبرونه مدرسة لوحده في عالم الإدارة.
ثباته على المبادئ ورغبته الأولى والدائمة على أن يؤدي أمانة الخلافة بالشكل الذي يرضي ربه، جعلته لا يهادن ولا يخاف في الله لومة لائم، بل إن كل من كان حوله من كبار الصحابة العظام الكرام، أخذوا عمر مقياساً ومعياراً، به يقيسون أنفسهم في تعاملاتهم مع الآخرين، وأداء أماناتهم وواجباتهم.
قصته مع سيف الله المسلول، خالد بن الوليد وهو في أوج انتصاراته العسكرية، وشيوع مقولة أنه لا نصر بدون خالد، جعلت الفاروق يخشى على المسلمين من أن يفتتن الناس بخالد، وتتعمق تلك الفتنة والاعجاب، فيقرر لتصحيح تلك الظنون وأن النصر من عند الله وحده، وفي وقت حرج للغاية، بعزل خالد عن قيادة جيوش الفتح، ليتحول خالد الى جندي في الجيش بعد أن كان هو قائد الجيوش !
لم يرد بخاطر الفاروق احتمالية أن يتمرد خالد ويعترض، وقد كان يملك زمام القوة العسكرية الضاربة للدولة، وفي الوقت ذاته هو بعيد عن الخليفة، بحيث لو أراد الخروج عليه وإعلان نفسه أميراً للمسلمين حينها لاستطاع، بل ربما سار معه الألوف. لكن لم تدر ببال عمر تلك الاحتماليات، بل وخالدٌ كذلك، والسبب بطبيعة الحال أنهما من خريجي مدرسة محمد – ﷺ – ولا يمكن لأحدهما أن يعمل وفق هوى نفسه. لا الفاروق سيظن لحظة أن قراره سيدفع بأي جاهلية باقية في نفس خالد للفوران والظهور على سبيل المثال، ولا خالد نفسه سيظن أو سيتخيل الفاروق وإمكانية أن يمارس حكماً بغير ما أنزل الله، أو
يتخذ قراراً من تلقاء هوى نفسه.. وبتلك التربية ترسخت عدالة عمر على الجميع، القريب منه قبل الغريب والبعيد عنه.
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟
نموذج آخر يتكرر مع صحابي عظيم مثل عمرو بن العاص، الذي كان أميراً على مصر. حيث أمره الفاروق أن يحضر هو وابنه إلى المدينة من فورهم دون أي تفصيلات أخرى، حتى إذا ما وصلا، جمع الفاروق الناس وأقام محكمة علنية لابن أحد أمرائه الكبار، الذي اعتدى على أحد أهل الذمة في مصر دون وجه حق، فطلب الفاروق من القبطي أن يقتص من ابن الأكرمين، بل وطلب أن يقتص من أبيه أيضاً لأنه ما فعل الابن فعلته إلا لشعوره بأنه ابن حاكم.. ليقول الفاروق يومها قولته المشهورة:” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” ؟
عاد عمرو الى مصر متأثراً بما حدث له أمام الناس بفعل حماقة ارتكبها ابنه، لكن لم تأخذه العزة بالإثم، ولم تحدثه نفسه أبداً التمرد على عمر، والانفراد بمصر واعلانها دولة له، كما كان شائعاً قبل الإسلام وبعده أيضاً. وقد كان بإمكانه ذلك وهو من هو في الدهاء والحنكة السياسية. ولكن ليس عمرو من تلك النوعية، وهو لم يختلف كذلك عن سيف الله المسلول. عمرو يعلم أن الفاروق ما قام بذاك الإجراء إلا لأنه يريد إقامة العدل الإلهي في أمة مسلمة ناشئة. إنه يدرك بأن عمر ما انتصر يوماً لنفسه أو انتقم من أحد لخلاف شخصي أو أمر دنيوي.
خريجو المدرسة المحمدية صنعهم الرسول الكريم – ﷺ – بصورة يمكن القول إنهم لن يتكرر أحد منهم بعد ذلك.. ولك أن تطالع كتب التاريخ وتقرأ عن الكم الهائل من الثورات والتمردات التي حدثت على الخلفاء الأمويين والعباسيين ومن جاء بعدهم كثير كثير من بعد انتهاء الخلافة الراشدة..
وجد الصحابة الكرام في مواقف لا تحصى، أن الفاروق عمر ما انتصر يوماً لنفسه أو اتخذ قراراً وفق مزاج أو هوى.. عدالته، وإن كانت قاسية على بعض النفوس حيناً، إلا أنها جلبت احترام الجميع له، مسلمين وغير مسلمين.. والمقولة التاريخية (عدلت فأمنت فنمت يا عمر) جاءت على لسان غير مسلم. تلك العدالة وغيرها من مزايا وصفات نادرة في الفاروق، جعلته من أعظم شخصيات الإسلام بعد الحبيب المصطفى – ﷺ – وصاحبه أبي بكر، وجعلت أدباء وفلاسفة غير المسلمين يذكرونه في مقالاتهم ودراساتهم وأبحاثهم، ليصفه أحدهم أنه كان بمثابة كلية أركان عسكرية وإدارة استراتيجية.