يعتبر محمد الفزاري أشهر علماء المسلمين في الفلك والرياضيات، فهو عالم فلك، ولغوي، ورياضياتي، ومترجم، وفيلسوف.. وهو أيضا الإمام الكبير الحافظ المجاهد القانت الأمَّار بالمعروف.. وقد لعب دورا محوريا في التطور الأولي للتعاليم الفلكية العربية والإسلامية من المصادر الهندية والساسانية واليونانية، لكن لا يوجد أي شيء تقريبا من أعماله حاليا، مع أن الفزاري صاحب أول اسطرلاب في الإسلام .
تاريخ المسلمين والعرب حافل بالعلماء العباقرة الأفذاذ الذين أثروا الحياة العلمية والبحثية بالمؤلفات والكتب في شتى مناحي الحياة، في الجغرافيا والتاريخ والأدب والطب والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفقه والتفسير والتراجم، ولعل من بين هؤلاء العلماء: العالم الفذ المشهور المذكور في حكماء الإسلام محمد الفزاري، والذي يعد من أشهر علماء العرب والمسلمين في مجال الرياضيات وعلم الفلك. وقد نال مرتبة علمية وشهرة عظيمة جدا في علمي التنجيم وتقويم الشهور.
وقد ذاع صيت الفزاري صاحب أول اسطرلاب في الإسلام ، وقد اشتغل في علم الفلك والتنجيم وخاصة في تأليف الكتيبات الفلكية مع جداول لحساب المواقع السماوية خلال ولاية الخليفة المنصور والخلفاء العباسيين اللاحقين.
الفزاري..هوية غامضة
للأسف الشديد، لا يوجد أي شيء تقريبا من أعمال هذا العالم الكبير حاليا. ليس هذا فقط، بل أن بعض الكتابات تشير إلى أن حتى هويته ليست مؤكدة تماما، يوجد بعض الغموض بين كاتبي السيرة الذاتية لمفكري العصور الوسطى حول ما إذا كان “إبراهيم بن حبيب الفزاري” و”محمد بن إبراهيم بن فزاري” ما هما إلا شخصان مختلفان -أي الأب والابن- أم أنهما نفس الشخص.
لكن على أية حال، تشير أدلة مختلفة على أنهما نفس الشخص.
وتعرّف العديد من المصادر محمد بن إبراهيم بن حبيب الفزاري (القرن 8 – القرن 9 م) بأنه عالم فلكي ورياضي ، ولد في الكوفة لأسرة عربية أصيلة ينحدر أصلها من بني فزارة (وبنو فزارة من ذبيان من غطفان من العرب العدنانيين) التي سكنت الكوفة.
مولده ونشأته
لا تذكر المصادر متى ولد محمد الفزاري، حيث تذكر وفاته فقط في بغداد سنة 180هـ تقريبا، وهو ينتمي إلى عائلة عربية اصيلة قطنت الكوفة، ويذكر المستشرق ديفيد بنقري في (موسوعة تراجم العلماء) أن أول اتصال لابي عبد الله الفزاري ببغداد سنة 144هـ وأن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور أحاطه بالرعاية والتقدير لعلمه الجم.
وعلى العموم، يبدو أن الفزاري كان سليلا لعائلة قديمة في الكوفة (بالقرب من النجف في العراق الحديث)، كما يبدو أنه كان يعمل في علم الفلك والتنجيم – وخاصة في تأليق الكتيبات الفلكية مع جداول لحساب المواقع السماوية (زيج) – خلال ولاية الخليفة المنصور (حكم: 754-775) والخلفاء العباسيين اللاحقين.
ترعرع أبو عبد الله في بيت علم، فقد تتلمذ على يدي أبيه أبي إسحاق إبراهيم بن حبيب الفزاري المتوفي سنة 160هـ، أحد كبار علماء الهيئة في عصره. وكان قد نال شهرة عظيمة جدا في علمي التنجيم وتقويم الشهور.
حياته ومسيرته العلمية
هاجر الفزاري إلى بغداد عام 144هـ /747 م. ليستزيد في علمه من العلماء الكبار الذين قطنوا بغداد مركز الحضارة في ذلك الوقت. ولقد أولى الفزاري دراسة اللغات الأجنبية عناية كبيرة وخاصة اللغة السنسكريتية التي بذل فيها جهدا عظيما لرغبته في معرفة ما وصل إليه علماء الهند القدماء في أرصادهم.
ولقد أهلته قدراته اللغوية هذه إلى أن ينضم إلى فريق الترجمة في بيت الحكمة التي بناها أبو جعفر المنصور. وقد نال الفزاري احترام الخليفة فأحاطه بالرعاية والتقدير لعلمه الغزير.
وفي بيت الحكمة عكف الفزاري على ترجمة العلوم الفلكية والرياضية من المصادر الهندية إلى اللغة العربية. ولقد كان لاطلاعه المباشر على العلوم الهندية في علم الفلك التجريبي أن جعل هذا العلم يستند على الاستقراء والملاحظة الحسية لجميع الأرصاد التي تعلل حركات الكواكب والأجرام السماوية. استطاع الفزاري أن يصنع أول أسطرلاب في الإسلام. وكان الفزاري من المغرمين بعلم الأرصاد لدرجة كبيرة حتى إنه نظم قصيدة في النجوم توحي بحبه الشديد لهذا الفن وصارت قصيدته يضرب بها المثل بين علماء العرب والمسلمين في مجال علم الفلك.
السند هند الكبير
سنة 155هـ جاءت بعثة من الهند ومعها كتاب “سدهانتا” الذي يحتوي على معلومات ثمينة عن علم الهيئة، وهو كتاب معروف عند العرب والمسلمين باسم “السند هند”. فأمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، محمد بن إبراهيم الفزاري بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وتصنيف كتاب على غراره، سمي كتاب (السند هند الكبير) فصار هذا الكتاب من اهم المراجع الذي يعول عليها الباحث في علم الفلك الى أيام الخليفة العباسي المأمون.
وأصبح هذا الكتاب المرجع الأساسي الذي استخدمه العلماء في علم الفلك إلى أيام الخليفة العباسي المأمون، حيث قام العالم العربي محمد بن موسى الخوارزمي باختصار الكتاب وأسماه “السند هند الصغير” وأضاف إليه معارف اليونان وغيرهم. ثم استخلص منه قدرا كبيرا من المعلومات، فحل كتاب الخوارزمي محل كتاب الفزاري الذي توفي حوالي 180هـ (796م).
وساهانتا باللغة الهندية تعني (الدهر الداهر)..ومما لاشك فيه أن لهذا الكتاب تأثيرا عظيما في التصويرات الهندسية لحركة الكواكب، التي نتج عنها عمل الأرصاد العديدة في البلاد العربية والإسلامية.
اسطرلاب الفزاري
المعروف لدى المؤرخين في حقل العلوم التجريبية، أن محمد بن إبراهيم الفزاري صاحب أول اسطرلاب في الإسلام و ألف مع جهاز الاسطرلاب كتابا يصف طريقة العمل به، وسماه “كتاب العمل بالإسطرلاب المسطح”.
والأسطرلاب جهاز فلكيّ ذو أشكال مختلفة، استعمله المتقدّمون في تعيين ارتفاعات الأجرام السَّماويَّة ومعرفة الوقت والجهات الأصليّة. وهو عبارة عن آلة دقيقة تُصوَّر عليها حركة النجوم في السماء حول القطب السماوي، وتُستخدم لحل مشكلات فلكية عديدة، كما تم توظيفها في الملاحة وفي مجالات المساحة.
وهناك من يخلط بين الابن وابيه في موضوع صنع أول اسطرلاب في الإسلام، ولكن الثابت أن المقصود الابن محمد بن إبراهيم الفزاري.
وكان محمد بن إبراهيم الفزاري من المغرمين في علم الهيئة، فنظم قصيدة في النجوم، توحي بحبه الشديد لهذا الفن، صارت قصيدته يضرب بها المثل بين علماء العرب والمسلمين في مجال علم الفلك.
وقيل بأن الفزاري كان أول مسلم يصنع “الاسطرلاب المستوي”. ووفقا للعديد من كاتبي السيرة الذاتية، كان الفزاري رائدا وفذًّا في العلوم الفلكية. ومعظم المعرفة الحالية حول الفزاري وصلتنا من البيروني، وهو عالم فلك عاش في القرن الحادي عشر. وكان البيروني أكثر انتقادا وتشكيكا في بعض أفكار الفزاري، إذ يعتقد البيروني باحتمال وجود أخطاء ارتكبها الفزاري وزميله يعقوب بن طارق في تفسير المصطلحات أو التقنيات الفلكية السنسكريتية في الأعمال الذي ترجموها.
تحويل علم الفلك علما عربيا وإسلاميا
يعتبر الفزاري صاحب أول اسطرلاب في الإسلام من بدأ حركة نقل العلوم الفلكية والرياضية من المصادر المختلفة، وخاصة المصادر الهندية إلى اللغة العربية، والمعروف ان محمد الفزاري كان متمكنا من اللغات الأجنبية وخاصة اللغة السنسكريتية.
وقد بذل الفزاري جهدا عظيما في حقل علم الفلك التجريبي، حيث جعل هذا العمل يستند على الاستقراء والملاحظة الحسية لجميع الأرصاد، التي تعلل حركات الكواكب والاجرام السماوية، لقد كان لتفسيراته للظواهر الفلكية اثر مرموق على مسار المنهج العربي الإسلامي في هذا المضمار.
وقد شجع الخليفة العباسي المنصور(754-775) العالم محمد الفزاري ورفاقه على العطاء فترجمت الكتب التي خلفتها الأمم، ليس فقط الهندية ولكن أيضا اليونانية والفارسية، وصححت الأخطاء التي وقعوا فيها، وعملوا إضافات جوهرية في علم الفلك.
وأخذ علماء العرب والمسلمين من نتاج الأمم السابقة لهم، ودرس الفزاري وزملاؤه وتفهموا جيدا أعمال الهنود واليونان والفرس في علم الفلك، فزادوا على نظرياتهم وتفننوا في حلول بعض المسائل المستعصية عليهم، وفوق هذا كله جعلوا علم الفلك علما عربيا واسلاميا.
مؤلفات وترجمات
ألف الفزاري العديد من الكتب في مجال الفلك والرياضيات، لكن أصول كتبه العربية ضاعت في معظمها، ولم تنجُ من التلف إلا ترجمة لاتينية لكتاب “الأسطرلابات والعمل بها”، طُبِعت في أوروبا ثلاث مرات وذلك في القرن السادس عشر وشكَّلت مصدرا علميا فريدا لكل المهتمين بهذا العلم.
ومن مؤلفات أبي عبد الله الفزاري في مجال علم الفلك مايلي:
- كتاب “القصيدة في علم النجوم”
- كتاب “المقياس للزوال”
- كتاب “الزيج”
- كتاب “الجداول الفلكية حسب سنوات العرب”
- كتاب “العمل بالإسطرلاب ذات الحلق”
- كتاب “العمل بالإسطرلاب المسطح”.
- كتاب حساب أوساط الكواكب بالتاريخ العربي
وقد ساعد الفزاري في الإشراف على البرج الذي اختار التاريخ الميمون لتأسيس بغداد في عام 762. وشارك في أوائل سبعينات القرن الثامن الميلادي بناء على طلب الخليفة العباسي في ترجمة نصوص فلكية كثيرة باللغة السنسكريتيةز
كما قام الفزاري أيضا بتأليف -على ما يبدو في تقليد أسلوب الأطروحات الفنية باللغة السنسكريتية- قصيدة طويلة عن علم الفلك أو علم التنجيم بعنوان “في علم (أو هيئة) النجوم (قصيدة عن علم أو تكوين النجوم). وقد ذُكِرَت بعض الملاحظات المتناثرة حول هذه الأعمال في أعمال مؤلفين لاحقين.
وهناك أعمال أخرى منسوبة إلى الفزاري لكنها معروفة العناوين فقط مثل:
- “المقياس للزوال” (كتاب حول قياس الظهيرة)
- “العمل بالأسطرلاب المسطح” (كتاب حول استخدام الأسطرلاب)
يُنسَب إلى الفزاري ابتكار تحويل الحسابات الهندية الكوكبية التي تتضمن مليارات الدورات الفلكية إلى تلك التي تستخدم النظام الستيني للحركات الوسطية. وكان تصميم كتابه الثاني، وفقا لأحد الجداول الواردة في أعمال لاحقة، لتمكين المستخدم من العثور على المواقع المطلوبة للتواريخ في التقويم العربي.
ويبدو أن المراجع المجزأة كانت كافية – إلى حد ما – لإظهار أن مساهمات الفزاري كانت تمتلك تأثير كبير على علم الفلك العربي الناشئ، على الرغم من أن عمله ككل لا يمكنه أن يجاري المقالات والأعمال اللاحقة.