في المقال السابق تناولنا بعض عناصر هذه القضية ووجدنا أن أحد أهم جذور الفساد هو طمع البعض في الاستحواز على خيرات الكون، وأنهم لن يتمكنوا من ذلك إلا بتشويه العقيدة التي تقرر تساوي بني آدم في الحقوق والواجبات، وأن هذه العقيدة كانت السبب الأبرز في تقليص الفساد على ظهر الكوكب.

الفساد الفكري

خلقت العقول لتفكر في ملكوت الله فيزداد إيمانها بعظمة الخالق وتنكشف أسرار الكون وكنوزه، وعندما يقوم العقل بدوره ويفكر بطريقة صحيحة يشعر أهل الفساد أنهم في خطر، إذ سيبدأ من يفكرون في الحديث عن الحقوق والمطالبة بها. لذا كان تغييب العقول رسالة المفسدين تغييبها بالمخدرات أو بنشر التفاهات، فالعقل والنفس كالطاحونه  تدور لتطحن ما تلقي فيها فإذا ألقيت فيها قمحا أخرجت دقيقا، وإذا ألقيت فيها صخرا أخرجت فتاتا.

 وهكذا تسمع عن أخبار لا قيمة لها في حياتنا ولا شأن لنا بأصحابها، فهذه ممثلة مريضة بمرض خطير يتوحد معها الناس ويتابعون أخبار مرضها ورحلة علاجها وما تناولته من أدوية، وهل هي مضطرة للعلاج بالخارج بينما بجوارهم شخصيات قيمة قدمت من روحها وعقلها ليسعد الآخرون لكن لا تجد من ينادي على صفحات التواصل بالدعاء لها.

ترى هذا الذي درسك كنموذج وصور العطاء في حياتنا لا تنتهي، هل كلفت نفسك بأن تسأل عن أخباره ولو عن طريق رسالة، ترى كم يسعده أن يسأل عنه تلميذ درسه، لا أقول لك كافئه، فلا يكافأ على أعمال البر التي يمتد نفعها إلا الله، بل يكفي أن يشعر هؤلاء أن هناك من يتذكرهم ولو بدعوة صالحة وأن هناك من يقدر معروفهم ولو امتدت السنوات.  

إن الاعتناء بشخصيات لم تقدم لنا سوى السخف والتسلية التافهه نوع من الإفساد العقلي. والجدل السفسطائي على صفحات التواصل نوع من الإفساد العقلي، وقد ظهر أنه يدار بطريقة تغرق الناس في  أمور لا تمس حياتهم من قريب أو بعيد، لا يجنون إلا خسارة أوقاتهم التي هي أثمن من كثير من الأموال.

طريقة التفكير التي لا تناسب ابن آدم الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه في تلقي الأخبار ونقلها وعدم التفريق بين الخبر الذي يجب أن ينقل كما حدث دون أي إضافة أو نقصان وبين الرأي وتحليل الخبر الذي هو خاضع لإمكانات المحلل وخبرته وتخصصه وقدرته على إبداء رأيه وتكوين رؤية حول الموضوع.

عندما ننقل رأي شخص على أنه الحقيقة المطلقة أو لا نفرق بين الرؤية الشخصية لحدث يظهر فيها ميول المحلل وتفسير الأحداث لصالح اتجاهه الفكري أو انتماءه الحزبي، ثم نتناقل هذه الرؤية على أنها الحقيقة فهذا من الفساد العقلي الذي يؤدي إلى تكوين قناعات فاسدة واختيارات فاسدة وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع.

الأمل الكاذب الذي يخدع به الناس ويجعلهم يحلمون بمستقبل أفضل لم نخطط له، ولم نخط خطوة نحوه، ولا يزال البعض ينتظر اليوم الموعود الذي تتعدل فيه الموزاين حتى يمل البعض ويغرق في جحيم اليأس لون من ألوان الفساد الفكري.

الفساد الاجتماعي:

الأصل في المجتمع المسلم أنه مجتمع متراحم متلاحم كالجسد الواحد، لكن الوصلات التي تربط أجزاء الجسد إذا تقطعت أو ضعف عملها وجدت الجسد يأكل بعضه بعضا، وينظر كل عضو إلى بقية الأعضاء على أنهم أعداء ينبغي أن يقضي عليهم ليعيش، ولن يجد شياطين الإنس والجن حالة كهذا ليشعروا أن عملهم قد حاز على أعلى درجات النجاح وأن جهودهم لم تذهب سدى.

وفي سبيل التقاطع بين الناس، وبعضهم يقل الإحساس بما يؤلم الآخرين، بل يتسفل بعض بني آدم فيسعدهم ما يحزن الآخرين.

يتتبعون أحوال الناس  ويبحثون عن سقطاتهم، وما من إنسان إلا وله عيب كبر أو صغر، والجميع مستور بستر الله، وحتى يبقى هذا الستر لا بد من ستر العيوب التي نراها، وإلا كيف تنظر لمجتمع يهلك بعضه بعضا، ويفتش بعضه عن عيوب بعض ثم ينشرها على وسائل التواصل، ليحاول القول كلنا ساقطون وبئس ما يقول وسيكتوي بما يسوؤه عاجلا أو آجلا.

من الفساد الاجتماعي رفع الوضيع ووضع الشريف، وهذا بسبب اختلال ميزان تقدير الناس، فالتقدير لمن تسلط عليه الأضواء مهما كان تافها بينما يتوارى عن الأنظار الذين يفنون أنفسهم ليسعد غيرهم، هؤلاء في الغالب سعادتهم في تقديم الدعم للآخرين، لكن الطريق طويل وهم يحتاجون إلى من يثبتهم أو يتحمل معهم شيئا من همومهم التي هي في الغالب هموم الناس.

يمر الإنسان مع الفساد بمراحل فيقع فيه أولا  وهو  خائف ومتضايق، فإذا كانت المرة الأولى لام نفسه، ثم يقع في حفرة الفساد فيظل يعاتب نفسه من جانب ويبرر لها من جانب آخر، ولن يعدم من رفقاء السوء من يزينون له سوء عمله ويحملونه على تكرار فعلته، ولا يزال يكرر حتى يصير أحد المدافعين عن الفساد  والناشرين له، ثم يتسفل أكثر ليتحول إلى أحد واضعي نظريات الفساد التي تكسوه بكسوة لطيفة ليتقبله الناس والفاسدون الجدد.

في سبيل الإصلاح: في أشد العصور نقاء كانت هناك مقادير من الفساد لكنها كانت مستقبحه، ويشعر أصحابها أنهم يخالفون السياق العام، وكانوا يعودون إلى الصراط المستقيم بعد قليل أو كثير، لكن في هذا العصر تظهر عشرات التبريرات وألوف المحاولات لإثبات أن الفساد أمر منطقي وينبغي أن نتعايش معه، ونصنع له القوانين التي تسمح به، وأخطر من ذلك أن نجعل الناس تقبل به وتقبل عليه.  

وفي سبيل ذلك تسمع كل يوم عن واقعة فساد مالي أو أخلاقي أو إداري أوغير ذلك، الفساد موجود هذا أمر لا ينكره أحد لكن الصلاح موجود وظاهر يحتاج لعين مبصرة ويحتاج لمن يتداوله ويحتاج أن نقف إلى جوار أهله ندعمهم بكل ألوان الدعم، ونكثر جمعهم، يحتاج أن نسير في طريق الإصلاح خطوة أو خطوات، الفاسدون يجذب بعضهم بعضا ليكونوا تكتلا ويظهروا أنهم قوة وأنهم أكثرية، لكن تحسبهم مجتمعين متعاونين بينما  قلب كل شخص منهم وعينه على المال الحرام، فمتى ما وجده باع من حوله ممن صاحبهم في رحلة الحرام لسنين أو لعقود.

يحتاج الإصلاح إلى إنكار للفساد ولو بالقلب، والإنكار بالقلب يختلف عن الإنكار في القلب، الإنكار بالقلب ينتقل مع المشاعر والكلمات والنظرات يشعر الفاسد أنه منبوذ من المجتمع، وأنه خارج عن السياق العام، وأن القلوب تبغضه وإن امتدت الأيدي للسلام عليه.  

ما من بلد إلا وفيه عدد من الأجهزة الرقابية التي تضبط أعدادا من قضايا الفساد، لكن تيار الفساد لا يتوقف مع كل هذه الأجهزة الرقابية، هل نحتاج إلى المزيد من الأجهزة أو توسيع دائرة صلاحيتها أم نحتاج بجوار هذه الأجهزة إلى جهاز آخر دقيق لا يخطئ، يقظ لا ينام، وفي ذات الوقت لا يفارق من نريد مراقبته من أين لنا بهذا الجهاز، هذا الجهاز موجود داخل كل إنسان نحتاج إلى إيقاظه فنمده بالمنبهات وبأجهزة القياس التي تميز بين الصلاح والفساد، إن القلب إذا تيقظ وأدرك أن الفساد يحرق الفاسدين قبل غيرهم، وأن الحرام لا يمكن أن يكون سببا للسعادة في الدنيا، وأن أرزاق الإنسان ستأتيه مع الصبر والسعي، وأن كل لحظة تمر تأخذ معها المتعة الوقتية والآلآم ربما وقف الإنسان مع نفسه ومع هذه الأفكار، فخففت من السقوط نحو الهاوية وكانت سببا في إعادة الحسابات.