عرف العالم الإسلامي منذ أمد بعيد نقادًا للظاهرة الاستشراقية سعوا إلى دحض التصورات المغلوطة التي روج لها بعض المستشرقين حول الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وكان النقد في مبدأه دينيا إلا أنه بمضي الزمن تطور وصار نقدا معرفيا وحضاريا، وفي المقابل كان هناك تيار يمدح الاستشراق ويدعو إلى تعميم مناهجه البحثية في دراسة التراث والمعارف الإسلامية، وفي السطور التالية أتطرق بإيجاز إلى كيفية تطور الموقف من الاستشراق وانتقاله من النقد إلى القبول والإشادة، ثم أبين مقولات كل فريق التي يستند إليها في تبرير موقفه.

حركة نقد الاستشراق: تاريخها وتطورها

توجيه النقد إلى الاستشراق ظاهرة قديمة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث، فظهر أول ما ظهر في كتابات رواد النهضة فظهرت في مناظرة جمال الدين الأفغاني لرينان، واقتفى أثره محمد عبده الذي فند ادعاءات هانوتو بشأن علاقة الإسلام بالعلم، وسار على نهجهما مصطفى الغلاييني الذي تصدى لتفكيك مقولات اللورد كرومر بشأن الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وانخرط المفكرون اللاحقون في معارك طويلة ضد التصوير الإسلامي للاستشراق وخصوصا ما يتعلق بالوحي والنبوة والشرائع الإسلامية وصلتها بالشرائع الأخرى، والملاحظة الجديرة بالذكر هنا أن النقد لم يكن حكرا على المفكرين من ذوي المنظور الإسلامي بل شمل دوائر أوسع من المفكرين الذين كانت لهم اهتمامات معرفية أخرى من أمثال: عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وغيرهما.

انصب جل النقد في هذه المرحلة على تفنيد المغالطات الدينية التي يسوقها المستشرقون، ولذا وصف بأنه “نقد ديني” يتسم بالحماسة الدينية والهشاشة الفكرية لاستناده إلى الحجج الدينية التقليدية، لكن هذا الافتراض ليس بمقدور المرء تقبله بسهولة لأنه ضمن هذه الحقبة المبكرة كانت هناك انتقادات علمية رصينة لأعمال المستشرقين، ونكتفي بالإشارة إلى نقد الأب أنستاس ماري الكرملي إلى الاستشراق الذي ساقه في مجلة المجمع العلمي العربي عام 1936 تحت عنوان ” أغلاط المستشرقين” وافتتحه القول أننا معشر الناطقين بالضاد لا ننكر فضل المستشرقين في نشر التراث العربي ولولاهم لفقدنا جزءا منه، ولكن علم المستشرقين ليس منزها وهو عرضة للنقد والتحقيق ليظهر الحق ويُتبع ويتضح الغثاء ويُنبذ، وتأسيسا على هذه الغاية راح يمحص أعمال ثلة من المستشرقين ويبين تهافتها استنادا إلى المنهج العلمي وإلى علوم اللغة .

انطلقت في الربع الأخير من القرن الماضي موجة جديدة من موجات نقد الاستشراق وكان أبرز معالمها كتاب “الاستشراق” لـ إدوارد سعيد ، الذي أحرز شهرة واسعة في حينه، وأسس لنوع جديد من النقد على أساس حضاري وسياسي، ذلك أن سعيد اعتبر التصورات الاستشراقية حول الإسلام تصورات عنصرية لا تتسم بالحياد العلمي وأنها تعود بجذورها إلى قرون خلت شهدت صراعا مسلحا بين أوروبا والعالم الإسلامي، وأرجع ازدهار الاستشراق الحديث إلى الظاهرة الاستعمارية حيث سعت أوروبا إلى إنشاء مستعمرات لها في قلب العالم الإسلامي وقدم لها المستشرقون المعلومات الأساسية التي تحتاجها للقيام بذلك، وهكذا غدا البعد الحضاري حجر الزاوية في النقد الاستشراقي الجديد وتقلص النقد الديني للاستشراق.

لاحت في الأفق خلال العقدين الأخيرين إرهاصات موجة ثالثة من مراحل النقد الاستشراقي، وهي تعتبر امتداد لمرحلة إدوارد سعيد بشكل أو بآخر لأن القائمين عليها هم من المفكرين الذين عاشوا بالغرب وتوسلوا بالمناهج والأدوات الغربية وإن انحدروا من أصول مشرقية، وتابع هؤلاء انتقاداتهم للاستشراق من زوايا علمية ومعرفية أكثر رحابة من منظور إدوارد سعيد، وعلى سبيل المثال فإن جورج مقدسي ينقض التصورات التي رسخها المستشرقون حول المذهب الحنبلي الذي وصم دوما بأنه مذهب متطرف.

 وأما وائل حلاق فإنه يهدم ما زعمه المستشرقون بشأن جمود الفقه وإغلاق باب الاجتهاد، ولم يكتف بذلك وإنما وضع مؤخرا كتابا في نقد الاستشراق، وهو لا يتبنى أطروحة إدوارد سعيد وإنما ينفيها ذاهبا إلى أن سعيد نظر إلى الاستشراق بوصفه ظاهرة سياسية وهذا نظر قاصر برأيه، لأن النظر كذلك يشبه النظر إلى قمة الجبل الذي يكسوه الجليد وهو مغمور بالماء، فما يخفى من الجبل أعمق وأكثر أهمية من ذلك الجزء الصغير الذي يبدو لنا، وعلى هذا يولي حلاق وجهه شطر المعرفة الحداثية بغرض دراسة المعرفة المهيمنة التي فرضتها أوروبا على العالم منذ القرن السابع عشر، والتي أنتجت الاستشراق وصاغت الثنائيات الشائعة من قبيل المركز والهامش أو الغرب والشرق وما إليها .

في مديح الاستشراق

على الجهة المقابلة ظهرت ما يمكن تسميته ظاهرة “مديح الاستشراق” وهي ظاهرة محدثة ظهرت في الثلث الأخير من القرن الماضي تقريبا لكنها تجد جذورها في كتابات سلامة موسى وغيره من المفكرين العرب الداعين إلى اقتفاء أثر الغرب ومنتجاته في نظمه المعرفية والاجتماعية على حد سواء، ويتخذ المدح أحد شكلين: فهو إما مدح مباشر وهو ما نجده لدى هاشم صالح، ومدح غير مباشر وهو الأغلب ويبدو في صورة مهاجمة نقاد الاستشراق على ما بينهم من اختلاف في المنطلقات والمناهج وأفضل من يجسده فؤاد زكريا.

كتب هاشم صالح مقالا ضافيا بعنوان (ثناء على الاستشراق)  ذهب فيه إلى أن صورة الاستشراق العلمي قد شوهت في العالم العربي وأننا بذلك ارتكبنا “جريمة فكرية بحق العلم والمنهج العلمي” لأننا خلطنا بين نوعين من الاستشراق لا يجوز الخلط بينهما وهما الاستشراق العلمي الذي أنقذ التراث العربي و”الاستشراق العنصري” الذي لا قيمة له من الناحية العلمية ولم يبق منه شيء أصلا.

 وفي تحليله لدواعي العداء للاستشراق يفترض صالح أن الادعاء الإسلامي بأن غاية المستشرقين تقويض التراث الإسلامي عبر استخدام المناهج الفيلولوجية-التاريخية غير دقيق، لأنها طبقت في البداية على التراثين المسيحي واليهودي وتمخضت عن ذات النتائج أي أنها قوبلت بذات العداء من قبل الكنيسة وتعرض كثير من المفكرين للاضطهاد نتيجة اعتمادهم هذه المناهج، ورغم ذلك أثبتت فعاليتها وكفاءتها العلمية في الغرب وصارت أساسا لدراسة المصادر الدينية المختلفة.  

ويختم صالح مقاله بنتيجة مفادها أنه ليس بمقدورنا رفض الاستشراق لأن “الصورة التي نمتلكها عن تراثنا هي تبجيلية وعبادية… وبالتالي فالاستشراق هو وحده الذي قدم لنا الصورة التاريخية الحقيقية..كما أن المثقفين العرب لا يستطيعون القيام بما فعله الاستشراق من عمل تحريري لسببين: أما لأنهم عاجزون عن تطبيق المناهج الحديثة على التراث، وإما أنهم لا يتجرؤون على ذلك”، وفي الحالتين لا يسعنا سوى قبول الاستشراق.

وما طرحه صالح يثير لدينا إشكالات عدة أولها أن التمييز بين الاستشراق العلمي والاستشراق السياسي الداعم للاستعمار الغربي هو تقسيم إدوارد سعيد في الأصل، وهو لم ينكر فضل الاستشراق العلمي لكنه كان على وعي أن المستشرقين انحازوا للثقافة الغربية على حساب الثقافة الإسلامية ، والثاني أن صالح تجنب في تمييزه بين نوعي الاستشراق تسمية الأشياء بأسمائها فهو يطلق على الاستشراق السياسي الذي خدم الكولونيالية الغربية وصف “الاستشراق العنصري” وهو وصف غير دقيق لا يعبر عن جوهره، وأخيرا فإن النتيجة التي يخلص إليها من عجز المفكرين العرب ابتكار منهجية للتعامل مع التراث بشكل علمي تثير التساؤل فلماذا يعجز المفكرون الحداثيون عن مقاربة التراث بمعزل عن المناهج الغربية، ولماذا لا يسعون إلى إيجاد مناهج جديدة أقدر على التعامل مع التراث.

على صعيد آخر يقدم فؤاد زكريا مدحا غير مباشر للاستشراق من خلال نقضه لأطروحات نقاد الاستشراق، وهو على الرغم من تمييزه بين النقد المستند إلى أصول إسلامية والنقد السياسي والحضاري المستند إلى أصول علمية إلا أن كلا النوعين لا يحظيان بأي دعم لديه، وإن كان نقد سعيد يحظى ببعض التقدير لأنه يعد مظهرا من مظاهر النضج العقلي للثقافة العربية حيث يشير إلى انتهاء عهد الانبهار بالغرب، لكنه يظل برغم كل شيء “رد فعل وليس فعلا أصيلا”، فضلا عن يقوم بذلك من داخل المنظور الغربي ولم يطرح بديلا عنه، وحول هذه الجزئية يقول :”فإلى أي مدى تجاوز نقاد الاستشراق هؤلاء، المنظور الغربي الذي ينتقدونه؟ وهل يعد النقد الذي يقومون به نقدًا جذريًا بحق، إذا كانت جميع المفاهيم التي يَستخدمونها، وجميع المناهج التي يطبقونها، مستمدة من الثقافة الغربية التي نبع منها الاستشراق” .

النصيب الأوفى من النقد انصب على المنظور الإسلامي للاستشراق الذي ينطوي برأيه على  “مبدأ أساسي لا يصرح به أصحاب هذا الموقف، ولكنه موجود ضمنا في كل حرف مما يكتبون وهو أننا أصحاب حقيقة مطلقة، وكل من يؤيد حقيقتنا المطلقة على صواب، وكل من يعارضها على خطأ”، وإلى جانب ذلك يفتقر إلى الإلمام بقواعد المنهج العلمي، ولا يثير مشكلة حقيقية على المستوى العقلي ولا يرتكز على حجج قابلة للنقاش؛ الأمر الذي يضفي على انتقاداته طابعًا هشا يجعلها عاجزة عن إقناع أي ذِهن يتمسك بأوليات المنطق السليم؛ مستخلصا من هذا أن المنظور الديني في نقد الاستشراق هو “أضعف المنظورات وأقلها جدارة بالمناقشة”.

وعلى الرغم من أن الدكتور فؤاد زكريا قدم انتقادات جوهرية- بعضها لا سبيل لإنكاره- لحركة نقد الاستشراق بنوعيها إلا أنه لم يقم بواجب نقد الاستشراق والمعرفة الاستشراقية التي اعترف أنها ليست معرفة منزهة وبريئة من الشوائب، لكنها ليست الخطر الذي يجب مواجهته وإنما “الخطر الأكبر يكمن في أن ننكر عيوبنا لمجرد أن غيرنا يقول بها لأهداف غير موضوعية، إن دورنا الثقافي في المرحلة الراهِنة هو أن نمسك ثور التخلف من قرنيه، وأن ننقد أنفسنا قبل أن ننقد الصورة التي يكونها الآخرون عنا”، ويستشف منه وجود ارتباط نقد الاستشراق والمعرفة الغربية وبين سيادة التخلف والتفكير اللاعقلاني، ولا غرابة في ذلك فالدين لدى المفكرين الحداثيين ليس سوى غيبيات غير قابلة للبرهنة العلمية والاستشراق هو التنوير القائم على إعمال العقل.