يعتبر الميراث الإسلامي في باب المقاصد الضرورية وحقوق الإنسان كبير ولا يقارن بغيره ، كيف لا وأكثر تلك الحقوق ثاوية في النصوص المحكمة من القرآن والسنة وتنظيرات الفقهاء، صحيح أنها لم تتخذ طريقها للتنزيل في بعض الأحيان نتيجة الإكراهات التاريخية وانحرافها عن أوامر القرآن والسنة، واتباع مواريث الكسروية والقيصرية التي حذر منها المصطفى عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة.

تتضمن مدونات حقوق الانسان المتوالية الصدور جملة من الحقوق الأساسية، ومنها خاصة الحقوق والحريات الفكرية مثل حرية الفكر والعقيدة، وحرية إبداء الرأي والإعلام، وحق التعلم، والحقوق الاقتصادية كحرية التملك، وحرية التنقل، الحقوق السياسية مثل حق تولي الوظائف العامة، والمساواة أمام القانون.

ومن نماذج ذلك ميثاق حقوق الإنسان والمواطن الصادر عقب الثورة الفرنسية (1789)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م، ووما جاء في مادته الثامنة عشر:” لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدّين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر، ومراعاتها سواء كان بمفرده أو مع الجماعة، وأمام الملأ أم على حدة “، أو ما جاء في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المعتمد  بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في (16 يناير 1966م)، وجاء فيه: لكل فرد الحق في حرية الفكر والضمير والديانة، ويشمل هذا الحق حريته في الانتماء إلى أحد الأديان، أو العقائد باختياره، وفي أن يعبّر منفردا، أوم ع آخرين بشكل علني، أو غير علني عن ديانته، أو عقيدته سواء كان ذلك عن طريق العبادة، أو التقيّد، أو الممارسة، أو التعليم”،  إضافة إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة، والتي اعتمدت في ( 18 ديسمبر 1979،)، وكذا اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدت في (20 نوفمبر1989)، وبعض الاتفاقات الإقليمية والفئوية[1].

ومن المعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية لم تعترف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلا في المجمع الفاتيكاني الثاني سنة (1965م)، ولا تزال تتحفّظ على بعض مواد الاتفاقات والإعلانات السالفة الذكر.

أما المنظومة الحقوقية للإنسان فقد رافع عنها الإسلام منذ بزوغ تباشير دعوته التوحيدية التي كانت حربا على إذلال الإنسان أو تعبيده لغير الله رب العالمين، وكانت الدعوة فارقا بين تاريخ الاستعباد وتاريخ التحرير تحرير الإنسان من أوهامه وأصنامه التي صنعها بالخوف، والخرافة، والتضليل، والتحريف.

ونحن نجد جذورا لكثير من الحقوق التي تواضع عليها المنتظم الدولي اليوم في أبواب المقاصد الشرعية الضرورية التي تبارى الفقهاء على ترسيخها تأصيلا وتنظيرا وتنزيلا، وهذه الحقوق في الجملة متضمنة ومقصودة للشارع فيما استنبطه أساطين المقاصد الشرعية بدء من الإمام الجويني وتوسطا بالشاطبي وانتهاء بالإمام الطاهر ابن عاشور، ويكفي الاستئناس بما قاله قال الإمام ابن القيم:” فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش  والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة[2]، وما قاله الغزالي: إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”[3].

وأما الإمام الشاطبي فقال:” فقد اتفقت الأمة -بل سائر الملل- على أنَّ الشَّريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدِّين، والنَّفس، والنَّسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري”[4]، وهذه الضرورات مستندة إلى نصوص شرعية محكمة غير منسوخة وعاملة غير موقوفة، وهذه الحقوق الأساسية الثابتة بمقتضاها ضرورات لا حقوق كما يقول المفكر محمد عمارة[5]، وعند تفحص المقاصد الضرورية واحدة واحدة فإننا نتبصّر ونجد الآتي:

أولا: مقصد حفظ الدين: فللإنسان الحق في أن يكون له دين، فلا يُتصور عيشه بغير دين، والإلحاد مناقض للفطرة السوية القاضية بافتقار العبد لغيره، ومن ثمّ أقر الإسلام بأحقية وجود غيره من الأديان الباطلة” لكم دينكم ولي دين” ودعا إلى بناء الإيمان على البرهان واليقين، فلا تقليد ولا متابعة ولا إمعية، كما رفض سلب الناس حق الاختيار: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس، 99)   

 كما رفض أساليب التهكّم أو التنقّص أو التهجّم على الأديان إلا بالجدل بالتي هي أحسن، والتهجّم على الأديان بغير بينة لا صلة له بحريات التفكير، وإنما هو التوجيه والإغراء، ومن تم ندّد بالمقايضة بين الحرية في الاختيار وضرورات الإنسان من المطعم والمشرب، واعتبر ذلك مسّا بحق الاختيار دون قسر وإكراه.

 بل إن الإسلام أبعد النجعة في الدفاع عن حق التدين، ولو لمخالفيه في القيام بشعائرهم وعمارة معابدهم، فدعا إلى الدفاع عن الجميع لتمكينهم من ذلك، ففي المحكم نقرأ: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج، 40)

ثانيا: حفظ النفس: وهو مقصد عظيم يتضمن حقوقا إنسانية كثيرة، منها حق الحياة، وحق العلاج، ونيل الضروري من القوت، وحق الدفاع عن النفس، ومنع الإضرار بالجسد بالتعذيب أو الضرب، وحتى الإيذاء النفسي واللفظي، وكل ما يروّع المسلم الآمن وغيره من معصومي الدماء من المخالفين.

ولأجل ذلك أكدت الشريعة على النظافة والتطبّب، ومنع الانتحار، ودعت إلى نيل الطيبات ومنع المحرمات المضرة بالجسد، بل قيدت حتى بعض المباحات التي تعود على الجسم بالضرر كالرهبانية والتبتّل وترك النوم. ودعت إلى رعاية الضعفاء والولدان والفقراء والمساكين، ومنعت التعذيب البدني فحرمة ظهر الإنسان معروفة، وحتى العقوبات لها مقاصدها الحكيمة في الحدّ من الجريمة، وسحبت هذا على حرمة الجسد الإنساني بعد موته، إذ كسر عظم الميت ككسره حيا.

ثالثا: حفظ العقل: لا مماراة في كون الإسلام أنضج الأديان في الاعتداد بالعقل واعتباره من مصادر المعرفة المهمة إضافة إلى الوحي والحس والخبر، فآياته ثرة في ذلك، وقد نعى القرآن الكريم على المعطلين عقولهم: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ  فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ (الملك، 10-11)  ولأجل ذلك كان للعقل القدح المعلى في العناية الحضارية، والإسلام قرين العقل والمعقولية، فهو دين العقل وخصيم الهوى الحاجب عن الوصول للحق، أو الإيمان والبخوع للحقائق.

ومن أجل ذلك حارب كل ما يحول بين العقل وعمله من سواتر كالتقليد الأعمى، وشيوع نفسية القطيع، كما ذم الكسل الفكري، وحرم كل ما يعطّل العقل عن فاعليته من المسكرات والمخدرات، أو ما يرهقه من الولوع بالخرافات والأساطير والأوهام، أو تطلّب الغيب من غير مصادره البيّنة، وكره الإجهاد أو السهر لغير ما فائدة عائدة، ودعا إلى تنميته بالعلم وملازمة مجالسه، والعكوف على القرآن الكريم قراءة وتدبرا لما فيه من خزائن الخير التي لا تنفد ولا تبيد.

رابعا: حفظ العرض: وهو ما يعير عنه بالكرامة الانسانية، إذ أن للإنسان وجودان أحدهما مادي ظاهر، والآخر معنوي، والإنسان يتأذى بالانتقاص منهما كليهما، وخاصة العرض، إذ لا يجوز البتة المساس بالأعراض، وحرمتها كحرمة الدماء، ولأجل ذلك علا النكير على قوادحه مثل القذف، أو الافتراء، أو النيل الكاذب، والمنظومة الأخلاقية الإسلامية مليئة بالكلام عن آفات اللسان، بل إن الفقهاء أجازوا للإنسان التخلّف عن الجماعة إذا كان حضورها ينتقص من عرضه للمطالبة بدين من غريم، أو نحوه كالخوف من تسلط ظالم.

ويندرج في هذا المقصد الكلي حماية الأنساب من الدخل، إذ يلزم في هذا العناية الفائقة بالعلاقات الأسرية، وتحريم وتجريم ما يضرها أو ينقضها من الفواحش والمنكرات، وما يلحق ذلك من تحريم التبني ونحوه، ولأجل ذلك أحاط الإسلام هذه الكلية بحراسة شديدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء المنكرات الشخصية أو المجتمعية.

خامسا: حفظ المال: المال قوام الحياة، ويظهر ذلك في حض الإسلام على التكسّب والعمل والسير في مناكب الأرض، وتعميرها وتثمير خيرتها، وارتفاق منافعها، ولأجل ذلك أباح الإسلام التملك، واعتبر المؤمن القوي خيرا من الضعيف، والغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، وحرم البطالة والتسول والاستخذاء، والسرف والبطر، والسرقة والغلول، والرشوة والسحت والربا، وفرض الجنايات في انتهاك المال الخاص أو العام، ورهّب من أكل أموال الناس بالباطل، وأباح انتقال الأموال بالوجوه المشروعة من البيوع والتبرعات والميراث.

ومنع إتلاف المال بتولته للغالين والمرتشين والمفسدين: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة، 188)، كما عارض تركه بأيدي السفهاء الذين لا يعقلون: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (النساء، 5).

والشاهد أن المنظومة الفقهية الإسلامية في كل فروعها التعبدية والمالية والجنائية والسياسية والقضائية فضلا عن مصادر أحكامها في الأصول والمقاصد والعلل والأسرار قد حوت رؤى كلية وتطبيقات فقهية وقواعد جامعة في الحقوق والواجبات عاش بها المسلمون أسعد أيامهم قبل أن يجور عليهم الزمان، وتهب عليهم العواصف الجديدة الملبدة بسحب أمطرت عليهم مفاهيما لا تقبلها شريعتهم ولا تستسيغها ثقافاتهم، ولا تزال المجتمعات المسلمة تقاوم ذلك التنميط الموحد لما يعرف بحقوق الإنسان العالمية، وهي حقوق لها وعليها، وللمسلمين الحق الكامل في الإدلاء بدلوهم في صياغتها بما يحفظ الشرائع السماوية من المحق والبوار بعدما نكصت الديانات الأخرى عن الوفاء لمواريثها ووصايا أنبيائها.


[1] -انظر هيثم مناع: الإمعان في حقوق الإنسان، ط 1، دمشق، دار الأهالي، 2000، ج 1 ص 587.

[2] – ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1991، ج 3 ص 11.

[3] – الغزالي أبو حامد، المستصفى، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1993، ص 174.

[4] – الشاطبي أبو إسحاق، الموافقات، ط1، القاهرة، دار ابن عفان، 1417، ج 1 ص 31.

[5] – محمد عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات لا حقوق، ط1، القاهرة، دار الشروق، 1989، ص13-14.