فَتَبَيَّنُوا .. ذكرت هذه اللفظة القرآنية بهذه الكيفية ثلاث مرات في القرآن الكريم، مرتين في الآية (94) من سورة النساء، والثانية في الآية (6) من سورة الحجرات، وقد جاءت الآيتان تسجيلًا لحادثتين – في المجتمع الإسلامي – منفصلتين، الأولى حادثة محلم بن جثامة، الذي قتل عامر بن الأخبط وكان في غنيمة له، بعد ما قال لا إله إلا الله محمد رسول الله في إحدى الغزوات، ثم عاد للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع فقال له صلى الله عليه وسلم “فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه”، فنزلت آية سورة النساء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] (النساء: 94).

والحادثة الثانية هي حادثة الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق – وهم مسلمون آنذاك. فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي خالد بن الوليد إليهم مرة أخري، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى آتاهم ليلًا فسمع منهم الآذان والصلاة، ورآهم متمسكون بالإسلام، وأخبر زعماء بني المصطلق النبي أنهم ما خرجوا إلا لإكرام رسوله، وتقديم الصدقة التي في رقبتهم. فنزلت آية سورة الحجرات [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] (الحجرات : 6).
ومن حيث المعنى والمضمون كانت أكبر الحوادث التي وقع فيها المسلمون فيما هو ضد “التبين” كانت “حادثة الإفك” والتي سجلت في سورة النور في عشرة آيات (النور: 11 – 20).

لم يكن لمنهج الوحي أن تمر هذه الحوادث دون تسجيل تاريخي عبادي، أو بصيغة أخرى إن هذا التسجيل التاريخي العبادي لهذه الحوادث التي وقعت لجماعة المسلمة تقوم بدور المعلم والمرشد للأمة. إن المنهج القرآني الذي وضع من أجل إقامة مجتمع إسلامي متكامل الجوانب: العقدية، الاقتصادية، الأخلاقية، …لم يكن يترك تلك الحوادث تمر بلا ذكر تاريخي مقدس، حتى يقوم بإرساء هذه القاعدة الجوهرية في العلاقات الاجتماعية بكافة أوجهها، ولا يهمنا في هذا الشأن تتبع تفاصيل روايات الحادثتين، أكثر من الاهتمام بالقواعد لمنهجية طلب التبين ومفهومه وعوائقه وطرق التغلب على تلك العوائق.

وهذا ما سنتناوله في مقالتين متتابعتين نحاول فيهما دراسة قواعد المنهجية الإسلامية لتحقيق “التبين” كما تضمنته الآيات والحوادث القرآنية.

قواعد التبين ومضاداته “حادثة الإفك: أنموذجًا”

الإفك يقصد به “كل مصروف عن وجهة الذي يحق أن يكون عليه، ومنه قوله تعالى “قاتلهم الله أني يؤفكون” (سورة التوبة: الآية 30)، أي : يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل. ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح، وصرف من الحق إلى الباطل… ورجل مأفوك: مصروف عن الحق إلى الباطل”، فالإفك يجمع بين الموضوع (الكذب أو الباطل) والذات (أي الذي يكذب) لأنه يحمل صفات الأفاك أي الكذاب، وقد وصف الله هذه الحادثة بـ “الإفك” أي “الكذب” و”الافتراء”، وكل من خاض في هذه الحادثة يحمل هذه “الصفة”، وقد وصف الله تعالى الذين خاضوا في هذه المسألة بالجهل لأنهم أتوا بالكذب أو “ما ليس لكم به علم” (سورة النور: الآية 15).

وحادثة الإفك معروفة لدى جماهير المسلمين والتي سجلتها سورة النور –كما تقدم- ونحاول هنا أن نرصد فيها أهم قواعد “التبين” و”مضاداته” كما سجلها القرآن الكريم.

قواعد التبين ومضاداته “حادثة الإفك: أنموذجًا”

الإفك يقصد به “كل مصروف عن وجهة الذي يحق أن يكون عليه، ومنه قوله تعالى “قاتلهم الله أني يؤفكون” (سورة التوبة: الآية 30 )، أي : يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل. ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح، وصرف من الحق إلى الباطل… ورجل مأفوك: مصروف عن الحق إلى الباطل”، فالإفك يجمع بين الموضوع (الكذب أو الباطل) والذات (أي الذي يكذب) لأنه يحمل صفات الأفاك أي الكذاب، وقد وصف الله هذه الحادثة بـ “الإفك” أي “الكذب” و”الافتراء”، وكل من خاض في هذه الحادثة يحمل هذه “الصفة”، وقد وصف الله تعالى الذين خاضوا في هذه المسألة بالجهل لأنهم أتوا بالكذب أو “ما ليس لكم به علم” (سورة النور: الآية 15).

وحادثة الإفك معروفة لدى جماهير المسلمين والتي سجلتها سورة النور –كما تقدم- ونحاول هنا أن نرصد فيها أهم قواعد ” التبين” و”مضاداته” كما سجلها القرآن الكريم.

مضادات التبين

1- ” أَفَضْتُمْ “، وهذا المعلم يصور الحالة التي كان عليها أولئك الذين خاضوا في حادثة الإفك والذين وصفهم القرآن بأنهم عُصْبَةٌ مِّنكُمْ “، والإفاضة في الحديث أي الأخذ فيه، وترديده بكثرة وليس ككلام عابر، بل يدل على انشغال هؤلاء بحديث مكذوب، والإفاضة – أيضًا – تعني الاندفاع في هذا الحديث. والفيض في اللغة يدل على الكثرة “يقال فاض الماء والدمع ونحوهما يفيض فيضاً وفيوضه وفيوضًا وفيضانًا وفيضوضة أي كثر حتى سال علي ضفة الوادي… وفاض الماء والخير إذ كثر … وقيل فاض تدفق، وأفاض الماء على نفسه أي أفرغه”([i]).

 “أَفَضْتُمْ ” دلالة على الاندفاع في إذاعة الخبر ونشره، دون تردد من أحد، وهذه من أهم سمات الشائعات التي تنخر في عظام المجتمع تميز بالانتشار السريع، أفقيًا ورأسيًا، وكأن الجميع يخوضون في الحديث في وقت واحد وبقوة واحدة يكونون مثل فيض الماء المندفع الذي يصل على الشاطئ ويغمره.

2- “تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ “: قرأ أُبي وابن مسعود إِذْ تَتَلَقَّوْنَهُ “([ii]) من التلقي بتاءين، ودلالة هذه القراءة أن العقلانية تقتضي أن الإنسان إنما يتلقي الأخبار والمعلومات ويعرضها على عقله، فيستدل، وينقد، ويمحص، فيصدق منها ما يصدق، ويكذب منها ما يكذب، ويخضع الأمر للشواهد والتثبت مستعينًا بخبراته، ومصادره، وأدواته العقلية، أما في مسألة “الإفك” فالأمر اختلف فالتلقي كان باللسان وهو ما يشير إلى حالة “الوهن العقلي” التي أصابت هذه الفئة “العصبة” التي تناقلت هذه الشائعة وهذا الكذب, حيث تلقت ” النبأ- الخبر” بلسانها وليس بعقلها أو بوعيها الشعوري والأخلاقي.

أما السيدة عائشة – رضي الله عنها – فقرأت “إذ تَلِقُونه”([iii]) بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف. وهي قراءة لا تخلو – أيضًا – من دلالة، ومعنى هذه القراءة من قول العرب “وَلَقَ الرجل يَلِق وَلْقًا إذ كذب واستمر عليه”([iv]). وأضافت هذه القراءة حالة “الاستمرار” التي عليها حالة الفئة الكاذبة التي كان لها الإثم في نشر وإذاعة هذه الشائعة الكاذبة.

والقراءة المشهور “ إِذْتَلَقَّوْنَهُ ” يقصد بها “يأخذه بعضكم من بعض… وتلقونه من لقيه بمعنى لفقه وتلقونه من إلقائه بعضهم على بعض”([v]). واللسان هنا كان مصدر التلقي والإلقاء معًان لأن الكذب لا يجري علي القلب ولا العقل “لسان يتلقي عن لسان، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر حتى لكأن القول لا يمر علي الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره  القلوب! “وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ”.  بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم. إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه. قبل أن تستقر في المدارك. وقبل أن تتلقاها العقول”([vi]). ولهذا دشنت السنة عددًا من الأحاديث التي حذرت من خطورة اللسان واعتبرته “ملاك الأمر كله” وأكد صلى الله عليه وسلم على “أمسك عليك هذا”، وحذر من شهادة الزور التي عدلت الإشراك بالله عز وجل.

3- “مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ “. إن حالة التسرع في نشر الأخبار، وعدم التبين التي تصاحب الشائعات والأخبار الكاذبة يستلزمها بالإضافة إلىالتلقي غير المستبصر” و”الخوض المتدفق بُعد آخر وهو الجهل بما يُنقل ” لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ “.


([i]) ابن منظور: لسان العرب، حـ10، مرجع سابق، ص366.

([ii]) محمد بن أحمد القرطبي: الجامع لأحكام القرآن حـ6، بيروت، دار الكتب العلمية، ص5، 1996، ص135.

([iii]) القرطبي: مرجع سابق، ص136.

([iv]) فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب، حـ12، بيروت، دار الفكر، 1993، ص180.

([v]) المرجع نفسه، نفس الصفحة.

([vi]) سيد قطب: في ظلال القرآن، حـ4، مرجع سابق، ص2502.