هناك جدل عميق حول طبيعة النفس الإنسانية ومكانتها. يستكشف هذا المقال كيف سعى الفلاسفة والمتكلمون المسلمون إلى فهم جوهر الإنسان عبر مقارنة النفس الإنسانية بالنفس الحيوانية، مستخدمين في ذلك أدوات القياس والمنطق…
مناهج الفلاسفة المسلمين في التمييز بين النفس والجسد
إن الطرق العقلية التي سلكها أصحاب الرأي المميز بين النفس والجسد تميزا جوهريا وعنصريا، قد تبدو جد متشعبة ومختلة بحسب ما يتطلبه الموضوع المراد بحثه منها. فقد يستعمل القياس الشرطي المتصل والقياس الشرطي المنفصل و السبر أو التقسيم، وقياس الشمول، وكذلك قد يستعمل قياس التمثيل، وقياس الغائب على الشاهد، وقياس الأدنى والأولى…
دور القياس والنظر في طبيعة المادة والأجسام
هذه الأقيسة قد أنصبت على تحديد طبيعة المادة بصفة عامة من حيث هي ذرات وأحياز و أمكنة، ومن حيث هي طول وعرض وسطح وعمق، ومتجزئة ومركبة، وجوهر وعرض، ومن حيث هي أيضا متدافعة فيما بين عناصرها وقابلة للتغير عبر الزمن والاستهلاك والعوارض، غير ذلك مما يحدث في الأجسام من ذبول وانكسار وتمدد وانحسار…
وهذه الأساليب ستوظف بصورة متداولة سواء عند المتكلمين، وخاصة الأشاعرة، أو عند الفلاسفة من المسلمين، كالكندي والفارابي وابن سينا بصورة خاصة . إذ أن هذا الأخير، سيكون المستفيد والمفيد أكثر من الفلاسفة غيره في هذا الموضوع و “إذا كان ابن سينا قد أخذ كثيرا من آرائه النفسية عن أفلاطون وأرسطو والفارابي فليس ثمة شك في أن النتائج التي وصل إليها تختلف عن نتائجهم اختلافا بينا سواء من حيث العمق والاستقصاء، أو من حيث الاتساع والشمول، أو من حيث الغرض والغاية “[1].
ولهذا، فسيكون من الضروري عرض أفكاره في الموضوع بدقة وتفصيل إلى جانب المتكلمين وأصحاب الاتجاه الذي يقول بجوهرية النفس وروحانيتها ،نظرا للتوافق الحاصل بينه وبينهم حول هذه النتيجة ، والاختلاف المنهجي في الوصول إليها.
الجسد كدليل على جوهر النفس المفارقة
إن النفس لها ارتباط ضروري ومتلازم مع الجسد، إدراكا وتفكيرا وحركة وسكونا وإحساسا، ولهذا فإن التفكير عند البحث عن جوهرها وأحوالها، لابد وأن يمر في أغلب مناهجه عبر النظر في طبيعة المادة والأجسام بصفة عامة ، والجسم الإنساني والحيواني بصفة خاصة .
ومن هنا فسيكون طرح تفصيل للأعضاء الجسدية في الإنسان ، وخاصة ما بين منطقتي الدماغ والقلب، ضروريا في هذه الدراسة عند المفكرين المسلمين حتى يتلاءم القياس ويصبح أقرب إلى الفهم والاستنتاج الصحيح. إذ الجسد هو المظهر الرئيسي للإنسان ، وعن طريقه فقد يستدل على جنسه ونوعه. ولكن في حالة وجود خاصية تميز هذا الجسد عن سائر الأجساد، وهي ما يمكن الاصطلاح عليه بالظواهر والأحوال النفسية . إذ الجسد من حيث هو جسد، قابل للتركيب والتجزؤ، والفقد والتلاشي، والتحويل والذبول. لكن مع ذلك فقد يبقى الإنسان إنسانا، مادام يتسم بخصوصيات تميزه عما فقده من أعضاء جسده وما ذبل منها وما تعطل عن وظيفته …
من هذا المنظور الواقعي، فالقياس الأول سيكون من الإنسان إلى الإنسان، وهو القياس الذاتي. ولهذا فسنجد في شتى كتابات المفكرين النفسيين تعقبا للظواهر الجسدية ، وإحصاء لأعضاء البدن على شكل سبر وتقسيم . حتى يتوصل الباحث في النهاية إلى أن تلك الأعضاء ليست هي المحرك الرئيسي للبدن ، تأسيسا على مبدأ عقلي وبديهي، وهو أن الكائن الصم أو الجماد لا يحرك ذاته ولا غيره فهو إذن: يحتاج إلى محرك من غير جنسه ، لأن إضافة الجماد إلى الجماد لا ينتج سوى الجمود.
وهذا المعنى المستخلص من ضرورة وجود نفس متميزة عن الجسد هي التي تحركه ، قد يقرب في شكله الاستدلالي إلى موضوع الخلق وضرورة افتقاره إلى الخالق،إذ المخلوق لا يخلق ذاته بذاته . وإذا كانت أعضاء الجسد هي الموهمة بأنها سب التحريك والإدراك … فهي تدخل في جنس الجسد وأحكامه . فيبقى الاستنتاج قائما وهو: إنه لا يمكن للجسد أن يحرك ذاته إلا عن طريق محرك هو من غير جنسه ،وهو الجوهر المفارق للبدن ، كما عبر عنه المفكرون المسلمون .
النفس الحيوانية وقواها: رؤية ابن سينا لمراكز الدماغ
ولئن كان الاستدلال بأحوال الجسد الإنساني على النفس قد يسهل المأمورية في إثبات تجردها وتميزها إلا أنه قد تعترض المفكرين المسلمين من أهل التجريد مشكلة الجسد الحيواني وإرادته ، وما يظهر عليه من أحوال نفسية قد تشبه النفس الإنسانية في كثير من مظاهرها. ومن هنا فيكون اللجوء إلى التمييز بين النفس الحيوانية والنفس الإنسانية التي عبر عنها الفلاسفة خصوصا بالناطقة، إذ اعتبر هؤلاء الأولى بأنها يطبعها الجانب الحسي حتى في إدراكاتها. أما الثانية، وهي النفس الناطقة، فهي محل التجريد والتسامي على أن تكون خادمة للحس، بل هي مخدومة من طرفه .
إدراك الحيوان للمعاني غير المحسوسة وقوى النفس
فلقد ذهب ابن سينا بخصوص النفس الحيوانية إلى القول بأن ” الحيوانات ناطقها وغير ناطقها، تدرك في المحسوسات الجزئية معاني غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس ، مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس ، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس ، إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما شاهده . فعندك قوة هذا شأنها، وأيضا فعندك وعند الكثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني، بعد حكم الحاكم بها غير الحافظة للصور.
تحديد ابن سينا لمراكز قوى النفس الحيوانية في الدماغ
ولكل قوة من هذه القوى آلة جسمانية خاصة، واسم خاص. فالأولى هي المسماة بـ “الحس المشترك ” و”بنطاسيا”، وآلتها الروح المصبوب في البطن المقدم، ولاسيما في الجانب الأخير. والثالثة: الوهم ، آلتها الدماغ كله. لكن الأخص بها هو التجويف الأوسط ، وتخدمها فيه قوة رابعة لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس والمعاني المدركة بالوهم ، وتركب أيضا الصور وتفصلها عنها، وتسمى عند استعمال العقل مفكرة ، وعند استعمال الوهم متخيلة، وسلطانها في الجزء الأول من التجويف الأوسط كأنها قوة ما للوهم ، ويتوسط الوهم للعقل . والباقية من القوى هي الذاكرة وسلطانها في حيز الروح الذي في التجويف الأخير وهو آلتها.
وإنما هدي الناس إلى القضية بأن هذه هي الآلات ، أن الفساد إذا اختص بتجويف أورث الآفة فيه . ثم اعتبار الواجب في حكمة الصانع تعالى أن يقدم الأقنص للجرماني، ويؤخر الأقنص للروحاني. ويقعد المتصرف فيهما حكما واسترجاعا للمثل المنمحية عن الجانبين عند الوسط عظمت قدرته “[2].
إن هذا التحديد لقوى النفس الحيوانية، بحسب مراكز الدماغ عند ابن سينا، سيكون نتيجة الممارسة الطبيعية لديه ، وملاحظة التشريح. كما أن بعضه مأخوذ من آراء فلسفية يونانية ، مع تدقيقه في صحتها وموضوعيتها. فقد ” حفظ المقدمات الكثيرة ومارسها وكثرت تجاربه “[3]. ومن ثم صاغ هذه التقسيمات النفسية على حساب المراكز الدماغية . “كما أن تحديد مراكز في المخ خاصة بمختلف قوى النفس الحيوانية أو العاقلة ، قريب من محاولة بعض علماء النفس المعاصرين : ( أغال 1828، وسيورزهيم من الألمان ، وبروكا 1811، وشاركو 1885) من الفرنسيين . حتى إنهم اعتبروا أن نمو القوى العقلية يكون بالنسبة إلى حجم بعض تلافيف المخ.
تطور فهم وظائف الدماغ وتسامي النفس الإنسانية
ولكن أثبتت التجربة فيما بعد، أن مثل هذا التحديد ليس قاعدة عامة. وذلك بعد التجارب والاختبارات التي أجريت على مشوهي الحرب (1914- 1918)، الذين كانوا قد فقدوا جزءا من المخ ، ضاع معه نوع من الإدراكات، مثل فقدان اسمه أو اسم بلده أو عدد أولاده … ولكن اتضح فيما بعد أن هذا المشوه يسترجع هذه الإدراكات شيئا فشيئا. كأن المخ يقوم بوظيفة التفكير كوحدة كاملة متكاملة، ولا يقوم كل جزء منه بوظيفة معينة. لذلك يتجه علماء النفس المحدثون إلى التخلي عن نظرية تحديد المناطق المخية في عملية التفكير وحفظ الصور والأفكار. ولكن توجد مراكز تنتهي إليها الأعصاب الخاصة بكل حاسة. بحيث إنه إذا أصيبت هذه المناطق بعطب أو بخلل، فقد الإنسان من جراء ذلك نوعا من الإحساس. مثلا يقع مركز الإبصار في الجزء الخلفي من النصفين الكرويين، ومركز السمع في متوسط الجزء الأسفل الجنبي من النصفين الكرويين. والدليل على أن هذه الأماكن هي حقيقة مراكز للحس، أنه إذا أتلف أحدها إثر حادث أو مرض ، أتلفت الحاسة المتضامنة مع هذا المركز، وبطل عملها”[4].
وسواء كانت هذه التقسيمات الحديثة أو التي قبلها صحيحة في نسبة الأعضاء إلى مراكزها الدماغية، فإن جوهر البحث النفسي في الفكر الإسلامي يبقى دائما مرتكزا على إعطاء النفس تساميا على هذه الظواهر الجسدية، والتي ليست سوى دليل على القوى النفسية بالقياس. إذ التركيز على طبيعة الجسد الحيواني، وتحديد خصوصياته الإدراكية والحركية، قد يتم من أجل التمييز بينها وبين إدراك الإنسان. فالقوى الحيوانية كما يقول الغزالي: ” تنقسم إلى: محركة ومدركة. والمحركة إما أن تكون محركة على أنها باعثة على الفعل ، أو على أنها فاعلة …”[5].
بعد هذه التقسيمات للنفس الحيوانية وظواهرها الجسدية ستقاس عليها القوى الإنسانية من جهة التمييز. إذ “فالحركات الاختيارية التي للحيوان هي حركات مكانية فعلية إلى جهات اختيارية عن علم وشعور طلب ، بخلاف حركات النبات ، فإنها لما كانت غير اختيارية توجهت إلى جهات مختلفة من غير علم وشعور وطلب للخير. وحركاتها تكون حركات النمو والذبول . والحركة الاختيارية للإنسان حركات فكرية وحركات قولية وحركات فعلية . وإنما جهات اختلافها بخلاف حركات الحيوان ، فإنها عدمت قسمين منها، وهي الفكرية و القولية “[6].
تنزيل PDF