لا تنقصهم الإمكانات المادية لإتمام نصف الدين، ولا تعوقهم مشاكل المهر والشبكة التي يصر عليها الأهل، يتمتعون بالصحة والقبول، مشاكلهم ذاتية بحتة، يقاتلون من أجل حريتهم الفردية، يعتبرون الزوجة والأبناء “سجنا” هم في غنى عنه.. إنهم الباحثون عن الحرية الهاربون من القفص الذهبي.
التقينا بمجموعة من الشباب لمعرفة السر وراء عزوفهم عن الزواج، من داخل وكانت آراؤهم أغرب من الخيال، في معرفة أسباب وجود هذه الفئة التي تسمى الهاربون من القفص الذهبي.
الزواج قيد بمعصمي
“نعم للعزوبية لا للزواج” هكذا بدأ نائل (34 عاما) حديثه رافعا هذا الشعار و قائلا: “لدي كافة متطلبات الزواج ولكني مصمم على حياة العزوبية وأشعر براحة في ظلالها؛ فالزواج مسئولية وقيود ستحيط بمعصمي، ولن أعرف ساعتها الفكاك”.
ويعترف أنه لا يشعر بأية غيرة حين يرى أصدقاءه بصحبة زوجاتهم وأطفالهم واستدرك: “أغار لو أنني أريد الزواج ولا أستطيعه وهذا غير وارد في حالتي”.
ويروي سامي (35 عاما) قصته مع العزوبية قائلا: “العزوبية حرية إلى أقصى حد ولا أطيق فكرة الارتباط الأسري”. وسامي الذي يوضح لنا أنه يملك شقة ولا في الخيال على حد وصفه إلى جانب وظيفته المرموقة -ومن جهتنا نضيف أنه يملك من الوسامة ما يؤهله لحمل لقب: “فارس أحلام”- يصر على أن عزوفه عن الزواج أمر نهائي لا رجعة فيه وأنه غير مستعد لـ “وجع الراس”.
هو عاشق لمهنته أكثر من عشقه لنفسه حتى إن أصحابه يداعبونه بأنه متزوج بها فكيف له أن يتزوج من أخرى ويسرد “ن.ر” -الذي رفض الكشف عن اسمه وطبيعة مهنته- حكايته فيقول: “أعزف عن الزواج لأنني أدمنت عملي ولا أستطيع إشراكه بشيء أو أن ألتفت إلى ما يعطلني عنه فكيف بزوجة وأولاد ومسئوليات لا أول لها ولا آخر”. ويتابع: “أن أظلم شخصا واحدا وهو أنا أفضل بكثير من أن أظلم آخرين معي”.
جميلة وذكية لأبعد حد
ولأنه يضع مواصفات أشبه ما تكون بالتعجيز في شريكة حياته فإن المهندس عمرو (36 عاما) يشعر بالسرور والسعادة الغامرة لحالته الاجتماعية التي تؤكد أنه أعزب حتى اللحظة. وبشيء من التفصيل يحدثنا: “كل رجل يتمنى الزواج والاستقرار حتى أولئك الذين يدعون عشقهم للحرية وكراهيتهم للمسئولية وعن نفسي أنا عازف عن الزواج لأنني أريد فتاة جميلة جدا وذكية لأبعد حد ومثقفة وذات خلق ودين وتتوافق معي فكريا واجتماعيا؛ بحثت كثيرا ولم أجد طلبي سأحاول البحث وإن وجدت فتاة أحلامي فسأودع عالم الزوجية وإن لم أجدها فسأبقى هكذا رجلا أعزب”. ويضحك مستدركا: “أو رجل عانس”.
“متى سأفرح بك يا ولدي” سؤال ما أن يُلقي به الآباء والأمهات في وجه أبنائهم العزاب حتى يصبح الصمت سيد الموقف وتنتهي الأجوبة وتبدأ رحلة المعاناة والأرق لدى الأسرة، ولماذا؟ واستفهاماتها تحيط بهم من كل جانب؟.
“أم عمر ” وكأنها كانت تنتظر من يسألها عن سر عزوبية ولدها حتى تنفض ما بداخلها من ثقل الهموم، تنهدت عميقا وبدأت تروي حكايتها: “آه.. ما أشد ألمي، هو ابني الوحيد بين 5 بنات تزوجن جميعا وفي الوقت الذي تحلم فيه الأم بتزويج بناتها صار حلمي وأمنية عمري أن أفرح بولدي وأزوجه”.
ويصطدم حلم الأم بتصميم ابنها عمر الذي تجاوز العقد الثالث من عمره وتتابع: “ليته يبوح بسره وكما يقولون لو عُرف السبب لبطل العجب، فقط يرفع شعار: “لا أريد الزواج” مع أن كافة الأمور مسهلة وميسرة ولا تعيقه المادة ولا الوظيفة فماذا أفعل؟”. وتختم بزفرة حارة: “ليتني أرتاح لقد تعبت”.
متى يا ولدي؟
ويشكو الأب سالم من عزوف ابنه عن الزواج قائلا: “لدي 3 من الأبناء تزوج الأكبر سالم وتزوج الأصغر هاني بينما يرفض أحمد فكرة الزواج مطلقا”.
وبالطبع فإن لدى أحمد ( 35 عاما) ما يؤهله للزواج بأريحية كاملة فبيته كما يروي والده مجهز ومؤثث ويشغل وظيفة مرموقة و… و… .
وعما يتركه هذا العازب في نفس والده وأسرته جاء صوت الوالد حزينا: “يوما بعد يوم يزداد القلق ويتعاظم الهم. الجميع يسألني متى سيتزوج ابنك وأنا لا أملك إجابة”. ويستدرك معترفا: “لم أكن أعرف أن الأولاد قد يشكلون عبئا أكثر من البنات.. في أوقات كثيرة أتمنى لو أن أحمد فتاة ربما ساعتها لن أفكر كثيرا”.
وتصرح أم خالد أن بقاء ابنها الأكبر “خالد” دون زواج يؤرقها ويسبب لها التعب الشديد وتقول: “أنظر إليه وقد تزوج جميع إخوانه وهم أصغر منه فيصيبني الألم وأشعر بالإحباط. عمره تجاوز الثلاثين أخشى عليه الوحدة. سيقترب من العقد الرابع ولا زوجة لديه ولا أطفال من سيؤنس وحدته غدا ومن سيرعاه”.
قال العزاب ما لديهم واعترف الأهل بما يقلقهم ومع هذا وذاك ظلت “لماذا” تلاحقنا فما كان منا إلا أن توجهنا لأهل العلم والاختصاص نبسط على طاولتهم الداء لعلنا نعرف الدواء.
نرجسية الذكور
الكتور سمير الأخصائي الاجتماعي بدأ حديثه معترفا بأنه لو تم الحديث عن ظاهرة عزوبية الرجال فإن أصابع الاتهام ستوجه مباشرة إلى العامل الاقتصادي، وأضاف: “غير أننا أمام حالة جديدة وفريدة وهي رجال عازفون باختيارهم عن الارتباط الأسري برغم قدرتهم على توفير متطلبات هذا الارتباط”.
وعن سر هذه العزوبية يوضح زقوت قائلا: “بعضهم يشعر بأن الزواج يمثل حالة من الارتباط الشديد وأن متطلباته كثيرة تلزم الرجال بالكثير من المسئوليات؛ لذلك فإنهم يفضلون التخلي عن كل ذلك والعيش بحرية كما يدعون”. ويضيف:” هناك حالة في علم النفس تعرف باسم الشخصية النرجسية وهذه تتواجد خصوصا عند الذكور حيث يعشق أحدهم ذاته إلى درجة أنه لا يرغب في إشراك شخص آخر في حياته.
ويرى سمير أن هناك أسبابا اجتماعية تتمثل في غياب دور الأسرة في توعية أبنائها بمعنى الزواج والإعداد لبناء الأسرة مشددا على أن الانسياق وراء ما يبثه الإعلام من مفاهيم مغلوطة عن الأسرة والزواج ومتطلباته هو من أهم العوامل المساهمة في عزوف الشباب عن الزواج.
كما أرجع أسباب العزوف الاختياري إلى عوامل نفسية وقال: “مرور الشاب بهزات وتجارب عاطفية وعدم اقترانه بمن يريد تجعله يختار حياة العزوبية”.
وطالب الشباب بأن يبتعدوا عن الأخيلة التي ساهمت في تشكيلها مؤثرات تقنية الصورة في مجالات الفن والسينما حول الزواج مؤكدا أن عزوبية الرجال تعمل على تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية وتؤدي إلى انحراف المجتمع وسيره في مسار غير طبيعي بعيدا عن المودة والرحمة.
الباءة ولكن!
في الحديث الصحيح أن النبي -ﷺ- يقول: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج”.. أمامنا ثلة تستطيع ومع ذلك ترفض الزواج فكيف ينظر الشرع إلى هؤلاء؟.
الدكتور ماهر أستاذ الفقه المقارن يوضح قائلا: “الزواج يأخذ أكثر من حكم شرعي فهو فرض للرجل الذي تيقن أنه إن لم يتزوج فسيقع في الحرام والزواج حرام لمن تيقن أنه إن تزوج فسيظلم زوجته وسيمنعها من حقوقها المشروعة وهو مكروه إن شك الرجل مجرد شك بأنه سيظلم زوجته، بينما الزواج مباح أي سنة لغالب البشر”.
ويتساءل ماهر: “لماذا كان الزواج سنة لغالب البشر ولم يكن فرضا”. ويجيب: “كونه سنة لأنه يمس أخص خصوصية للكائن البشري ويمس مشاعره الخاصة واحتياجاته التي لا يقدرها إلا هو”.
وأشار ماهر أنه لا يلزم للزواج فقط الباءة المتمثلة بالإمكانيات المادية بل الإسلام يراعي الأمور النفسية. وتابع: “ربما تعاني هذه الفئة من مشاكل صحية لا تريد الإفصاح عنها أو مشاكل عاطفية.. المهم أن لكل واحد سببه الخاص الذي قد يختلف عن الآخر”.
وشدد على أن هؤلاء العزاب أحرار في اختيارهم لحياتهم بشرط استقامتهم واعتدالهم وإلا دخلوا في خانة “الآثمين”.
علا عطا الله