(وعاشروهن بالمعروف): هذه الآية الكريمة ترشد الأزواج إلى أسس إقامة العشرة بينهم وبين زوجاتهم وتحقق استقرار الأسرة وبناء الحياة الزوجية على المودة والمؤانسة والرحمة.
ولفظة (عاشروهن) من العشرة وهي في اللغة تدل على مخالطة بين أناس، هذه المخالطة تعني الكثرة، وفي الكثرة قوة، وهذه المخالطة تؤدي إلى التجاذب والتصافي والمودة والمحبة، وهذه حال الأصدقاء والأزواج، بالمخالطة تقاربت المشاعر واختلطت الأحاسيس، مما يجعل كل طرف يحن للآخر إذا غاب عنه، ويشتاق إليه إذا بعد عنه، وبهذه المعاشرة يحيا الناس في أسرهم ومع أهاليهم وفي بيوتهم ومع أزواجهم في مودة ومحبة، ويتحقق للزوجين على وجه الخصوص ما شرع الله الزواج من أجله، وهو السكن والمودة والرحمة.
ولكن هذه المخالطة بكل ما فيها من إحساس بالأنس والاطمئنان والقوة -التي هي من مقتضيات الجماعة- قد تؤدي إلى تعارض المصالح وتنافر الطباع، مما يؤدي إلى التعادي والتناكر. قد رأينا قول زهير: لعمرك والخطوب مغيرات … وفي طول المعاشرة التقالي
ولذلك جاءت الآيات والأحاديث وأقوال السلف ترغب في أن تكون المعاشرة بالمعروف؛ لأنها إذا كانت بغير المعروف كانت بلاء شديدًا يجلب الأمراض والهموم، ويؤدي إلى تشريد الأبناء والقضاء على كل أسباب السعادة، كما ترى في البيوت التي يدب فيها دبيب الشقاق والخلاف وتنافر الطباع.
الآيات الواردة في عشرة الرجل مع أهله
ليس فيها ما يتحدث عن عشرة الرجل مع زوجه إلا ما جاء من قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19) وما عدا ذلك حديث عن عشيرة الرجل الذين هم أهله، وهذا ما تراه في قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214)، وفي قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 24) إلى آخر الآية.
وقد وردت أيضًا بمعنى الصاحب الملازم لصاحبه، وهذا قول الله تعالى في المشركين وعبادتهم لأصنامهم: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج: 13).
لكنك قد تجد الحديث عن حسن العشرة حين تقرأ الآيات التي تتحدث عن الطلاق فتقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229). وتقول: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 236، 237). ويقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228).
وهكذا نجد هذا التوجيه القرآني في الآيات التي تتحدث عن حضانة الأم لطفلها، وما لها من حقوق في ذلك، وعن المطلقات وما لهن من متعة بالمعروف، وهذه توجيهات تأتي في حالة الطلاق، وأن الواجب أن يتم هذا دون ضرر لأحد الطرفين؛ لتبقى المودة بين الناس وإن انتهت بهذا الطلاق، ونحن كما تعلمون نتناول موضوع العشرة التي تعني أسرة من زوج وزوجة، يعيشان في جو من السعادة والأمان.
ولا يتم ذلك إلا إذا قامت الحياة بينهما على المعروف، بأن يؤدي كل واحد منهما لصاحبه ما يُدْخِل السرور على قلبه، ولا يكون هذا إلا بأن يعرف كل منهما ما عليه من حقوق للآخر، وما بينهما من حقوق مشتركة، فتؤدى هذه الحقوق في إطار من المحبة، وحرص كل منهما أن يؤديها لصاحبه على وجه التمام والكمال.
بداية العشرة الزوجية
وقبل أن نعرف هذه الحقوق علينا أن نتوقف قليلًا لنرى بداية (وعاشروهن بالمعروف) أي بداية العشرة الزوجية وكيف تتم، إنها تتم بعقد الزواج، وبعد أن تم اقتناع كل طرف بصاحبه، تأتي الخطوة التالية وهي عقد النكاح، وعقد النكاح لا بد أن يكون قائمًا على رضا طرفي العقد.
وهناك عبارات تعرب عن هذا الرضا يسميها الفقهاء بالإيجاب والقبول، بأن يقول ولي الفتاة في حضور شاهدي عدل: زوجتك ابنتي، ويقول الخاطب: قبلت منك زواجها وبهذا يتم العقد، ولا يصلح أن يكون العقد لفترة زمنية محدودة، كما ترى في زواج المتعة وزواج التحليل؛ لأن الغاية من الزواج ليست مجرد الاستمتاع.
وإنما مقصد الزواج استقرار الأسرة وإنجاب الأولاد والمحافظة على النسل، فمن تزوج لفترة من الزمان فزواجه باطل، ومن تزوج امرأة بانت من زوجها ليحللها له فزواجه باطل، فإذا ما تم الزواج وأصبح كل من الزوجين في بيت الزوجية، فلا بد أن يؤدي كل طرف للآخر ما عليه من حقوق، وجماع هذه الحقوق قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228).
حق المرأة في الصداق (المهر)
ومن المعروف أن أول هذه الحقوق على الزوج أن يدفع الزوج مهرًا، فقد سمى الله المهر صداقًا، ولعل هذا لأن المهر ليس ثمنًا للمرأة، إنما هو دليل على الرغبة الصادقة في الزواج ودليل تكريم لها، ولذلك رغب الإسلام في عدم المغالاة فيه حتى لا يكون عقبة في طريق الناس، ليحيوا حياة العفة والطهر بزواج سعيد لا مشقة فيه.
ومن المعروف أن كثيرًا من المشكلات الاجتماعية في عالمنا الإسلامي سببها مغالاة الكثير من الناس في المهور، ومع أن المهر حق واجب على الزوج إلا أن الله سماه نحلة -أي: عطية وهبة وهدية- فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وجعل من حق المرأة أن تتنازل عن جزء منه لزوجها فقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4).
وما دام حقًّا لها فهو دين تطالب بها، ومن حقها ألا تنتقل إلى بيت الزوج حتى يؤدي لها ما تم الاتفاق عليه في مقدم الصداق، والمؤخر منه يبقى في ذمة الزوج تستوفيه في أقرب الأجلين الطلاق أو موت الزوج، فإن طلقها قبل الدخول والخلوة الصحيحة وجب لها نصف المهر إن كان قد سمى مهرًا، وإلا وجبت لها متعة بقدر وسع الزوج ويساره أو عدم يساره.
اقرءوا في هذا قول الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 236، 237).
حق النفقة
فإذا ما ساق لها مهرها وعقد عليها ودخل بها وجبت عليه النفقة لها، مِن مأكل ومشرب وملبس ومسكن وما إلى ذلك، ما ييسر للناس حياة كريمة بقدر طاقة الزوج. قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: 7)
التعدد والعدل بين الزوجات
كما يجب عليه أن يعدل في النفقة والمبيت إن كانت له زوجة أو زوجات أخريات. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء: 3). ولا يكلف بما لا يقدر عليه من العدل في الميل القلبي لواحدة منهن. قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 129).
وبهذا نرد على من فهم أن الإسلام لا يجيز التعدد؛ لأنه اشترط لذلك العدل، ولكنه قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فنقول لهم: هذا في الميل القلبي، والمطالب به الرجل هو العدل في المبيت والنفقة، وما إلى ذلك مما هو في مقدور كل إنسان، فإذا ما أدى ما افترض الله عليه وجبت عليها طاعته في غير معصية له، فلا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تسافر دون رضاه، ولا تتصرف في ماله إلا بموافقة منه، ولا تدخِل في بيته من لا يرغب فيه.
مفهوم قوامة الرجل في ضوء الآية (وعاشروهن بالمعروف)
ولا يعني هذا تسلطًا وتجبرًا وإذلالًا للمرأة وإنقاصًا من كرامتها ومنزلتها ومكانتها، إنما هو نابع من فلسفة الإسلام في القيادة: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) وربما كان هؤلاء الثلاثة في سفر لأيام معدودات، لكن أمرهم لا ينتظم إلا بأن يكون لهم أمير يأتمرون بأمره، فما بالنا وهذه رفقة الحياة بكل ما فيها، ولَكَم تحتاج إلى من يتولى أمرها، فلمن تكون الإمارة في مملكة البيت؟
لعل النظر الصحيح يقول: الرجل هو الأجدر والأحق بذلك. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فالتعبير القرآني: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ليس فيه أن الرجال أفضل من النساء، وإنما يشير إلى أن الرجل أفضل من المرأة في جوانب، وهي أفضل منه في جوانب أخرى، فليس في قدرتها إلا بمشقة شديدة أن تقوم بما يقوم به الرجال من أعمال تحتاج إلى جهد ومجالدة وتعب، وليس في قدرة الرجل أن يقوم بما تقوم به المرأة من حمل وإرضاع وسهر وجهد في رعاية الأبناء، وما إلى ذلك مما لا يتحمله الرجال.
فهذه القوامة إذًا مسؤولية يقوم بها الرجل بشروطها، مِن العدل والحكمة والمشورة والمودة، وفي النساء بحمد الله كثرة عظيمة لهن حسن الرأي وصدق المشورة، مما جعل أزواجهن يأخذون برأيهن في كل أمر، والمسلمون لا ينسون مشورة أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها في الحديبية، حين أشارت على رسول الله ﷺ بما أشارت به، فكان في رأيها الخير للمسلمين.
الحقوق المشتركة بين الزوجين
وإذا كانت هذه حقوق كل من الزوجين على الآخر، فإننا لا ننسى أن هناك حقوقًا يشترك فيها الزوجان، ويؤديها كل واحد منهما للآخر، ومن هذه: الحقوق حق الاستمتاع، وثبوت النسب، وحرمة المصاهرة، وحسن المعاشرة، والتوارث.
حق الاستمتاع
لكل من الزوجين أن يستمتع بالآخر، وهذا أيضًا من حسن العشرة، ولا يقال بأن هذا حق للزوجة فحسب، وعلى زوجها أن يؤدي لها هذا الحق، بل هو حق عليها لزوجها كذلك.
وهنا نجد كلامًا للأئمة والباحثين في تحديد المدة التي يحق للزوجة التي تطالب فيها بهذا الحق، وهل هي ما زاد على أربعة أشهر أو في كل طهر أو في ليلة من أربع ليالٍ؟ وأولى الآراء أن ذلك لا ضابط له إلا الابتعاد عن قصد الضرر، وتعمد الحرمان، وعلى الزوج أن يجتهد في إعفاف زوجته بقدر طاقته، كما يسوقون كثيرًا من الأحاديث التي توجب على الزوجة أن تستجيب لزوجها إذا ما دعاها لفراشه على أية حال كانت، وأنها إن أبت لعنتها الملائكة حتى تصبح، ما دام ليس لديها مانع شرعي من حيض أو نفاس أو صيام فرض، أو ما إلى ذلك، وسواء كانت مشغولة بعمل أم لا في ليل أو نهار.
ولكن ثقة التوجيهات النبوية والآيات القرآنية في هذا الأمر، وأن الزواج سكن ومودة ورحمة وعلاقة أبدية في الدنيا والآخرة، ترشدنا إلى ما يجب على الزوج إذا ما رغب في ذلك من التلطف والمداعبة؛ حتى لا يكون لقاء الرجل بامرأته وكأنه حالة اغتصاب وقهر.
وقد قال بذلك أعداء الإسلام في مؤتمراتهم، وطالبوا بالتحرر من قيد الزواج لتكون العلاقة بين الذكر والأنثى بعيدة عن فراش الزوجية، ومن هنا كان البحث في هذه المؤتمرات عن حكم الإجهاض لو حملت المرأة من هذه العلاقة الفاسدة، التي لا يترتب عليها أي حق لطرف منهما على الآخر، وتؤدي إلى خراب الدنيا وفساد أجيالها وهدم بيوتها.
أما في الإسلام فيستطيع كل من الزوجين أن يصل إلى ما يريد من صاحبه بالوسائل التي رسمها ديننا العظيم؛ ليكون لقاء الزوجين متعة وسعادة وأنسًا وودًا وحبًّا، تتوثق به القلوب وتنمو العواطف، وتحل به المشكلات، وينشأ في ظله الأبناء، ويبقى حنين كل منهما للآخر مشبوبًا، لا يؤدي كل منهما لصاحبه ما يؤديه على أنه حق شرعي يريد أن يتخلص منه، فيسلم جسده للآخر لقضاء وطره.
وإنما هناك تعانق الأرواح وتلاقي القلوب، ولحظات الرضا التي تذوب فيها الهموم، وتشفى بها الجروح، وتستقيم بها الحياة، ويشرق دين الإسلام على أرض الله نورًا يشع في كل مكان وفي كل زمان، ليقول للدنيا بأن هذا هو المنهج الذي هو واحة الإنسانية، وإلا لفح الإنسانية هجير صحراء مجدبة يؤدي بهم إلى الهلاك.
حق ثبوت النسب
وإذا كان هذا هو الحق الأول المشترك بين الزوجين وهو حق الاستمتاع، فهناك حق ثانٍ وهو ثبوت النسب، إذا ما حملت الزوجة ووضعت حملها نسب هذا المولود لأبيه، فيقال: هذا ولد فلان، كما يقال بأن هذه أُمه، وقد قال رسول الله ﷺ: ((الولد للفراش وللعاهر الحَجَر)) أي: لمن يزنى له الحجر وهو حد الرجم.
ومعناه أن النسب إنما يثبت بعقد النكاح لا بمجرد اتصال رجل بامرأة، فولد الزنا لا نسب له، والزاني والزانية إن كانا محصنين لهما الحجر، أي: الرجم بالحجارة، والمسلمون يحفظون المولود من الزنا، ويقومون بتربيته، ولا يحاسب نفسيًّا ولا اجتماعيًّا، ولا في الدنيا ولا في الآخرة عما كان قد حدث في الحرام، فأدى إلى وجوده في هذه الدنيا، ومَن عيّره بذلك فهو قاذف يقام عليه حد القذف.
حرمة المصاهرة
أيضًا يثبت بعقد النكاح حق ثالث وهو حرمة المصاهرة، وهذه الحرمة المترتبة على عقد الزواج أو على الدخول بعقد الزواج. والمثال الأول: حرمة أم الزوجة بمجرد العقد على الزوجة. ومثال الثاني: حرمة بنت الزوجة بالدخول بالزوجة، فالقاعدة أن العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات، كما قال تعالى في تحريم من حرم الزواج بهن: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23)
ومن ذلك تحريم الزواج من زوجة الابن، وتحريم الجمع بين المرأة وأختها، كما قال تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 23). وقد حرم رسول الله ﷺ الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
حق التوارث
أما الحق الرابع فهو حق التوارث، فكل من الزوجين يرث صاحبه وفق قاعدة الإسلام في الميراث، والتي تقوم على أن الغُرْم بالغُنم، وما دام الإسلام قد حمّل الرجال مسئولية الإنفاق، فإنه بعدله أعطاهم في الميراث غالبًا ضعف ما أعطى النساء. يقول تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النساء: 24).
حسن المعاشرة (وعاشروهن بالمعروف)
يبقى لنا الحق الخامس وهو حسن المعاشرة، حسن المعاشرة يعني حسن الخلق مع الوثاق واحتمال الأذى منهن. قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ومن المعلوم أن العقد الذي تم بين الزوج وزوجه ميثاق غليظ، كما قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: 21).
وقال في المرأة حين أوصى بالإحسان إلى من أوصى بهن في قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (النساء: 36) قالوا: أن الصاحب بالجنب هي الزوجة.
ولعلنا نذكر أن آخر ما أوصى به رسول الله ﷺ في مرضه الأخير كان يقول: (((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عوانٍ في أيديكم -عوانٍ يعني أسرى- أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) والأحاديث في هذا كثيرة.
وليس حسن الخلق مع الزوجة أن تكف الأذى عنها فقط، بل عليك أن تحتمل الأذى منها اقتداء برسول الله ﷺ فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يومًا إلى الليل، وراجعت امرأة عمر رضي الله عنها عمر في الكلام فقال: “أتراجعينني! فقالت: إن أزواج رسول الله ﷺ يراجعنه وهو خير منك، فقال عمر: خابت حفصة وخسرت إن راجعته، ثم قال لحفصة: لا تغتري بابنة ابن أبي قحافة -يقصد أبا بكر رضي الله عنه فإنها حِب رسول الله ﷺ وخوّفها من المراجعة”.
أخلاق النبي ﷺ في معاملة نسائه
وهذه أيضًا أخلاق رسول الله ﷺ في معاملته لنسائه؛ لتكون نبراسًا يهتدي به أهل الإسلام، فقد كان عليه الصلاة والسلام في معاملته لأهل بيته على أحسن حال امتثالا للأمر القرآني (وعاشروهن بالمعروف)، وهو القائل: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا)).
وسئلت السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- عما كان يصنع رسول الله ﷺ في بيته فقالت: ((كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)).
وعن عروة قال: ((قلت لعائشة: ما كان رسول الله ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم)).
وهذا أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- يقول: ((خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، والله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا، وكانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيد رسول الله ﷺ فتنطلق به حيث شاءت)) مما يدل على تواضعه وهو القائل: ((ما تواضع أحد لله إلا رفعه)).
إذا كانت هذه هي معاملة رسول الله ﷺ لخادمه وللإماء، فما بالكم بمعاملة رسول الله ﷺ لزوجاته وأهل بيته؟
إننا إذا نظرنا في كتب السيرة والحديث التي تحدثت عن زوجات النبي ﷺ نجد أن أمهات المؤمنين كن على درجة عالية من القرب من الله عز وجل، فكل واحدة منهن صوامة قوامة، ومن هنا كن جديرات بأن يكن أمهات للمؤمنين، وزوجات لرسول الله ﷺ.
ملاطفة النبي لزوجاته
وهذه صور جميلة من الملاطفة والدلال وحسن العشرة، نتعلمها من رسول الله ﷺ، انظروا وهو ينادي السيدة عائشة بأحب الأسماء إليها، فيصغر اسمها أو يرخمه من باب المداعبة فيقول: ((يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام)). وكان يقول لها: ((يا حميراء))، والحميراء تصغير حمراء يراد بها البيضاء. وقال الذهبي: “الحمراء في لسان أهل الحجاز: البيضاء بحمرة، وهذا نادر فيهم”. ونقرأ في صحيح مسلم من حديث عائشة في الصيام قالت: ((كان رسول الله ﷺ يُقبل إحدى نسائه وهو صائم، ثم تضحك رضي الله تعالى عنها)).
ومن هذه الصور العظيمة الجميلة التي تقرب مفهوم (وعاشروهن بالمعروف) بين الزوجين: ما نقرأه في قول الرسول ﷺ حين يقول: ((وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك)) اللقمة ترفعها بيدك إلى فم امرأتك هي لك صدقة، وانظروا كم تصنع هذه اللقمة في كسب القلوب، وليست المسألة مجرد كسب القلوب فقط، إنما هي صدقة يؤجر عليها الرجل، وهذا أمر يسير وسهل لمن أراد أن يحيا حياة إسلامية عظيمة جميلة.
أيضًا هذا رسول الله ﷺ يقدر مشاعر الزوجة، ويظهر لها ما يحمله لها من حب، فقد سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ: ((كيف حبُّك لي؟ فقال عليه السلام: كعقدة الحبل، ثم سألته: كيف العقدة؟ فقال: على حالها)) أي: لم تتغير. والنبي عليه الصلاة والسلام يصف لعائشة رضي الله عنها حبه لها كعقلة الحبل، أي: أن الحب ما زال مربوطًا في قلبه فانظروا إلى كمْ كانت السيدة عائشة سعيدة مسرورة منشرحة الصدر بهذا القول من رسول الله ﷺ وقد قال لها بأنها فضلت على النساء كتفضيل الثريد على باقي الطعام، فإظهار مشاعر المودة والمحبة للزوجة من حسن العشرة التي يجب علي الأزواج أن يدركوها وأن يَعلموها.
ومن الأشياء التي من حسن العشرة أن يتزين وأن يتجمل وأن يتطيب الرجل لزوجته. سئلت السيدة عائشة: بأي شيء كان يبدأ النبي ﷺ إذا دخل بيته؟ قالت: ((بالسواك)) وكان يفعل ذلك ليستقبل زوجاته بالتقبيل وما إلى ذلك. وعند البخاري أن عائشة قالت: ((كنت أطيب النبي ﷺ بأطيب ما أجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته)).
وانظروا إلى ما رواه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنت أُرَجِّل رأس رسول الله ﷺ وأنا حائض)). وانظروا إلى رسول الله ﷺ في سنه وجلالة قدره وعظيم منزلته، وهو يجعل السيدة عائشة تسرح له شعر رأسه، ومع أنها تكون حائضًا.
وهي تشير بذلك إلى عظمة الإسلام؛ لأن اليهود وقد كانوا يساكنون المسلمين في المدينة، كانت المرأة إذا حاضت لا يأكل معها الرجل ولا يبيت معها في فراشها، فجاء الإسلام بعكس ذلك، وفعل رسول الله ﷺ ما نرى، فهل منا من يجعل زوجته تسرح له شعره، وماذا في هذا العمل من تقارب الأفئدة والأرواح، وما إلى ذلك، ولذلك كان ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يقول: “إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستعطف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها علي”. قال ابن عباس: “إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
ويذكر لنا التاريخ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين: “أن رجلًا دخل عليه أشعث أغبر، ومع الرجل امرأته وهي تقول: “لا أنا ولا هذا؛ لأنها تريده، تنفر من زوجها على هذا النحو … انظروا إلى ما فعل عمر -رضي الله تعالى عنه- أرسل الزوج فاغتسل، وأخذ من شعر رأسه وقلم أظافره، فلما حضر أمره أن يتقدم مِن زوجته فنفرت منه؛ لأنها لم تعرفه ثم عرفته، فقبلت به ورجعت عن دعواها، فقال عمر: هكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن، كما تحبون أن يتزينَّ لكم.
قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: “أتيت محمد بن الحنفية، فخرج إليّ في ملحفة حمراء، ولحيته تقطر من الغالية -والغالية هي خليط من الطيب، فالخليط أفضل الطيب- يقول يحيى: فقلت له: ما هذا؟ قال محمد: إن هذه الملحفة ألقتها عليّ امرأتي، ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتيه منهن”. فالمرأة تريد من الرجل أن يتجمل وأن يتزين، فهذا من العشرة التي أمر الله بها حين قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
ولعلكم تذكرون من أخلاق النبيﷺ أنه كان دائم البِشر، جميل العشرة، يداعب أهله ويتلطف بهم ويضاحك نساءه، وتذكرون كان يسابق السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- في البرية في بعض سفراته؛ يتودد إليها بذلك. تقول: ((سابقني رسول الله فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك)). وكم في ذلك من مداعبة لطيفة.
وأنتم تذكرون أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤنسهم بذلك ﷺ، فجعل النبي ﷺ معيار خيرية الرجال في حسن عشرة الزوجات، فقال: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله))
ومن صور وفائه مع زوجاته أنه ﷺ لما نزلت عليه آية التخيير: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب: 28) بدأ بعائشة وقال لها: ((إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك)) خشية منه ﷺ أن تختار زينة الحياة الدنيا لصغر سنها، فتخسر الخير الكثير في الدنيا والآخرة، لكنها -رضي الله تعالى عنها- كانت أحرص على خير نفسها من أبويها، فقالت للنبي ﷺ: “أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة”.
ثم استقرأ عليه الصلاة والسلام الحُجَر، أي: حجرات أمهات المؤمنين، يخبر نساءه ويقول لهن: ((إن عائشة رضي الله عنها قالت كذا وكذا فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة)) رضي الله عنهن كلهن.
ولنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21). فأفعاله وأقواله وتقريراته وصفاته تشريع لأمته وهدي كريم، يجب على أهل الإسلام أن يلتزموا به في حياتهم؛ لتطيب حياتهم وعشرتهم لزوجاتهم، ولتحيى بيوتهم في جو من الأمان والاستقرار (وعاشروهن بالمعروف).