شعور الهزيمة غير مريح، وطعمه غير مستساغ، وما من أحد أصابته هزيمة أو خسارة ما في جولة من جولات حياته، أو منافسة من منافساته مع الآخرين، إلا وشعر بمرارتها بدرجة و أخرى، وربما زادته تلك المرارة ألماً وحزناً بحكم الفطرة البشرية، وربما أيضاً تبعتها كآبة وشعور بالإحباط لحين من الدهر قد يطول أو يقصر بحسب قوة صبر وتحمل الشخص، وفهمه لطبيعة الأمور وحقائق الحياة.

لكن بشكل عام لا أحد منا -بحكم فطرته البشرية- يحب الهزيمة في أي منافسة حياتية، أكانت في المؤسسات التعليمية مثلاً أم مؤسسات وبيئات العمل، أم غيرها من مجالات التنافس في المجتمع.. كما أنه لا أحد يهزم نفسه بنفسه أو يسعى للهزيمة، أو هكذا نفترض أن يكون أحدنا، لأن السعي للهزيمة خلاف للفطرة، لأن الأصل أن تنافس بقوة وشرف، وتبذل أقصى ما لديك لتنتصر وتنجز، وتحقق أهدافك وتنجح، وهذا أمر له ثقافته وفلسفته.

الهزيمة أو الخسارة لا تقع هكذا صدفة، إذ لا صدفة في هذه الحياة، وإنما كل شيء بقدر. الهزيمة هي نتيجة عمل ما، سواء بما كسبت يد المهزوم، أو بفعل فاعلٍ، رسم وخطط لتلك الهزيمة بشكل وآخر. وحديثي اليوم أساساً حول الهزيمة التي يكون سببها الشخص نفسه، أو بما كسبت يداه، وليس بسبب آخرين.

إذاً، الهزيمة لا تقع إلا حين تخالف القوانين الحياتية. هزيمتك في منافسة رياضية على سبيل المثال، إنما بسبب ارتكابك أخطاء معينة أثناء المنافسة، أو لأنك قبل المنافسة لم تعمل وفق قواعد الإعداد الجيد الصارم الحازم أثناء التدريب، فتكون النتيجة هزيمة مؤكدة في الميدان. هكذا وبكل بساطة، دون كثير شروحات وتفصيلات.

الإخفاق في إنجاز مهمة ما يطلبها مسؤولك في العمل، يمكن اعتباره هزيمة إدارية، وغالباً تكون عواقبها غير حميدة بالنسبة لك. هذا الإخفاق على الأرجح تكون أنت السبب في وقوعه، وربما بنسبة ضئيلة يشارك آخرون فيه. لكن بشكل عام، لا يلام أحد هاهنا غيرك. فلقد كان من المفترض منذ استلام المهمة، أن تكون على اطلاع ووعي تام بالأمور وكيف ستجري، مع وضوح رؤية لاحتمالات وسيناريوهات النجاح أو الهزيمة، ومن ثم التركيز على كيفية العمل على تجنب وقوع الهزيمة.

خير الخطائين التوابون

أن تخطئ وأنت تعمل عملاً بذلت جهدك في اتخاذ الأسباب للنجاح، لن يعاتبك أحد ولن يقع كثير لوم عليك. لكن إن حصل تقصير واضح أو متعمد، ثم أخفقت نهاية الأمر، فليس مستغرباً وقوع الكثير من الملامات عليك والانتقادات، فهكذا المنطق يقول.

لكن الحقيقة التي لا نختلف عليها، أنه لا يوجد من يعمل دون أن يخطئ، إلا إن كان هذا من جنس الملائكة الكرام. فنحن البشر، الأصل أن نعمل وفق خطة أو رؤية واضحة ونجتهد في العمل، ونتيجة هذا الاجتهاد قد نخطئ أو نصيب في النهاية، وقلما يسلم امـرؤ من الوقوع في الخطأ. ولأننا بشر تتحكم بنا المشاعر والأحاسيس، وتتقلب أو تتبدل الأهواء والأمزجة ما بين ليلة وضحاها، أو ظرف ما وأخته، ولأننا نعيش في مجتمع بشري يعمل فيه كل فرد بصورة وأخرى، فلنتوقع الوقوع في الأخطاء أثناء أداء الأعمال والمهمات، ولن يكون هذا عيباً، لأن العيب في هذا الموضوع، ألا تعمل وفق رؤية واضحة وخطة محكمة. والعيب أيضاً أن تقع في الخطأ نفسه مرة أخرى وثالثة وألف.. والعيب ألا تستفيد من أخطاء الماضي. والعيب ألا تستخير أو تستشير أهل الخبرة والاختصاص.. وبالتالي، بعد كل ذلك، يقع الإخفاق وتقع الهزيمة تلو الأخرى.

إذاً، الأخطاء واردة من الإنسان، ولا أحد معصوم منها. الأنبياء الكرام وقعوا في أخطاء من تلك التي لم يكن للوحي دور فيها، لماذا ؟ لأنهم بشر كغيرهم. كانت لهم اجتهاداتهم، ولكن كما علمنا رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم– أن: “كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون“. ومع ذلك، لا يعني هذا أن يقحم الإنسان نفسه في الأخطاء، مبرراً لنفسه أننا كلنا نخطئ، وسنتوب من ذلك.

لا، الأمر ليس بهذا المفهوم، وإنما الأصل أن تعمل جهدك ألا تقع في الأخطاء، لكن إن وقع خطأ بعد بذل كل جهد وكل سبب، ووقع إخفاق أو حلت بك هزيمة، فإنك حينها تتوقف لتدارك الأمر، وبحث الأسباب، والعمل على ألا تعود إلى المسلك ذاته تارة أخرى، وهكذا.

الناس أصناف أمام الهزيمة

الناس أمام الهزيمة أو الإخفاق أنواع وأصناف. نوع أولٌ يكون على درجة عالية من الوعي والفهم، بحيث يقدر على استيعاب أمر الهزيمة أو الخسارة، ويعتبر أن ما حدث هو أمر طبيعي، وأن الصراع أو المنافسة في مواقف الحياة المتنوعة، غالباً تكون نتائجها نصر أو خسارة، وأنه مثلما تخسر جولة، فإنك ستكسب أخرى وثالثة ورابعة وهكذا.. إذ المهم في مسألة الهزيمة أو الخسارة، أن يتقبلها المرء بروح رياضية راقية، يتعظ من خسارته، ويستفيد الدروس والعبر لجولات تالية ربما تأتي في قادم الأيام.

لكن هناك من تكون درجة الوعي عنده دون المستوى أمام المسألة، فيدفعه هذا التدني في الوعي والإلمام بفلسفة الخسارة أو الهزيمة، إلى الخصام وربما الفجور في الخصومة، وخصوصاً إن شعر ورأى الهزيمة أو الخسارة في الطريق قادمة إليه لا محالة. هو لا يريد الاعتراف بالهزيمة وأنه السبب، بل تراه يبحث بكل الطرق عن طريقة يلصق هزيمته بآخرين. فتجده لا روح كبيرة يتمتع بها، تدعوه إلى الصبر وتقبل الأمر ومراجعة أسباب الخسارة أو الهزيمة، ولا أخلاق فرسان رفيعة نبيلة، تدعوه إلى الترفع عن الصغائر بسبب تلك الخسارة.

نوع ثالث من البشر أمام الهزائم، ربما هو الأسوأ، حيث لا يتقبل الهزيمة مطلقاً، حتى وإن كانت حقاً وصدقاً نتيجة ما كسبت يداه. فهو لا يكتفي بعدم القبول فحسب، بل ربما أخذته العزة بالإثم، وربما كذلك ساندته بطانة أسوأ منه، تريه الحقائق عكس ما هي، فتخفيها عنه وتدعوه إلى السير على غير ذات هدى وبصيرة، فيصير كالناقة العشواء، يتخبط يمنة ويسرة.

التعامل مع الهزيمة ثقافة

ما يهمنا في هذا السياق هم الذين يمرون باختبارات الحياة المختلفة، والذين يتعرضون فيها لمتاعب جمة وآلام مبرحة، حتى ترى أحدهم وقد انتكس واستسلم للنتيجة أو الواقع دونما قليل من التفكر وإعادة النظر، للبدء من جديد..

لا أحد منا يرغب أن يكون مهزوماً في موقف أو صراع ما أو منافسة معينة. لكن لا تُقاس الأمور بالرغبات والأهواء، فالحياة لا تسير هكذا اعتباطاً بحسب أهواء وأمزجة بعضنا، بل هي قوانين ومعادلات وسنن دقيقة. وحين تخسر اليوم جولة، فتأكد أنك ستكسب أخرى غداً أو بعد غد. خسارتك أو هزيمتك، إنما هي نتيجة، ولا تعني سوى أن خطأً ما ارتكبته في مرحلة معينة، وبحاجة لتعديل وتصحيح، كي تعاود إكمال مسيرتك.

هكذا هي الحياة بكل وضوح. نجاحات وإخفاقات، انتصارات وابتلاءات. والحكيم من فكّر وقدّر ثم اعتبر، وقد وضع نصب عينيه حقيقة حياتية ثابتة، مفادها أن دوام الحال من المحال. وفهم تلك الحقيقة، جزء لا يتجزأ من ثقافة التعامل مع الهزيمة، والتي لابد أن نعيها في حياتنا، إذ بها نُريح ونستريح.

ختاما .. ما يمكن قوله في هذا الصدد، أن ما نتعرض له من مواقف وانتكاسات وخسائر وهزائم، يجب ألا توقفنا وتؤخرنا عن مسيرة الحياة، لأن الخاسر الأكبر في تلك الحالة هو من يتقبل الهزيمة ويخضع ويركع لها، ومن يركع لغير الله فقد ذل وخاب وخسر.