اقرأ أيضا:
إلا أنّ عالما وفيلسوفا آخر أطل علينا بعبارة كئيبة لكل مؤلفاته ونصوصه، هذه العبارة هي السيولة، فبتنا أمام الحداثة السائلة والحب السائل والحياة السائلة، وآخرها الشر السَّائل الذي نود التّفكير معه في هذه اللّفتة. وربطه بقانون الواجب الأخلاقي. لأن ثمة تلازم في الحضور اليوم بين ما يسميه جيل ليبوفتسكي “أفول الواجب” وبين ما يسميه ” باومان ” الشر السائل”. فما وجه العلاقة بينهما رغم أن روح الحداثة الأخلاقية تكتسي ثوب الواجب الأخلاقي؟
يشير باومان إلى أن المقصود بالشر السائل، هو الانفصال الذي حدث بين مبدأ الخيال ومبدأ الواقع، وهيمنة مبدأ الواقع على مبدأ الخيال، وبيان ذلك أن الخيال يعني به تلك الغايات التي يرسمها الإنسان وتكون مبررا لأفعاله أو اليوتوبيات بما هي مُثُلُ عالية تحفّز الإرادة على الفعل، والتي منها : التقدم نحو الأفضل، السعادة، الحرية، العلم والواجب الإنساني المنفصل عن تشريعات الإله، أما وأن حالة الإنسان المعاصرة الذي دخل مرحلة السيولة لم يعد خياله بقادر على إنتاج الصور التي ترسم الغايات و المثاليات الجميلة والجديدة، فإنه أضحى أسيرا للواقع، وقَفَصِ الواقع، وإكراهات الواقع؛ بسبب الحال الاقتصادي العولمي والأنموذج الاستهلاكي الغالب، حيث لم يعد يقوى أن يرفع بصره نحو السماء، ولا حتى يطرح على نفسه الأسئلة الكلية و النهائية التي تذكّره بمصيره الأخير، هذا هو الشر السائل، ليس هو الشَّرُّ الممثَّلُ في الإعتداءات المباشرة على الإنسان ، لكنه أضحى شرَّا سائلا واعتداء بأقنعة لذيذة وغير مؤلمة؛ يَسْري في مرافق الإعلام الإستهلاكي، والإقتصاد المادي، وتدفق الصور الإشهارية التي ينتج عنها : تسطيح التفكير، وجمود العضلات، وضعف البصر، والبرمجة نحو الموت.
ونتج عن هذا الشكل من أشكال الشر، أفول الواجب وتحلُّل الذَّات التي كانت تؤثر في العالم بمُثُلها العليا وغاياتها المتجاوزة للواقع، وهنا نستنتج أن الهاجرون للواجب و المعرضين عن العمل وفق قانون الواجب، مردّها إلى أنّه لم تعد هناك غايات متجاوزة للواقع أو خيال يصنع يوتوبيات جديدة. وهذا هو معنى مدلول الشر السائل، في انفصال مبدأ الخيال عن الواقع.
إن غياب الواجب سببه الشر السَّائل، أي الشَّر النَّاعم الذي يتسلَّل لكي يُحَوّلَ النّرجسية كاستراتيجية في الحياة، وخلاصة هذا الأمر كلّه، انعدام الاستجابة الأخلاقية في نفس الإنسان وتخدير الوازع الأخلاقي، حينها تتحكَّم الطاقة الحيوية في الإنسان وتستحوذ عليه الدّوافع ” الدافع الغذائي/ الدافع التناسلي/ الدافع التملّكي… وينحصر وجوده في ضيق هذا القفص. وإذا لم يتدارك هذا النّموذج حالته هذه؛ بإحياء روحه وإيقاظ الحاسة الخلقية التي تملك وحدها القدرة على تجاوز الواقع، فإن مصيره هو الوجود المحدود بين موت الواجب والشر السائل.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين