اقرأ أيضا:
الأولى: إيماؤه أن الوحي في مرحلته الأولى كان وحيا بالمعنى دون اللفظ، واقعا بذلك في فخ التناقض المنهجي لأنه ذكر في القسم المخصص للمنهج من كتابه؛ أن النص وإن كان منتجا ثقافيا إلا أن له أصلا إلهيا، وأنه تم باللفظ والمعنى معا دون فصل لأحدهما عن الآخر.
والمسألة الثانية: تغليب الأيديولوجي على المعرفي، فقد غدت النبوة وفقا لأيديولوجيته الماركسية منتمية إلى البنى الفوقية التي في موقع جدلي مع البنى التحتية ممثلة في الكهانة والعرافة، ومعلوم أن البناء الفوقي يتغير في حال طال البناء التحتي أي تغيير، ومن ثم أصبح وجود النبوة مرتهنا بوجود الكهانة والعرافة، قاصدا بذلك نفي صفة التعالي عنها وإنزالها إلى الواقع التاريخي وربطها بتحولات الثقافة[4].
وليست مقاربة أبي زيد فريدة في مجالها فهنالك مقاربة محمد أركون التي تحظى بتقدير استشراقي، وتتلخص في بضع نقاط هي:
والوحي التوحيدي -خلافا لوحي المفكرين والحكماء- ليس لحظة ممتدة متدفقة بالحياة بسبب اكتمال النبوة، لكنه تكلس وجمد في صيغة “المدونات النصية الرسمية المغلقة والناجزة التي تُدعى بشكل عام بالكتابات المقدسة أو كلام الله” وليس للمؤمنين أي منفذ على الوحي إلا من خلالها، وقد أفضى تدوين الوحي الشفهي وتحوله إلى نصوص مدونة إلى توليد ظاهرتين لهما آثار تاريخية وثقافية كما يعتقد أركون؛ الأولى أنه وضع الشعوب المؤمنة بالكتب المقدسة في حالة تأويلية دائرية بمعنى أنها لا تنفك تؤول الكتب بحثا عن القوانين والمعايير الاجتماعية والخلقية، والثانية أن هذا التفاعل الإنساني مع الكتب المقدسة عبر التأويل قد نزع عنها صفة التعالي وربما القداسة وجعلها منغرسة في التاريخ والواقع[8].
والحق أن ما مارسه أركون في مقاربته للوحي يعد حالة تفكيكية مثلى لا تتضمن أي وجه بنائي -خلافا لأبي زيد الذي مع اختلافنا معه قدم أوليات منهجية يمكن التعامل معها نقديا-، فليس هناك استكشاف لمعنى جديد أو تجديد لمعنى قديم أو تشييد لعلاقة مع مفهوم آخر كل ما هناك هو تقويض للمعنى وخلع لأردية القداسة والتعالي عنه.
عبر هاتين المقاربتين وغيرهما من المقاربات الحداثية يمكننا استكشاف بضع خصائص تَسِم مفهوم الوحي وتميزه وهي تقطع مع الخصائص التراثية، وبيانها كالتالي:
هذا عن خصائص المفهوم، أما عن غاياته ومقاصده فقد أصابها هي الأخرى التبدل حيث تم إقصاء المقصد الهدائي العقدي واستبداله بآخر تاريخاني وضعي، وهذا التبدل يعبر عنه حسن حنفي الذي يجمح به القول إلى أنه ليس مقصودا من الوحي إثبات مطلق غني لا يحتاج إلى الغير، بل المقصود منه تطوير الواقع في اللحظة التاريخية التي نمر بها والتي تحتاج إلى التطور مضيفا أن التراث القديم قد غرق في الإثبات لأنه كان موضع شك من الأقوام المجاورة، أما وقد ترسخت الفكرة فليس هنالك حاجة إلى ذلك الآن، فلتكن الغاية تطوير الفكر والواقع[11].
خلاصات واستنتاجات ختامية
يبدو جليا مما سبق أننا لسنا بصدد مقاربات فردية متناثرة وإنما إزاء مشروع معرفي متكامل ينهض به المفكرون الحداثيون في التعامل مع المفاهيم الإسلامية التأسيسية، كل منهم ينهض بمدخل معين وتتكامل المداخل وتتضافر مكونة مشروعا فكريا متكاملا، ويبلغ التكامل حدا مدهشا؛ فما يضمره كاتب يفصح عنه آخر، وما يجمله أحدهم يبينه آخر أوفى بيانا، حتى يبدو في نهاية المطاف وكأننا إزاء مشروع نهض به مفكر واحد.
الأمر الآخر أن المشروع وإن اكتسى بطابع معرفي وتوسل بالأدوات والمناهج العلمية إلا أنه في جوهره مشروع أيديولوجي يروم إلى تفكيك المفاهيم الإسلامية وتفريغها من حمولاتها المعرفية واستبدالها بمضامين معلمنة لا تمت لها بصلة، وهذا الطابع الأيديولوجي نجده في أجلى صوره لدى أبي زيد في مقدمته لكتاب مفهوم النص كما نجده لدى أركون وحرب.
[1] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، ص 27.
مفهوم النص، ص 42. [2]
[3] مفهوم النص، ص 56-59.
[4] إلياس قويسم، تشتّت النص القرآني بين الثقافة التقليديّة والحداثة العلميّة، الملتقى الفكري للإبداع، 2008.
[5] محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، ترجمة هاشم صالح، ص 91.
[6] من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، ص 106.
[7] محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ص 84.
[8] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص77-87.
[9] علي حرب، نقد النص، ص 77.
[10] علي أحمد سعيد، الثابت والمتحول، ج1، ص 37
حسن حنفي، التراث والتجديد، ص 61. [11]
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين