إن قضية الوحي باعتباره جزءا من المعرفة الإلهية التي لا يرد عليه الخطأ أو الشك ولا عوارضهما، يجب اعتماده للوصول إلى الحق في المدركات لا سيما في المجال الغيبي الميتافيزيقي، حيث كان أحد أسباب تميز نظرية المعرفة في الإسلام، وقد دعت الحاجة إلى البحث في المجال وتقريب المعلومة عن الوحي في إطار نظريات المعرفة الإنسانية، حيث يجد كثير من المسلمين القراء والمثقفين صعوبة التعامل مع التراث الذي عني بهذا الموضوع، ناهيك عن اعتماده الواسع لأفكار الفلسفة اليونانية القديمة، وترتب على ذلك التعقيد الشديد في فك الألفاظ وضعف التعامل مع المفاهيم، والانفصام الواضح بين الثقافة الإسلامية ومباحث الفلسفة أو المنطق.
بل نلاحظ العزوف الشديد والتقصير الملفت في دراسة هذا الموضوع وتقريب أهمية الوحي بوصفه أحد المصادر المعرفية اليقينية في محافل العلم، بل أصبح يشتهر التشكيك في الوحي والإعلان به ما أدى إلى ارتفاع نسبة الإلحاد ومعارضة أصول الإسلام، بينما نجد في الجانب المقابل الاهتمام البالغ الذي يحظى به النظريات المادية الحديثة التي حصرت المصدر المعرفي في الموجودات المحسوسات في هذا العصر، أو الفسلفة الإشراقية التي طفحت التصور المعرفي في التراث الإسلامي، وهي التي تزعم أن الوحي مكتسب إذا توفرت شروطه، وليس بمقتضى الاصطفاء والاختيار الذي نطق بهما الكتاب العزيز (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج: 77].
ويشهد على إبطال القراءات الإشراقية للنبوة ما تضمنه الآية، في قوله: (إن الله سميع بصير)، وهو في موضع التعليل أن الاصطفاء اختص بالله لأنه هو المحيط علمه بكل شيء ” ليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصماء”[1].
والمقصود بالوحي على النحو الذي نريد إبرازه في هذا المقال كلام الله المسموع لأنبيائه من وراء حجاب، وهو الذي أرسل به ملائكته، ويشمل كلا من الكلام المباشر باللفظ أو الإلهام الذي يلقيه الله في قلب النبي، ويمكن تقييد هذا الكلام بأن “طريقة إلقائه غير معتادة”، ومن هنا أعجز هذا النوع من المعرفة البشر وأدخل الفلاسفة في الحيرة.
ويتقرر وفق ما تقدم أن الوحي نوع من المعرفة، ومصدره من الباري سبحانه، ويأتي بصورة التكليم المباشر بصوت مسموع، أو بالإلهام، وقد يكون بواسطة أو بغير واسطة. يجمع هذه الصور كلها ما نطق به الكتاب العزيز يقول الله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى: 51].
نزلت هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر. فكلام الله الذي كلم به موسى من وراء حجاب والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه عليهم السلام ليثبت الله عز وجل ما أراد من وحيه في قلب النبي ويكتبه وهو كلام الله ووحيه ومنه ما يكون بين الله وبين رسله ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد ولا يأمرون بكتابته ولكنهم يحدثون به الناس حديثا ويبينونه لهم؛ لأن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغوهم إياه ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته فيكلمون به أنبياءه من الناس ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من الملائكة فيوحيه وحيا في قلب من يشاء من رسله.
وكانت الآية ردا على أباطيل الكافرين المكذبين لرسالة محمد ﷺ، حين زعموا أن محمدا لو كان مرسلا من الله لكانت معه ملائكة تصدقه أو لأنزل عليه كتاب جاهز من السماء، فبين الله تعالى ان القرآن الكريم وحي من قبيل ما أوحي إلى رسل في الأمم السابقة، ويأتي في أحد صور الوحي الثلاثة المذكورة، وتدل الآية بوضوح على انتفاء وقوع العلم من الله لأحد البشر مباشرة بغير هذه الطرق.
– ولقد رفضنا المذهب المادي الذي يقصر الحق والمعرفة على ما تتعرف عليه الحواس، فأي شيء غاب عن المحسوس المادي فليس بمعرفة، ولا يمكن أن يكون حقا، فالمعرفة البشرية تتعلق فقط بموجود مادي محسوس لا يمكن تجاوزه، والحةاس هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأي وسيلة تلمتس منها المعرفة إذا كانت غير محسوسة فلا يمكن أن تكون مصدر المعرفة، لأن ، وبناء على هذا النظر المادي الواقعي أنكرت هذه المدرسة المعرفية الوحي لأنه حقيقة غيبية لا يمكن التحقق منه بالحواس، بل يعد الوحي بناء على هذا الرأي مجرد وهم لا حقيقة له.
ونظرية المعرفة في الإسلام تعارض المذهب المادي في التعامل مع الوحي، لتعلق الوحي بقضايا خبرية غيبية، يصعب على الماديين إدراكها بالحواس المجردة، لأن المدركات الثابتة بالوحي خارجة عن عالم الواقع، على أنه يوجد من الأمور الغيبية التي يمكن أن يدركها الحس، وهو الغيب المعقول، مثل أخبار الأمم السابقة، أما الغيب المحض الذي يحيل على العقل إدراك اليقين منه، فإنه مما اختص به الوحي، مثل قضية الروح في قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]، ومنه علم الساعة، كما في قوله: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) [الأحزاب: 63] ونحو ذلك.
وبما أن المعارف لا تقتصر على القضايا المحسوسة في الواقع الخارجي، وما ذكرنا من الأمثلة مثل الروح، والساعة، وعلى ضوئه الجنين في البطن والمطر أو الغيث، حقائق موجودة تتوفر فيها مقومات المعرفة، وهي الاعتقاد بوجودها، وإثباتها في الواقع، ولدينا مبررات وحجج تؤكد على وجودها، فإنه يجدر بنا الإشارة إلى أهمية الوحي كأحد وسائل المعرفة، بل هو الوسيلة الوحيدة التي تتصف بالشمولية العارية من الأخطاء، لما جمع من الروافد المحسوسة والغيبية، وضرورة اعتباره في وجه كل رأي أو فلسفة وافدة تشكك في هذا المصدر المهم.
1 – الوحي مصدر يقيني يحيل عليه أن يشتمل على معلومة خاطئة مغلوطة لأن صفة متصلة بعلم الله تعالى، فلما كان مصدر الوحي من الله تعالى مصونا من الخطأ، فكذلك ما أتى به الوحي أو اشتمل عليه من المعارف والعلوم يمتنع أن يقع فيه خطا. يقول ابن تيمية: (المعرفة المكتسبة من الوحي معرفة يقينية مطلقة ذلك أن الوحي بصفته جزءًا من علم الله له ما لهذه الصفة من كونها حقيقة مطلقة غير محدودة، ودلالة الوحي في إفادة المعرفة الدينية دلالة شرعية سمعية وعقلية).
2- أن الوحي يعد من جنس المعارف التي تربط البشرية بربها، فالإنسان بالفطرة يحتاج إلى قوانين وعلاقات توثيق الرابط بربه، وهذه القوانين يمتنع إدراكها بمجرد عقل الإنسان المحدود، فهنا يفتقر إلى الوحي لإبصاره بهذه الأحكام والقوانين التي يعلي قدره ويربطه بالخالق، وهو الذي يرشده إلى طريق إدراك أوامره لإرضائه، والتحذر من نواهيه وسخطه، فالوحي هو جزء من العلم الإلهي الموهوب كما وصفه ابن تيمية، وعن طريقه يفي الإنسان بما يحس به من العجز والضعف الذي يعانيه في جانب المعرفة والاعتقاد الديني، وفي جانب العمل والتشريع الإجتماعي، وهنا يبرز الحاجة الضرورية للوحي الإلهي.
[1] التحرير والتنوير (17/344).