في سنة 854هـ/1450م ؛ أخرج العالِم الألماني يوهان غوتنبرغ للناس اختراعه “المطبعة”. وبقدر ما كان هذا الإنجاز فتحا تقنيا غيّر وجه التاريخ الثقافي للعالَم؛ فإنه سجل أيضا بداية النهاية للمنظومة التي أبدعت أعظم ظاهرة ثقافية أهدتها الحضارة الإسلامية للإنسانية، وأنتجت أغنى تراث علمي عرفته البشرية حتى العصر الحديث؛ إنها ظاهرة: “الوِراقة والوراقين”. في هذا المقال؛ سندخل عالما كان -على مدار أكثر من ألف عام- نابضا بالحيوية والإبداع، وحافلا بالجدل والصخب الثقافي، ولا يخلو من الحقائق المدهشة والطريفة؛ لنرصد كيف دارت ماكينة إنتاج الكتاب في العالم الإسلامي، وكيف احترف مهنة نسخ الكتب علماء كبار وأمراء مشاهير وربات بيوت سعياً لتحصيل دخل يوفر لقمة العيش، وكيف شارك في هذه الصناعة ناسخون من أديان أخرى ساهموا في نشر الأعمال الإسلامية.

أمة اقرأ

جاء الإسلام وقد عرف العرب القراءة والكتابة على نطاق ضيق، والترجمة من اللغات الأخرى في حدود أضيق؛ ولكن الدين الجديد -بما تضمنه القرآن والسنة من إشادة بالعلم والعلماء- كان من أول لحظة إيذانا بميلاد “أمة اقرأ”، التي ستملأ الأرض علما ومعارف وتشغل الناس ثقافة وآدابا.

فقد اكتمل جمع القرآن وتدوينه في خلافة أبي بكر الصديق (ت 13هـ) فكان ذلك إشارة لأهمية التدوين العلمي في حياة الأمة؛ ولكن القرن الأول بأجمعه ظل قرنا للرواية الشفهية لنصوص الإسلام (قرآنا وسنة) ولغته العربية، ولم يشهد حركة تدوين للمعارف المنبثقة منهما إلا في حالات محدودة.

ومع بزوغ شمس القرن الثاني الهجري (100-200هـ) الذي يُعرف بـ”عصر التدوين“؛ تفجرت ينابيع العلوم واكتملت دورة إنتاجها الشفهي، فكان لا بد من استيعابها في أطر صلبة تنقلها من الصدور إلى السطور، فتحفظها من الضياع وتجعلها قابلة للتداول بين الناس والتوارث بين الأجيال.

وقد أدت فتوح الإسلام إلى الاختلاط بحضارات مغايرة ونُظم ثقافية متباينة في الملل والنِّحل في العراق وفارس والشام ومصر؛ فجرت مع أصحابها مناظرات جدلية ومثاقفات علمية، واحتِيج إلى الترجمة عن لغاتها والاقتباس من مناهجها في الحِجاج بما يعين على المغالبة الثقافية، فازدهرت سوق الترجمة وتوسعت حتى شملت آنذاك أكثر من عشر لغات، فازداد بذلك نشاط التدوين والنشر اتساعا.

وتعزز ازدهار الكتابة والتدوين بعاملين مهمين: أولهما المكانة العالية التي حازها “كتّاب الدواوين” (وزارات الدولة وإدارتها) منذ العصر الأموي وازدادت أهميتها أيام ورثتهم العباسيين؛ وثانيهما استخدام الورق في الكتابة مع مطلع العهد العباسي، ذلك الاستخدام الذي ترسخ ببناء أول مصنع للورق ببغداد أيام هارون الرشيد في سبعينيات القرن الثاني.

وبذلك عرف الناس “صناعة الكتاب” بشقيه: “الأصيل” المؤلَّف و”الدخيل” المترجَم، ثم سرعان ما أصبحت “صناعة الكتاب” صنعة من صنائع المدنية في الحضارة الإسلامية تُدعى “الوِراقة”؛ فتخصصت فيها طائفة وافرة تسمى “الوراقين” ضمت في عضويتها كافة أطياف المجتمع الفكرية والأدبية، وطوائفه الدينية والمذهبية؛ ووُضعت لها ضوابط وأعراف، وخُصصت لها أماكن وأسواق، ونشأت في فضائها فروع وتخصصات، وتحصلت منها لأصحابها أموال وثروات.

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

عميد الوراقين

من الناحية التاريخية؛ ارتبطت “الوراقة” -في بدئها ‏بوصفها مهنة- باحتراف نسخ القرآن الكريم تكسُّبًا، فقد ذكر النديم (ت 384هـ) في كتابه ‘الفهرست‘ أن الناس “كانت تكتب المصاحف بأجرة”، وكان أول من عُرف بتخصصه في ذلك عمرو بن نافع مولى عمر ‏بن الخطاب‏، لكن النديم عزا إلى المؤرخ محمد بن إسحق (ت 151هـ) أن “أول من كتب المصاحف في الصدر الأول -ويوصف بحسن الخط- خالد بن أبي الهياج”، لعمله “ورّاقا” للخليفة الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ).

بيد أن أول من أطلِق عليه لقب “الوراق” -فاستحق بذلك علينا أن ندعوه “عميد الوراقين”- هو مطر بن طهمان (ت 129هـ) الذي اشتهر بـ”مطر الوراق”، ويقال إنه كان من موالي علي بن أبي طالب. كما أن معاصره مساور بن سوار الكوفي (ت نحو 150هـ) “كان وراقا ينسخ الكتب”. ‏‏

ومع أواسط القرن الثاني؛ انضم إلى نسخ القرآن جمعُ الحديث النبوي، وتوثيقُ فتاوى الصحابة والتابعين، وتدوينُ لغة العرب وأشعارها؛ فظهرت “مصنفات” في شتى العلوم، ومن أوائل تلك المؤلفات -مما وصل إلينا نصُّه موّثقَ النسبة- “الموطأ” للإمام مالك بن أنس، و”الرسالة” للإمام الشافعي، و”المبسوط” للإمام محمد بن الحسن الشيباني، و”الكتاب” في النحو لسيبويه الفارسي، وقاموس “العين” للفراهيدي، و”مختارات” من أشعار العرب مثل “المفضليات” و”الأصمعيات.

وأدت كثرة طلاب العلم وازدياد انشغال العلماء بإقبالهم على التأليف إلى اتخاذ بعض الأئمة “ورّاقاً” أو ‏”كاتباً” خاصا به كما اتخذ كل شاعر “راوية” لديوانه؛ فكان مثلا حبيب بن أبي حبيب وراقا للإمام مالك (ت 179هـ)، وعُرف محمد بن سعد (ت 230هـ) بأنه “كاتب ‏‏الواقدي” المؤرخ (ت 207هـ).‏

وقد انتشرت لاحقا عادةٌ عمّت جميعَ طبقات العلماء والأدباء بل وحتى الخلفاء والأمراء، وهي اعتماد وراقِين محددين ‏كما يعتمد المؤلفون الكبار في عصرنا ناشرا معينا لطباعة كتبهم. فقد كان محمد بن أبي حاتم وراقا للإمام البخاري (ت 256هـ)، وأحمد بن محمد النِّباجي وراقا للإمام يحيى بن معين (ت 233هـ). وورد أن الخليفة العباسي المعتمد (ت 284هـ) “كان له وراق يَكتب شعره بماء الذهب”.

وقد يكون لبعضهم وراقان كما كان للواقدي ولأبي عُبيد القاسم بن سلام مؤلف كتاب “الأموال” (ت 224هـ)، ولأبي داود (ت 275هـ) صاحب “السنن” وراقان أحدهما ببغداد والثاني بالبصرة، وللجاحظ (ت 255هـ) وراقان: أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى وأبو يحيى زكريا بن يحيى.

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

تألق وازدهار

وبحلول نهاية القرن الثاني؛ كانت “صناعة الوِراقة” -بتعبير ابن خلدون (ت 808هـ)- قد بلغت شأواً بعيدا في الانتشار وسلكت طريقها نحو الازدهار في القرن الثالث، بحيث تحددت فروعها بأنها شاملة “للانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكُتبية والدّواوين” مثل بيع الورق والقراطيس، وصارت لهم “دكاكين” تضمها “أسواق الوراقين” التي “اختصّت بـ]ها[ الأمصار العظيمة العمران”. وبعضهم عمل في مكتبات الدولة مثل “بيت الحكمة” ببغداد، و”دار العلم” بالقاهرة، و”خزانة العلوم” بقرطبة.

وقبل ابن خلدون بأربعة قرون؛ حدد أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ) -في رسالة لأحد أصدقائه- بعض أدوات صنعة الوراقة ومشمولاتها الداخلة في عمل الناسخين المجوِّدين؛ فذكر منها “الحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة ‏والتصحيح”.‏ على أنه في عصور انحطاط الوراقة صار معروفا أن “غالب من يكون خطه حسنا لا يخلو عن الجهل”.

ويكفي أن نتذكر أن الجاحظ -حسبما رواه صديقه الشاعر أبو هفّان العبدي (ت 257هـ)- كان “يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر”. ووصف الرحالة المقدسي البشاري (ت 380) أهلَ الأندلس بأنهم “أحذق الناس في الوراقة”، فراجت ببلادهم سوقها لما كان لهم بها من شغف واحتفال، حتى إن القاضي والوزير القرطبي أبا المطرف ابن فطيس (ت 402هـ) اتخذ “ستة وراقين دائمين” ينسخون له الكتب.

وقد عمل في هذه المهنة آلاف الوراقين من الرجال والنساء، ومن جميع طبقات المجتمع من كبار العلماء والأدباء وأبناء الملوك السابقين -بل والأمراء- إلى الموالي والأرقاء. فمن مشاهير العلماء الذين عملوا وراقين تكسُّبا: الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) الذي كان “ينسخ الكتب للناس بأجرة” ليسدّ فاقته أيام طلبه العلم، والإمام النحوي القاضي المعتزلي أبو سعيد السيرافي (ت 368هـ) كان “ينسخ الكتب بالأجرة ويعيش منها”.

وعُرف إمام الحنابلة في زمنه ابن مروان البغدادي (ت 403هـ) بـ”الوراق” ‏لأنه كان “ينسخ الكتب ويقتات من أجرتها”، متعففا عن هدايا السلاطين. وورد أن الإمام أبا حامد الغزالي (ت 505هـ) “كان ينسخ الكتب والمصاحف.. ويبيعها”.

ومن الأمراء الذين “احترفوا” الوراقة -وهم في السلطة- السلطانُ الشهيد نور الدين زنكي (ت 569هـ) الذي كان “يأكل من عمل يده فكان […] ينسخ الكتب”. ومن أبناء الملوك الأمير شرف الدولة يحيى بن المعتمد بن عباد الذي مارس نسخ الكتب -بعد زوال سلطان عائلته بإشبيلية- ووُصف بأنه “مثابر على نسخ الدواوين. ووصلتنا أجزاء من نسخة “الموطأ” التي كتبها لسلطان المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين (ت 537هـ)، نعرض هنا صورة من غلافها:

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

أمهات وراقات

وقد عملت المرأة إلى جانب الرجل في مهنة الوراقة ناسخةً أو مساعِدةً؛ ففي الأندلس يروي عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ) عن المؤرخ الأندلسي أحمد بن سعيد ابن أبي الفياض (ت 459هـ) أنه “كان بالرَّبَض (= الجانب) الشرقي من قرطبة مئة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا ما في ناحية من نواحيها فكيف بجميع جهاتها؟”، وكانت ورقاء بنت ينتاب الشاعرة الطليطلية (ت بعد 540هـ) من الناسخات المُجيدات.

وفي العراق شرقا؛ ذكر أبو العلاء المعري (ت 449هـ) -في “رسالة الغفران”- الجاريةَ “توفيق السوداء التي كانت تخدم بدار العلم ببغداد” أيام البويهيين، وكان من مهمتها مساعدة الوراقين بأن تُخرِج “الكتبَ للنُّسّاخ”، ولعلها كانت تورّق أيضا.

‏وفي عام 1928م؛ حدّث الكاتب والمؤلف العراقي عبد اللطيف جلبي (ت 1945م) أنه رأى بجامع الحيدرخانة ببغداد نسخة من قاموس “الصحاح” لأبي نصر الجوهري (ت 393هـ) نسختها امرأة تدعى مريم بنت عبد القادر (القرن 6 هـ)، وكتبت في نهايتها عبارة مؤثرة هذا نصها: “أرجو من وجد فيه سهوا أن يغفر لي خطئي، لأني كنت بينما أخط بيميني كنت ‏أهز مهد ولدي بشمالي”!!

وروى المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) أن أبا العباس بن الحطيئة الفاسي (ت 560هـ) “نسخ الكثير بالأجرة [في مصر].. وعلّم ‏زوجته وابنته الكتابة فكانتا تكتبان مثل ‏خطه سواء، فإذا شرعوا في نسخ كتاب أخذ كل واحد جزءا وكتبوه، فلا يفرِّق بين ‏خطهم إلا الحاذق”.‏

اشتملت حواضر الإسلام الكبيرة على صنوف الأسواق الموَّزعة وفقا لما تعرضه من بضائع أو تقدمه من صنائع؛ وكان من ضمن تلك الأسواق “سوق الوراقين” أو “أصحاب الورق” أو “أصحاب القراطيس”؛ حسب كل إقليم وتسميته للوراقة.

وقد ذكر لنا الجغرافي المؤرخ اليعقوبي (ت 284هـ) أنه شاهد في جانب واحد من بغداد “أكثر من مئة حانوت للوراقين”، وذكرت كتب الحوليات أنه في شوال سنة 740 “وقع بدمشق حريقٌ كبير… واحترق سوق الوراقين. وسبقت الإشارة إلى الجانب الشرقي من قرطبة وما كان فيه من عشرات النسوة الوراقات، اللاتي يرجّح أنهن كن يعملن في حوانيت أعِدت للوراقة.

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

يهود ومسيحيون

وكما لم تقتصر دكاكين الوراقة على انتساخ كتب الثقافة الإسلامية بل أضافت لها الكتب المترجمة؛ فإن طائفة الوراقين اتسع ‏رحبها لضم وراقين من جميع الملل والنِّحل، لا ليتخصصوا في نسخ ونشر كتب معتقداتهم وأديانهم وإنما لينسخوا أيضا بأيديهم كتب ‏الإسلام ويبيعوها!‏

ومن ذلك الحكاية التي رواها الإمام البيهقي (ت 458هـ) وخلاصتها أن أحد المثقفين اليهود كان “حسن الخط” فأسلم وروى ‏قصة إسلامه للخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ)؛ فقال: “عمَدتُ إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، ‏وأدخلتها إلى الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموْا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ ‏فكان هذا سبب إسلامي”‏. ولم يصلنا أن كتابته للمصحف استجلبت إنكارا من الخليفة أو من الوراقين المسلمين رغم اشتهاره بأنه يهودي!! ‏

وقد نقل النديم عن الفيلسوف المسيحي يحيى بن عدي المنطقي قوله له “نسختُ بخطي نسختين من التفسير للطبري ‏وحملتهما إلى ملوك الأطراف، وقد كتبت من كتب المتكلمين ما لا يُحصى”.‏

ومن الوراقين من تخصص في نسخ الكتب الصغيرة المعدة للسفَر -وهي المسماة اليوم “كتب الجيب”- التي كانوا يدعونها “الكتب اللِّطاف” أو “النسخة السفـَرية”؛ مثل الوراق أبي الفضل ابن جليق التغلبي ‏الجشمي الذي كان في حلب “ينسخ الكتب اللطاف ‏والمتوسطة بالأجر”.

كما شاعت كتابة “المصاحف اللطاف”‏ وممن تخصص فيها أبو حري الكوفي الذي “كان يكتب المصاحف اللطاف في أيام المعتصم”، وقال ابن حجر (ت 852هـ) إن إسماعيل الزُّمُكْحُلُ (ت 788هـ) “كتب من المصاحف اللطاف شيئا كثيرا”.

ومع العوائق التي يفرضها إرهاق العمل اليدوي من بطء وتعثُّر فإن الوراقين تميزوا بغزارة الإنتاج وتعدد “طبعات” النشر، حتى إن الكتاب الواحد كانت تتداول منه مئات النسخ في الوقت ذاته. ويكفي مثالا على ذلك أنه رغم ندرة كتاب ‘الفرق بين النبي والمتنبي‘ للجاحظ -حتى إنه كان ينادى بالبحث عنه في موسم الحج- فإن الحموي يقول “رأيت أنا منه نحو مئة نسخة أو أكثر”. وهناك مِن العلماء مَن “كان في خزانته ألف نسخة من صحيح البخاري” وحده!!

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

تنافس تجاري

تجاوز الوراقون نطاق الإنتاج العلمي والأدبي الواقعي إلى صناعة الكتب الأدبية الخيالية، سواء منها ما كان لغرض تعليمي يستهدف الأطفال، أو ذاك الذي سعى إلى توفير مادة خفيفة تطالَع تفكُّهاً لملء أوقات الفراغ؛ ولذلك كان للقصص والروايات كتابها المتخصصون في إبداعها. فها هو النديم يحدثنا -في ‘الفهرست‘- أنه “كانت الأسمار والخرافات مرغوبا فيها مشتهاة في أيام خلفاء بني العباس، وسيما في أيام المقتدر (ت 320هـ)؛ فصنف الوراقون وكذبوا، فكان ممن يفتعل ذلك رجل يعرف بابن دلان.. وآخر يعرف بابن العطار وجماعة. وقد ذكرنا.. من كان يعمل الخرافات والأسمار على ألسنة الحيوان وغيره”.

وفي عملهم الشامل والهائل هذا؛ كان الوراقون يتبارون في سرعة الخط والقدرة على نسخ المؤلفات الكبيرة؛ وقد قدّم لنا المراكشي تقديرات ورّاقي زمانه لأحجام الكتب فقال إن “المجلد اللطيف” (= الصغير) يكون بحجم ديوان المتنبي (قرابة 5350 بيتا)، و”المجلد المتوسط” يكون قَدر ديوان أبي تمّام (نحو 7300 بيت)، و”المجلد الضخم” يضم 15 ألف بيت فأكثر، ولعل ثمة “المجلد الكبير” الذي سيكون وسطا بين “المتوسط” و”الضخم”.

ومن صور التباري بين الوراقين؛ أن أبا الفضل محمد بن طاهر المقدسي الظاهري (ت 507هـ) كان يقول: “كتبت صحيح البخارِي ومسلم وابن داود سبع ‏مرات بالوراقة، وكتبت سنن ابن ماجه بالوراقة عشر مرات. وذكر النديم أن الفيلسوف المسيحي أبا زكريا يحيى بن عدي (ت 364هـ) “كان يكتب في اليوم ‏والليلة مئة ورقة”.‏

وفاخر أبو علي ابن شهاب العكبري جلساءه من الوراقين بأنه ينسخ “ديوان المتنبي في ثلاث ليال”، وقال ابن الخاضبة الوراق (ت 489هـ) إنه في سنة 466هـ وحدها كتب صحيح مسلم ‏”سبع مرات”!! و‘جوهرة التوحيد‘ للقاني (ت 1041هـ) “كُتب منها في يوم واحد خمسمئة نسخة”.

وأفاد المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا بأن الوراق القرطبي محمد بن إسماعيل ابن أبي الفوارس (القرن 4هـ) كان ينسخ المصحف في أسبوعين!! وأخبر المراكشي عن يوسف ابن الجنّان السلَوي أنه اعتاد “نسخ عشرين ورقة من الورق الكبير -وسطور كل صفح منها سبعة وعشرون سطرا- في كلّ يوم”، ونسخ “أزيدَ من ‏مئة مجلّد في مدة ليست بالمديدة”.

وقد يُفرّق الكتاب -خاصة إن كان ضخما- على عدة وراقين طلبا لسرعة الإنجاز؛ كما حصل حين استأجر ابن أبي شيبة (ت 235هـ) عشرة وراقين لينسخوا له كتابه العظيم “المصنَّف”. ووُزّع “تاريخ ‏دمشق” (وكان 80 مجلدا) للحافظ ابن عساكر (ت 571هـ) على عشرة وراقين فأكملوا نسخه في سنتين، وهي “مدة معقولة ‏طبقا لمعايير الوراقين”؛ كما يقول المستشرق فرانز روزنتال. وسبق ذكر أنّ ابن الحطيئة الفاسي كان يتقاسم نسخ الكتاب الواحد مع ‏زوجته وابنته.

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

منتديات ثقافية

عُرف عن الوراقين التفاوت في جودة الخط والضبط؛ فكثيرا ما وُصف وراق بأنه “حسن الوِراقة” أو “سيئ الخط” أو “نبيل الخط ضابط متقن” أو بأنه يكتب “الخط المنسوب”، أي الخط المتناسب الأبعاد هندسيا والذي وضع قواعده شيخ الخطاطين ابن البواب البغدادي (ت 413هـ). فمثلا قال ابن حجر إن ‏إسماعيل الزُّمُكْحُلُ المتقدم ذكره “خطه غاية فِي الحسن مرغوب ‏فيه”.‏

وأثناء عملهم الدقيق؛ كثيرا ما يقع الوراقون –خاصة غير العلماء منهم- في أغلاط فاحشة في النسخ حذفا أو زيادة أو تحريفا أو تصحيفا أو نسبة للكتاب إلى غير مؤلفه، وغيرها من الأخطاء التي وقع فيها النساخ وعانى منها جهابذة المحققين لكتب التراث في زماننا. ولذلك ألف العلماء قديما كتبا في “أخبار المصحِّفين” وفي “شرح ما يقع من التحريف والتصحيف”.

وقد اشتكى الجاحظ -في كتابه ‘الحيوان‘- من أن الكِتاب “يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين… ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يُصلح تصحيفا أو كلمة ساقطة فيكون إنشاءُ عشر ورقات من حُرّ اللفظ وشريف المعاني أيسرَ عليه من إتمام ذلك النقص”. وقال السبكي الابن (ت 771هـ): “ومن النسّاخ من لا يتقي اللَّه تعالى ويكتب عن ‏عجلة ويحذف من أثناء الكتاب شيئا؛ رغبة في إنجازه إذا كان قد استُؤجر على نَسخه جملة. وهذا خائن للَّه تعالى في تضييع العلم”.

ولم تكن دكاكين الوراقين وأسواقهم مجالا لصناعة الكتب ونشرها فقط؛ بل سرعان ما غدت منتديات تلتقي فيها رجالات العلم والثقافة والأدب، فتعقد مجالس الإفادة والإفاضة متصرفةً في ضروب الفكر ومتجولةً في دروب المعرفة، وتخوض نقاشا ونقدا وأخذا وردا.

وقد لاحظ الجاحظ رواج ما يُلقى في سوقهم من إنتاج مكتوب أيا كان، حتى إنه ما من أحد “ولّد حديثا… ثم صوّره في كتاب وألقاه في الوراقين إلا رواه من لا يحصّل ولا يثبِّت ولا يتوقف”. وحدثنا التوحيدي أن جماعة “إخوان الصفاء” لما أرادوا إذاعة رسائل فلسفتهم وتقديمها للرأي العام “بثّوها في الوراقين”.

وذكر ابن الجوزي (ت 597هـ) أنه كان “للوراقين سوق كبيرة وهي مجالس للعلماء والشعراء” بالرصافة من بغداد. ويروي ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- عن الشاعر المشهور أبي بكر الصنوبري (ت 334هـ) أنه “كان بالرُّها (= مدينة أورفة الواقعة اليوم جنوبي تركيا) وراق يقال له سعيد، وكان في دكانه مجلسُ كل أديب…، وما كنا نفارق دكانه… وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر”. وعدّد المقريزي (ت 845هـ) من ضمن معالم القاهرة سوقا لأصحاب الكتب من الوراقين، ثم قال “وما برح هذا السوق مجمعا لأهل العلم يتردّدون إليه”.

فعلى هذه الدكاكين تردد أعلام كبار -سجلت لنا دواوين التاريخ قصصا تحكي زياراتهم لها- من أمثال: الأصمعي وأبي نواس، وأبي العيناء وأبي هفان والجاحظ، والمتنبي و الأصفهاني والسيرافي والنديم، والتوحيدي وابن سيناء والمعري،‏ وياقوت الحموي وياقوت الموصلي وياقوت المستنصري، ومن الفقهاء والمحدّثين الزركشي وابن عرفة التونسي والحافظ ابن حجر العسقلاني.

ولا شك أن قائمة المذكورين تستعصي على الحصر، وما أهمل التاريخ ذكره أكبر وأكثر. وبعض هؤلاء كان وراقا في مرحلة ما من عمره كما نعرفه عن السيرافي والنديم والتوحيدي والياقوتيْن الحموي والموصلي وسميهما المستنصري.

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

الوراقة والقانون

كان الوراقون يتعاطون مع شتى أنواع الكتب والدواوين والوثائق، ولم يكن أغلبهم يكترث لمضمون ما سينسخه أو لشخص من يورّق له؛ فها هو النديم يسجل لنا عناوين نحو 110 كتب ألِّفت أو تُرجمت متضمنة روايات للأسمار وقصصا للعشاق والمتحابين من الإنس والجن!! ولذلك كثيرا ما طالب الفقهاءُ السلطاتِ بمنع الوراقين من تداول ونشر كتب معينة بين الناس.

فقد أورد الطبري (ت 310هـ) في أحداث سنة 279 أنه “كان من أمر السلطان” المعتمد العباسي أن “حُلّف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة”. وذكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ) أنه لما حكم القضاءُ بإعدام الصوفي الفيلسوف أبي عبد الله الحلّاج سنة 309هـ “أحضِر جماعة من الوراقين وأحلِفوا على ألا يبيعوا شيئا من كتب الحلاج ولا يشتروها‏”.

وقد لخص السبكي الابنُ واجباتِ الوراق القانونية في التزامه بـ”ألَّا يكتب شيئا من الكتب المضلّة ككتب أهل البدع والأهواء، وكذلك لا يكتب الكتب ‏التي لا ينفع اللَّه تعالى بها كسيرة عنتر، وغيرها من الموضوعات المختلفة التي تضيع ‏الزمان وليس للدين بها حاجة، وكذلك كتب أهل المجون… ‏فينبغي للناسخ ألَّا يبيع دينه ‏بدنياه”.

ولم تقتصر دكاكين الوراقة على نسخ الكتب والوثائق فقط؛ بل اتسع نطاقها ليشمل كافة الخدمات الكُتبية، بما في ذلك صناعة الورق التي بلغ عدد معاملها في فاس وحدها 104 معامل أيام المرابطين، وتجاوزت أربعمئة معمل في عهد خلفائهم الموحدين. وكذلك فن الخط وفن تجليد الكتب (في الأندلس والمغرب كان يسمى التسفير) وفن زخرفتها (التذهيب أو التزيين)، وهي فنون بلغت مستوى من الإتقان صارت به من أرقى الفنون الإنسانية الجميلة.

وقد احتفظ لنا النديم بأسماء سبعة من مشاهير “المجلِّدين” القدماء، ومن أبرزهم “ابن أبي الحرِيش ” الذي ” كان يجلّد في خزانة الحكمة للمأمون” ببغداد‎.‎ وممن امتهن التجليد إمامُ المالكية في قُطره قاضي القضاة أبو بكر ابن عاصم الغرناطي (ت 829هـ) فقد “كان يجلّد الكتب في صباه.

ومع ازدهار الوراقة؛ تطورت كذلك صناعة الأقلام والمداد وكيمياء تركيب الأحبار من مختلف الألوان، وتفننوا في ذلك حتى تمكنوا من صناعة حبر يُقرأ مكتوبه ليلا ولا يُقرأ نهارا! بل إن الصفدي يخبرنا أنه “كتَب بعضُ المغاربة إلى الملك الكامل (الأيوبي ت 635هـ) رقعة في ورقة بيضاء، إن قُرِئت في ضوء السراج كانت فضية، وإن قرئت في الشمس كانت ذهبية، وإن قرئت في الظل كانت حبرا أسود”!!

الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية
الوراقون وصناعة الكتاب في الحضارة الإسلامية

بداية النهاية

وعلى المستوى التنظيمي؛ كان لا بد لمهنة الوراقة -ككل الحرف والصناعات- من أن توّثّق أعرافها الناظمة وتدون تجاربها المتراكمة، وصار لصنعتها نقابة مهنية تُعرف بـ”مشيخة الوراقين”، كان ممن تولاها عبد الرحمن بن أحمد الحميدي الذي كان “شيخ الوراقين بمصر” في حقبة أخيرة من القرن العاشر الهجري.

وقد أمدتنا أقلام خبراء الوراقة الأقدمين بطائفة من الكتب المرشدة في تقاليد صناعتها تصحيحا بالمراجعة والمقابلة، وتحصينا بالتجليد والترميم، وتزيينا بالتذهيب والزخرفة. ولكن كثيرا منها لم يصلنا سوى عنوانه، ومنها: رسالتان في مدح الوراقين وذمهم للجاحظ، و”‎رسالة الوراقة” لأبي زيد البلخي (ت 322هـ)،‎ وكتاب “تنويق النطاقة في علم الوراقة” لعبد الرحمن بن مسك السخاوي (ت 1025هـ).

وأما الكتب التي وصلتنا نصوصها فقليلة وأبرزها: “كتاب التيسير في صناعة التسفير” لأبي عمرو بكر بن إبراهيم الإشبيلي (ت 629هـ)، ومنظومة “تدبير السفير في صناعة التسفير” لابن أبي حميدة.

وبعد هذه الرحلة الزاخرة الزاهرة؛ كان لا بد لقافلة الوراقين أن تضع عصا التسيار، وما كان لها أن تجد توقيتا أنسب لبدء العد التنازلي لتوقفها الإجباري من “لحظة غوتنبرغ”، تمهيدا لانقطاع مسيرتها النهائي بعد مرور قرنين ونصف على تلك اللحظة.

فبعد سبعة عقود من ظهور اختراع “المطبعة”؛ طرقت الطباعةُ بابَ لغة الضاد فدخلت عالمها بكتاب “صلاة السواعي” المسيحي الذي أصبح أول كتاب يطبع بالعربية سنة 919هـ/1514م. وبتمام الألفية الهجرية سنة 1000هـ/1592م؛ ظهرت باكورة كتب التراث الإسلامي المطبوع أولا بأوروبا: “الكافية” لابن الحاجب و”الآجرومية” و”نزهة المشتاق” للإدريسي، ثم كان أول كتاب من هذا التراث يُنشر مطبوعا في العالم الإسلامي ترجمة معجم “الصحاح” للجوهري إلى التركية، التي طُبعت سنة 1142هـ/1729م في إسطنبول بأول مطبعة تدخل بلاد الإسلام.