“بلاوين”، مدينة ألمانية في إقليم “ساكسونيا”، وادعة بين التلال، باردة ثالجة في الشتاء، باردة غير ثالجة في الصيف، يسكنها -في ذلك الوقت من نهايات القرن التاسع عشر- عشرات الألوف من البشر.
لمدينة “بلاوين” مركز مكتظ، ولها أطراف وضواح كثيرة، واحدة منها قريةٌ هادئة جداً تدعى “أوبرلوسا”، في تلك القرية الهادئة كانت ثمة كنيسة من كنائس البروتستانت، وكان ثمة قسيسٌ ورّث تدينه ووظيفته الدينية إلى ولده، الذي هو والد ضيفنا في هذه المقالة.
في ربيع عام ١٨٨٦ وُلد برجشتراسر، وعاش كما يُتوقّع لطفل ريفي في عائلة محافظة، يعانق الطبيعة، ويتلقى تربيةً ملأى بالأبعاد الروحية، ويبلغ سن الدراسة فيلتحق بمدرسة الدولة في مدينة “بلاون”، تلك المدرسة التي لا تبعد كثيراً عن قريته.
كانت المدرسة متميزة، ولم يكن التلميذ برجشتراسر تليذاً عادياً؛ فقد أوتي ذكاءً ونباهةً، وقدرة لغوية خارقة للمعتاد في أقرانه، وكان من تميز تلك المدرسة أنها تتيح لطلابها تعلم عدد من اللغات الأجنبية، واختار برجشتراسر أصعب الموجود اللغة العربية، وألحق بها اللغة الإنجليزية، وهو الأمر الذي لم يكن ليتحقق نظاماً، لولا ثقة القائمين على المدرسة بقدرة برجشتراسر اللغوية.
في التاسعة عشرة من عمره، وفي مطلع القرن العشرين تقريباً، يغادر برجشتراسر مدينته إلى “لايتبزغ” المدينة الكبيرة القريبة، ليدرس فيها اللغات الساميّة والتاريخ الإسلامي، ويتخرج بعد أربع سنوات من الدراسة الدؤوب والاستذكار الجاد.
وبعد سنوات من العمل في التدريس بإحدى الثانويات الحكومية، ينال برجشتراسر الدكتوراه برسالة تحمل عنوان “استعمال الحروف النافية في القرآن الكريم” عام ١٩١١.
ويشتغل صاحبنا بالقرادة في الفقه والتراث والتاريخ الإسلامي، إضافة إلى خوضه رحلة العمل الأكاديمي، تدريساً، وبحثاً، وأعمالاً إداريةً، في عدة جامعات ألمانية: هي جامعة لايتبزغ، وجامعة برسلاو، وجامعة هايدلبرغ، وجامعة برلين، وجامعة كينجزبرغ، وجامعة ميونخ التي صار عميداً بها لكلية الآداب.
بإتقانه للغة العربية، واهتمامه بالعلوم الشرعية لدى المسلمين، صار برجشتراسر جسراً يصل الألمان بالمشرق، حيث عواصم الإسلام وحواضره، ولا بدّ له من السير نحو ذلك العالم الإسلامي؛ كي يستنشق هواءه، ويصافح أهله، ويفهمه من قراءته لملامح الناس بدل الاكتفاء بقراءة الكتب!
ومن المنطقي أن تتجه عينا برجشتراسر إلى اسطنبول، عاصمة الخلافة العثمانية، المدينة التي تشكل جسراً حقيقياً بين آسيا وأوروبا، بوقوعها في ملتقى القارتين، وعمقها التاريخي ورمزيتها السياسية والحضارية التي لا تخفى على ذي بصر.
في عام ١٩١٤ وجد برجشتراسر نفسه في إسطنبول، ثم وجد نفسه يوغل شرقاً حتى يبلغ سوريا، فيزور دمشق، ثم معان على نقطة التماس بين بلاد الشام وجزيرة العرب، ثم يصعد شمالاً إلى حلب، ثم غرباً إلى لبنان وفلسطين، وقد ضرب برجشتراسر عصافير عدة بحجر واحد: فقد تنزه، وتعرف على العالم الإسلامي، كما أخذ يتعلم اللهجات السورية بعين العالم اللغوي الحادة وذهنه الوقاد، وتعلم الآرامية من سكان قرية من قرى الشام تدعى “معلولة”.
وينتقل برجشتراسر من الشام إلى مصر، ثم يعود إلى دياره مؤقتاً.
ولأن إسطنبول ساحرةٌ أكثر مما يجب؛ ولأن برجشتراسر مبرز في معرفته أكثر من المألوف، وهو كذلك ألماني، وبين الألمان والأتراك تقارب في المزاج كبيرٌ للغاية؛ فقد دعي برجشتراسر ليكون أستاذاً زائراً بجامعة إسطنبول، لثلاث سنوات، والحرب العالمية الأولى تضرب بأذرعها شرقاً وغرباً، وتطحن الناس طحناً لا ينجو العالم كله من آثاره لمدد طوال. ثم يسافر ثانية إلى الشام، فيستكمل تعلم الآرامية، ويزور المكتبة الظاهرية في حلب ويعتكف فيها دهراً، يطالع كتب القراءات والطب، ويعود إلى ألمانيا أستاذاً جامعياً من جديد، متنقلاً بين الجامعات الألمانية المختلفة.
في الرابعة والأربعين من عمره، ينطلق برجشتراسر إلى مصر، ليعمل أستاذاً زائراً في الجامعة المصرية التي تدعى اليوم جامعة القاهرة، ولكنه يواجه مشكلة في الجمارك أثناء دخوله إلى مصر.
كان في حوزة برجشتراسر نسخة من القرآن الكريم أصدرها المستشرق الألماني فلوجيل، وكانت نسخة ملأى بالأغلاط ، حملها برجشتراسر معه في رحلته إلى مصر، ولم تكن هذه النسخة المحتوية على بعض التحريف والتصحيف لتمر مرور الكرام بهيئة الجمارك في الإسكندرية التي كانت الباب الذي دخل منه برجشتراسر مصر!
صودرت النسخة، وحاول برجشتراسر بكل الوسائل أن يستعيدها فلم تفلح جهوده، فمضى متحسراً.
وفي القاهرة، يتعرف برجشتراسر على عدد من المشايخ والعلماء من كبار القراء المصريين: كالشيخ المقرئ محمد بن علي الحسيني، والشيخ المقرئ علي محمد الضباع، وفي ذات مرةٍ يجد نسخته من طبعة فلوجيل لدى الشيخ الحسيني، الذي يضن بها عليه إلا بعد تعهدات طوال بأن يستدرك على تلك الطبعة ويبين ما فيها من الغلط والتحريف، وهو الأمر الذي فعله برجشتراسر بكل تفانٍ.
وقد كان هذا الذي فعله برجشتراسر دليلاً على إنصافه الكبير وتجرده العلمي في تناول الشأن الإسلامي، حيث شن حملة شعواء على نسخة فلوجل، وبيّن ما فيها من التحريف والخلط والتلاعب بأرقام الآيات وترتيب السور.
ولمدة سنتين عاش برجشتراسر في القاهرة، يدرّس الطلاب مواد نوعيةً في اللغات، وينظّر لتطور علم النحو العربي، ويقوم بتسجيل العديد من الأشرطة المحتوية على تلاوات قرآنية نادرة وثمينة لبعض أعلام القراء في مصر.
يعود برجشتراسر إلى ألمانيا، وفي قلب جبال الألب يمارس برجشتراسر رياضة التزلج، وبينا هو يستمتع برياضته؛ سقط سقطة كان فيها حتفه، وكان ذلك في منتصف أغسطس عام ١٩٣٣، مسدلاً الستار على حياة عجيبة، حافلة بالإنجازات العلمية، وملأى بالكتب الكثيرة التي ألفها، والتي حققها ونشرها، بعضها دراسات نحوية ولغوية، وبعضها دراسات في القرآن الكريم وتجويده وقراءاته المتواترة والشاذة، وبعضها في اللهجات العربية، وبعضها في تاريخ العلوم الإسلامية، وبعضها في الدراسات الفقهية.