تتخذ العبادة أشكالا عدة بين السكوت والكلام، والحركة والسكون، والإنفاق والإمساك وغير ذلك من المظاهر والمواقف التي تغطي حياة الانسان منذ أن يستيقظ وإلى أن يأوي إلى فراش. نقف في هذه السطور مع عبادة الانتظار وعلاقة انتظار الصلاة بانتظار الفرج، وكيف نحول هذه اللحظات من لحظات ثقيلة على النفس إلى مصدر للعبادة والسعادة.

يشير النبي إلى أحد تجليات عبادة الانتظار وهو انتظار الصلاة بعد الصلاة فيقول  (‌ألا ‌أدلكم ‌على ‌ما ‌يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)[1] لهذا الانتظار جوانب يمكن ملاحظتها فيما يلي:

1. هذا الانتظار هو إيواء لكهف المسجد نلتقط فيه الأنفاس بعيدا عن الغابة التي في الخارج والتي كلما ازداد إحساسنا بها كلما نمت نوازع الوحشية في نفوسنا وارتفعت صيحة “إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب”، و”تغدى به قبل أن يتعشى بك”، كلما انتفعنا من إيوائنا لبيوت الله كلما حلت الرحمة على القلوب وتحسن مستوى تعاملنا مع الآخرين وعاملناهم على أنهم بشر وفهمنا طبيعة الدنيا وأنها تتسع لخلق الله جميعا كما تتسع السماء لكل النجوم وبذلك تخف حدة الصراع بين الناس.

2. كلما انتظرنا الصلاة استطعنا أن نهيء أنفسنا لهذه العبادة وتخلصنا من الوساوس والمشاغلK وتبصرنا بما نحن مقبلون عليه من لقاء الله عز وجل واستطعنا أن نحصل على مقادير متفاوتة من حلاوة المناجاة لربنا سبحانه وتعالىK حسب القسمة الإلهية واستعداد النفس وقدرتها على التخلص من الشواغل، ولاشك أن هناك فرقا كبيرا بين من يحضر قبل الصلاة بمدة يؤدي تحية المسجد ويذكر ربه بما تيسر له من الذكر وبين من يدخل إلى الصلاة يريد أن يدرك منها ركعة أو بعض ركعة

3. كلما انتظرنا الصلاة مكنّا الملائكة من الاستغفار لنا قال : «فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ‌ما ‌كانت ‌الصلاة ‌هي ‌تحبسه. والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه» [2]

4. لانتظار صلاة الجمعةو  فضيلة مستقلة وأجر زائد قال رسول الله :«من ‌اغتسل ‌يوم ‌الجمعة ‌غسل ‌الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر»[3]

لو قسمنا المدة الزمنية ما بين صلاة الفجر وصلاة الجمعة إلى خمس وحدات زمنية وعبرنا عن كل وحدة بلفظ” ساعة” مع ملاحظة أنها تختلف عن لفظة الساعة التي تساوي ستون دقيقة وعلى ذلك نقول من انتظر خمس ساعات كأنما تصدق ببدنة وهي الجمل سميت البدنة بذلك لأنه تكون كبيرة الحجم ومن انتظر أربع ساعات كأنما تصدق ببقرة ومن انتظر ثلاث ساعات كأنما تصدق بكبش له قرون ومن انتظر ساعتين كأنما تصدق بدجاجة ومن انتظر ساعة واحدة كأنما تصدق ببيضة.

5. الانتظار فرصة لتعويد النفس على ترك ما تحبه، فقد قال العلماء في سبب حصول أجر في انتظار الصلاة وإن لم يعمل شئ أن النفس تحب الانطلاق فتقييدها يقابله أجر من الله وهو تدريب على تهذيب النفس

6. فرصة للدخول في سلك عباد الله الصالحين الذين يباهي بهم ملائكته عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:«صلينا مع رسول الله المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله مسرعا، قد حفزه النفس، وقد حسر عن ركبتيه، فقال: ” ‌أبشروا، ‌هذا ‌ربكم ‌قد ‌فتح ‌بابا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى “»[4]وأي عمل أعظم من عمل يباهي به الله تعالى ملائكته.

إن لم نتمكن من انتظار الصلاة يفتح لنا النبي بابا آخر للأجر  وهو تعلق القلب بالمساجد قال صلى لله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ورجل قلبه ‌معلق في المساجد» [5].

وجاء عند الإمام مالك في الموطأ: «‌ورجل ‌قلبه ‌معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه»[6]. فإن لم نتمكن لضيق الوقت وظروف العمل فتعلق القلب سبب للتظلل بظل عرش الرحمن يتحرك المسلم في عمله وفي حياته لكن قلبه معلق بالمساجد.  

يمكننا خلال فترة الانتظار أن نسكت أو نتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفي آثار قدرة الله ورحمته وإحسانه لخلقه ولطفه سبحانه وتعالى بعباده، ويمكننا أن ندعو ببعض أذكار بعد الصلاة، أو نقرأ في كتاب الله الكريم،  أو أن نسبح أو نستغفر أو نصلي ما كتب لنا.

لا يطلب الإسلام من المسلم أن يجلس طوال وقته في المسجد {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]

فترة الانتظار هي إعادة تأهيل للجسم والعقل والقلب بعدها يعاود المسلم نشاطه في الحياة وسعيه فيها بجد واجتهاد، بعد أن زال عنه الكسل والإعياء والملل يعود إلى الحياة راجيا المزيد من العمل الصالح والحرص على عبادة الله وعمارة الكون.  

في انتظار الخروج من الأزمات

تتقلب الحياة بالإنسان بين ما يسره وما يحزنه، ولا تدوم الدنيا على حال واحدة، وحتى يأذن الله تعالى بالفرج وإزاحة الغمة هل يجلس المبتلى واضعا يده على خده، معتبرا أن ذلك نوع من الرضا بقضاء الله الذي لا يرد أم عليه مع عبادة الرضا عبادة أخرى هي عبادة الفرار من قدر الله إلى قدر الله؟  الفرار من الحزن إلى السعادة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن المرض إلى العافية، واعتبار أن كل خطوة يخطوها هي نوع من التقرب إلى الله، وكل لحظة يقضيها في التفكير للخروج من أزمته هي عبادة لله تعالى.

يبدأ الناس حياتهم العملية ويقسم الله تعالى الأرزاق فيعطي هذا من المال ما لايعطيه لبقية زملائه، ويقسم لذلك من الجاه ما لا يقسمه للآخرين، وتمر الأيام وينتظر من لم يعطوا نصيبهم من المال والجاه يسعون ويكدون، لكنهم لا يزالون في أماكنهم من لم يعبد ربه بعبادة الانتظار، ويقوم بما عليه من التأكد أنه يسعى في الطريق الصحيح، ويتخذ الأدوات المناسبة لبلوغ أهدافه، يظن أنه انتظر بما فيه الكفاية بل طال انتظاره، وعليه أن يسلك الطرق المعوجة، هذا الصنف من الناس يقول له النبي :  لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته”[7].

ونستعرض في الجزء الثاني من المقال بحول الله تعالى من يتحول انتظارهم إلى آلام نفسية مبرحة، وكيف نتجاوز الأيام الصعبة في حياتنا، وارتباط عبادة الانتظار بعبادة الصبر، والانتظار الخاطيء، وارتباط عبادة الانتظار بترقب الخير والتشوف للعبادة.  


[1] صحيح مسلم

[2] «صحيح مسلم» (2/ 129 ط التركية)

[3] «صحيح البخاري» (1/ 301 ت البغا)، «صحيح مسلم» (3/ 4)

[4] «سنن ابن ماجه» (1/ 262)، قال الألباني: صحيح

[5] «صحيح البخاري» (1/ 234 ت البغا)، ومسلم (3/93).

[6] «موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري» (2/ 131)

[7] شرح المشكاة للطيبي، قال محققو جمع الجوامع: الحديث في المطالب العالية باب الإجمال في طلب الرزق ج 1 ص 244 برقم 846 مع مغايرة في اللفظ قال المحقق قال البوصيرى: في سنده انقطاع اهـ.

انظر: جمع الجوامع= الجامع الكبير للسيوطي (7/255): الأزهر الشريف، القاهرة – جمهورية مصر العربية، الطبعة: الثانية، ١٤٢٦ هـ – ٢٠٠٥ م.