اهتم المسلمون عبر تاريخهم بالكتابة حول الحج باعتباره الركن الخامس من أركان الإسلام، وتتنوع هذه الكتابات: فمنها ما يتناول الجانب الفقهي ويبين الشعائر وكيفية أداءها، ومنها ما يصف رحلة الحج ويسجل تجربة صاحب الرحلة الذاتية، ومنها ما يمزج بين الشعائر والآداب والأعمال الخٌلقية، وفي العقود الأخيرة ظهر اتجاه جديد في الكتابة يسعى إلى استنباط الدلالات الرمزية للشعائر والبحث في أصولها التاريخية والنفسية ولعل المفكر الإيراني علي شريعتي من أوائل من أقدم على محاولة تفسير ما وراء الشعائر، وتبعه كتابٌ آخرون مثل المفكر الهندي وحيد الدين خان الذي اطلع على ماكتبه شريعتي حول الحج وأفاد منه في كتاباته التي جمعت وترجمت إلى العربية في كتاب حمل عنوان (حقيقة الحج)، ومما يميزه أن صاحبه لم يكتف بالمقاربة النظرية للفريضة أو بعبارة أدق بالتنظير الفلسفي الذي استغرق شريعتي، وإنما راعى التوفيق بين البعدين الفلسفي والواقعي دون إهمال لأحدهما على حساب الآخر، وهو في عمله هذا أقرب إلى فهم جوهر الحج الذي هو شعيرة دينية تغلفها المعاني والدلالات الإيمانية والروحانية.

جوهر الحج

يعتقد الأستاذ وحيد الدين خان أن الفريضة الخامسة عبادة جامعة، ففيه إنفاق المال، ومشقة الجسد، وذكر الله، والتضحية في سبيل الله، فهو عبادة تشمل روح كل العبادات الأخرى بصورة أو أخرى، وبهذا المعنى ليس الحج كسائر العبادات المفروضة بل هو أفضلها وأعلاها منزلة لأن العبادات الأخرى هي عبادة لله على مستوى الغيب أما الحج فهو عبادة على مستوى الشهود؛ فالحاج يغادر بلده إلى الأماكن المقدسة في مسيرة ممتدة نحو الله تاركا أهله وماله وراء ظهره على نحو تتجسد معه معاني العبودية الخالصة لله، التي هي مقصد الحج الأسمى.

ماهو هدف الحج ؟

حول هذا المعنى قال المفكر الهندي الراحل وحيد الدين خان في كتابه (حقيقة الحج) : ” هدف الحج هو أن يصل كل عبد من عباد الله إلى مقامات الحج مرة واحدة على الأقل في حياته، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فيقدم هناك دليلا على عبوديته الكاملة لله، بمختلف الأعمال والشرائع”.

والحج من جهة أخرى هو تجديد لإيمان المسلم؛ فالمسلم حين يلبي “لبيك اللهم لبيك” فكأنه يبايع ربه ويدخل في الإيمان من جديد فيغفر له الله ذنوبه،”وسقوط الذنوب السابقة على الحج يقع طبقا لنفس القانون الذي يسقط الذنوب التي يرتكبها المرء قبل إسلامه، وتبدأ هذه المعاملة الإلهية مع العباد عند إيمانهم الأول وتكتمل عند إيمانهم الثاني المتمثل في الحج، فإذا كان الإيمان الأول إيمانا بصورة غير مباشرة فالإيمان الثاني إيمان مباشر، ويكفي الإيمان الأول لتطهير العبد من تبعات ذنوبه السابقة ولكنه يكمل بالإيمان الثاني لو كان العبد مستطيعًا رحلة الحج، ولعله لهذا ورد في الحديث الشريف (من استطاع أن يحج ولم يحج فلا عليه إن مات يهوديا أو نصرانيا)”.

استعادة تاريخ التوحيد

وإذا كان جوهر الحج إيماني إلا أن هذا لا ينفي أنه ظاهرة تاريخية كذلك، وقد توقف الأستاذ خان مليا أمام الجانب التاريخي للحج لكنه لم يكتف بترديد السردية التاريخية حول كيفية بناء نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل البيت الحرام، وإنما حاول تأويلها تأويلا جديدا وأقام الصلة بين تلك الواقعة التاريخية وبين وعصرنا الراهن ذاهبا إلى أن رحلة إبراهيم عليه السلام من العراق -المتحضر- إلى مكة ليست سوى خطة إلهية عظيمة عرفت طريقها للتنفيذ قبيل ألفي وخمسمائة عام.

 وخلاصة هذه الخطة أن الشرك غلب على الفكر البشري منذ خمسة آلاف عام وتشربت الأجيال المتوالية من البشر هذا الشرك، وشاءت الإرادة الإلهية أن ينشأ جيل إنساني جديد بعيدا عن مؤثرات الشرك المتوارثة، ولم يكن هذا ممكنا إلا في بيئة جديدة غير مأهولة لم يتسرب إليها الشرك، وكانت مكة النائية في الصحراء هي الموضع الملائم، والإنسان المطلوب لسكناها هو من يكون مدركا أنه ربما يضحي بذاته أو المقربين إليه ثمنا للعيش بها، وهنا رأى إبراهيم الرؤيا المقصود بها التأكد مما إذا كان مستعدا للانضمام للخطة الإلهية ويذهب بولده ويسكنه في مكان قفر، وهكذا بدأت الخطة الإلهية وظهر جيل إنساني جديد، وكان إبراهيم قد دعا ربه أن يظهر من نسل إسماعيل رسولا وكان الرسول استجابة لهذا الدعاء بعد ألفي وخمسمائة عام، ولعل سبب هذا التأخر كما يقول الأستاذ خان هو أن نسلا كان يهيىء بعيدا عن التسلسل الفكري للشرك بحيث يكون مستعدا لحمل أمانة التوحيد.

والحج إعادة رمزية لهذا التاريخ التوحيدي، والحجاج يعاهدون الله عبر شعائره أنهم راغبون في الانضمام للخطة الإلهية، وخاصة أن العالم استدار مجددا ووصل إلى ما وصل إليه عصر إبراهيم عليه السلام إذ يسيطر الإلحاد اليوم بدلا عن الشرك، وأهم واجب إسلامي اليوم هو تحطيم فكر الإلحاد، ولا يكون ذلك إلا باتباع نفس المنهج ألا وهو الاستعداد للتضحية بالنفس من أجل التوحيد.

الجوانب التربوية للحج

ويلتفت الأستاذ وحيد الدين خان إلى جانب آخر من جوانب الفريضة الخامسة ألا وهو الجانب التربوي، وتعبر عنه الآية الكريمة (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، والكلمات الثلاث تستخدم في سياق الآفات الاجتماعية التي تقع عموما بواسطة اللسان، ولما كان اجتماع الناس أمر لابد من حدوثه فإن الحج يعد مناسبة خاصة وتدريب عملي للناس على الاجتماع دون أن يؤذي أحدهم الآخر بكلمة جارحة أو جدال يفضي إلى خصام وشقاق، وهذا التشديد القرآني كما يعتقد الأستاذ خان يزيد من حساسية الإنسان تجاه آفات اللسان ليعود من بعد رحلة الحج وقد شفي لسانه.

ويحظر على الحاج اصطياد الطير أو الحيوان، والصيد مباح في الأحوال العادية لكن هذا التحريم أثناء الحج مقصوده كما يذهب الأستاذ وحيد الدين خان أن يتعلم الإنسان عدم الإيذاء بالنسبة للمخلوقات الأخرى بل يتعداه إلى الإنسان ذاته فيعود من حجه وقد أصبح إنسانا مسالما، ولعلنا في هذه الجزئية أثر الثقافة الهندية التي تحظر الاعتداء على الحيوانات وذبحها ونعتقد أن قوله يحمل بعض المبالغة.

ومن المحظورات على الحاج كذلك استخدام أدوات الزينة، ويبدأ الحج بالإحرام أي بذلك الزي البسيط ويتخلى عن ملابسه الأخرى، وهو خطوة رمزية تدل على التساوي بين البشر، وأن كل الأشياء الظاهرية التي يتفاخر بها الناس ويعظمون آخرون بها هي باطلة عند الله، وعلى من يريد القربى من الله ارتداء رداء التقوى، ومن جانب آخر يلتفت الأستاذ خان إلى معنى آخر وهو أن الإنسان الذي يقف نفسه لأهداف عليا لا يجد لديه متسعا من الوقت للانشغال بالتوافه من زي وتزين وتعطر وخلافه، ومن ينشغل بهما يؤثر الأدنى على الأعلى.

وفي ختام تأملاته يتوقف الأستاذ خان أمام سؤال هام، لماذا لم يحج الرسول إلا في العام العاشر للهجرة، وكان بإمكانه منذ فتح مكة في العام الثامن أن يفعل، وهو يقدم لنا تحليلا مقنعا لهذا الإرجاء ذاهبا إلى أن الإسلام لم يجئ ليحطم أو ليطيح بالتقاليد الاجتماعية القائمة وإنما ليصلحها، وهو عين ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام حين وجد أن قريش استعارت نظام التقويم الشمسي من الأمم الأخرى، وجعلت شعائر الحج تجري وفقا  له ، فلو حج الرسول في العام الثامن أو التاسع لوقع حجه في شهر ذي القعدة، لكنه انتظر حتى العام العاشر حتى تكتمل دورة التقويم التي تتم كل ثلث قرن فيتطابق الحج مع شهر ذي الحجة، وأثناء الحج أعلن عن عودة الحج ليكون وفق التقويم القمري كما كان في الأيام الإبراهيمية، ويحمل هذا التحليل واحدا من أهم المبادئ التي يجب على الدعاة والمصلحين الانتباه لها، وهو أن الإصلاح لا يكون بغتة وإنما يأتي تدريجيا وعلى مهل حتى لا يحدث خلل في البناء الاجتماعي ويجابه بعنف لا سبيل إلى تلافيه.