في مشهدٍ يجمع بين العراقة والمعاصرة، تُطلّ جائزة “الأخلاق” لفن الخط العربي في الدوحة بقطر، كواحدة من أبرز المبادرات الثقافية التي تسعى إلى إحياء تراث الأمة البصري والروحي، وربطه بقيمها الإنسانية الأصيلة. الجائزة التي بلغت هذا الشهر محطّتها الختامية، معلنة عن أسماء فرسان القلم الذين نجحوا في تجسيد روح الأخلاق الإسلامية عبر جمالية الحرف العربي.
ما هي جائزة “الأخلاق” لفن الخط العربي؟
“جائزة الأخلاق” هي مسابقة دولية سنوية متخصّصة في فن الخط العربي، تُركّز على النصوص الأخلاقية الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وأقوال السلف الصالح، والحكم العربية الأصيلة.
تُنظَّم تحت رعاية ثقافية رفيعة، غالبًا بالشراكة مع مؤسسات تعليمية أو ثقافية عربية وإسلامية (مثل وزارة الثقافة، أو جامعات، أو مراكز بحثية متخصّصة في الفنون الإسلامية).
الاسم “الأخلاق” ليس اختيارًا عابرًا، بل يعكس الرؤية الأساسية للجائزة: أن الخط العربي ليس مجرّد مهارة جمالية، بل وسيلة تعبير عن القيم، ووسيلة لغرس الفضيلة، وترسيخ المعاني السامية في الوعي الجمعي.
الهدف من الجائزة
تسعى جائزة الأخلاق إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، أبرزها:
- إحياء فن الخط العربي كتراثٍ حيّ، لا كمتحفٍ مغلق.
- ربط الفن بالمعنى، من خلال اختيار نصوص تحمل قيمًا إنسانية راقية (مثل الصدق، الأمانة، العدل، التسامح، الكرم، الحياء).
- تشجيع المواهب الشابة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي والعربي على الإبداع في هذا الفن الأصيل.
- نشر ثقافة الجمال الأخلاقي عبر وسيلة فنية راقية تلامس القلب والعقل معًا.
- بناء جسور ثقافية بين الأجيال، وبين الدول، عبر لغة الحرف الموحّدة.

شروط المشاركة والفئات
تفتتح جائزة الأخلاق باب التقديم عادةً في الربع الأول من كل عام (يناير–مارس)، وتُوجّه الدعوة إلى:
- الخطاطين المحترفين
- الهواة الموهوبين
- الطلاب المتخصّصين في الفنون الإسلامية أو التصميم
وتنقسم المشاركات إلى فئات متعددة، مثل:
- فئة الناشئين (تحت 18 سنة)
- فئة الشباب (18–30 سنة)
- فئة المحترفين (فوق 30 سنة)
- فئة ذوي الهمم (لتشجيع الإبداع الشامل)
ويشترط أن تكون الأعمال:
- أصلية وغير منقولة.
- مكتوبة بخط عربي تقليدي (كالثلث، النسخ، الديواني، الكوفي، الفارسي، وغيرها).
- مستوحاة من نصوص أخلاقية صريحة (يُرفق مصدر النص مع العمل).
- مقدّمة بصيغ رقمية عالية الجودة (للمشاركات عن بُعد)، أو بأعمال أصلية (في حال التصفيات النهائية).
مراحل التقييم والنهائيات
تمرّ المشاركات بعدة مراحل:
1- الاستقبال والفرز الأولي: تُستبعد الأعمال غير الملتزمة بالشروط.
2- التقييم الفني: من قبل لجنة تحكيم مكوّنة من كبار الخطاطين والفنانين والباحثين في الفن الإسلامي، وتُقيّم الأعمال وفق معايير دقيقة:
- جمالية الخط ودقّته
- أصالة التكوين البصريعمق الربط بين النص والشكل
- جودة التنفيذ
3- التصفيات النهائية: تُعرض الأعمال المتأهلة (عادةً 15–20 عملًا) في معرض فني يُقام في عاصمة عربية أو إسلامية (مثل الدوحة، أبوظبي، الرباط، إسطنبول، أو القاهرة).
4- حفل توزيع الجوائز: يُعلن فيه عن الفائزين في كل فئة، وسط حضور نخبوي من المثقفين، الفنانين، والإعلاميين.

الجوائز والتقدير
تمنح جائزة الأخلاق جوائز مالية رمزية وتشجيعية، لكن الأهم هو الاعتراف الثقافي والمهني، حيث يحصل الفائزون على:
- درع جائزة الأخلاق مصمم بعناية فنية تحمل شعار “الأخلاق”.
- شهادة تقدير معتمدة من الجهة المنظِّمة.
- نشر أعمالهم في كتالوغ خاص بالجائزة، وفي منصات إعلامية مرموقة.
- فرص للمشاركة في معارض دولية أو ورش عمل متخصّصة.
وفي بعض الدورات، تُخصَّص جوائز خاصة مثل:
- جائزة الجمهور (يختارها الزوار عبر تصويت إلكتروني)
- جائزة الإبداع الأخلاقي (لأفضل تجسيد لمعنى النص)
ندوات وفعاليات مصاحبة
وتحت رعاية وزارة الثقافة تم تنظيم عدة فعاليات مصاحبة للمسابقة الدولية لفن الخط العربي”جائزة الأخلاق” التي تعد من أبرز المبادرات الثقافية الرامية إلى إبراز جماليات الخط العربي وتعزيز حضوره في المشهد الثقافي المحلي والدولي. حيث واكبت المسابقة سلسلة من الندوات والبرامج الثقافية المصاحبة، أقيمت على مدار أربعة أيام بمشاركة نخبة من الخطاطين والفنانين والأكاديميين. ففي ندوة بعنوان “الخط العربي.. تجارب قطرية” شارك فيها إبراهيم فخرو الكاتب والمُؤلّف، والخطاط الكويتي جاسم معراج والخطاطة القطرية خلود الكواري.
ناقش المتحدثون في هذه الندوة تجربة الخط العربي في قطر، وكيف تمكنت الدولة من دمج الفن الإسلامي في المعمار الحديث، وفي التعليم، وفي الحياة اليومية. كما يعرضون أمثلة على مشاريع وطنية استخدمت الخط العربي كرمز هوية.
وفي ندوة بعنوان “الخط العربي وتعزيز القيم الإنسانية والجمالية”، شارك فيها د. يوسف شلار – المدير التنفيذي لأكاديمية الخط العربي قطر، وعبد السلام البيسوني (خطاط مصري) ومقدّم برامج دينية وثقافية وخبير بوزارة الأوقاف بقطر، ركز المتحدثون على البعد الأخلاقي للخط، وكيف يمكن استخدامه كوسيلة لغرس القيم في الأجيال الجديدة. كما ناقش المتحدثون كيف أن النصوص التي يكتبها الخطاطون (مثل: “وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”) ليست مجرد كلمات، بل دعوات يومية للخير.
وفي ندوة “زخرفة الخط وتشكيل المعنى”التي شارك فيها الخطاطون عبد الله فخرو وحميد السعدي وفاطمة الشرشني وهي فنانة تشكيلية أيضا، تم مناقشةالجانب الجمالي والفني للخط، وكيف تستخدم الزخرفة لإبراز المعنى، وليس فقط لتجميل الشكل. كما عرض المتحدثون أعمالًا فنية تجمع بين الخط والرسم، وتُظهر كيف أن “الزخرفة” ليست زينة، بل لغة بصريّة تحمل رسائل.

وكانت آخر فعالية مصاحبة لمسابقة “جائزة الأخلاق” عبارة عن ندوة بعنوان “هندسة الخط والتقييمات الحديثة” نشطها يوسف أحمد الحميد (فنان تشكيلي) وبلعيد حميدي (أستاذ في الخط)، وصالح العبيدي (خطاط وفنان تشكيلي)، وقد تمت مناقشة كيفية تقييم العمل الخطّي في العصر الحديث، وما إذا كان يجب الالتزام بالقواعد التقليدية أم السماح بالابتكار. وتطرق يناقش المتحدثون أيضا إلى دور التكنولوجيا في إحياء الخط، مثل استخدام البرامج الرقمية، أو الطباعة ثلاثية الأبعاد للخطوط.
لماذا تحمل “جائزة الأخلاق” أهمية خاصة؟
في عالم تهيمن عليه الصورة السريعة والسطحية، تأتي جائزة “الأخلاق” كـمُذكِّرة بأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن المعنى، وأن الحرف العربي ليس مجرد رسم، بل روحٌ تتنفّس قيمًا. إنها محاولة جادة لاستعادة الصلة بين الفن والفضيلة، وبين الإبداع والهوية، في زمنٍ نحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى إلى خطٍّ يُصلح القلوب قبل العيون.
كما أن الجائزة تُسهم في بناء جيل جديد من الخطاطين لا يتقنون فحسب رسم الحروف، بل يفهمون عمق ما يكتبون، ويتحمّلون مسؤولية نقل رسالة أخلاقية عبر فنّهم – وهو ما يجعل من كل ضربة قلمٍ دعوةً للخير، وصرخةً ضدّ القبح المعنوي.
ختامًا، ليست جائزة “الأخلاق” مسابقة فنية فحسب، بل مشروع ثقافي حضاري يسعى إلى أن يعود الخط العربي إلى موقعه الطبيعي: ليس كزينة جدران، بل كـضمير بصري للأمة، يُعلّمنا أن أجمل ما يُكتب هو ما يُحسَن فعله.
