كتاب رضا جوادي بعنوان “الزمن والإلوهية بين الفلسفة الإسلامية وفن الخط العربي”،الصادر عن دار القلم بتونس عام 2020. دراسة تشكل جسرا بين الفلسفة وبين الفن، واعتمدت ممثليْن لكل من البعدين، فقد اعتمدت الزمن والألوهية كممثليّن للفلسفة بينما جعلت من الخط العربي هو الممثل المعتمد للفن.

واذا تجاوزنا التكرار في سرد مقولات الفلاسفة اليونان والمسلمين حول الألوهية والزمن، فان دراسة رضا جوادي حول “الزمن والألوهية بين الفلسفة الإسلامية وفن الخط العربي” تنفرد بفرضية لها سبق فيها –كما يؤكد كاتبها- وهي أن فن الخط العربي بخاصة يتباين عن الفن الغربي القديم بعامة في اعتماد التجريد (كما سنوضح لاحقا)، وأن الخط العربي بأشكاله المختلفة يحمل دلالات الزمن بمعناه الأزلي (بلا بداية) والأبدي (بلا نهاية)، والإستدلال من فنون الخط العربي على حضور الله الواحد.

العلاقة بين “إقرأ” والكتابة والخط

وفي هذا السياق تقدم الدراسة دلالات الخطوط المستديرة والمستقيمة والمنحنية والزوايا وكل جماليات التشكل الذي تأخذه هذه الخطوط، ليصل إلى ربط هذه المعاني بدلالاتها الزمنية والروحية، وربط الباحث بين تطور الخط العربي جماليا وبين نهي الإسلام عن التصوير والتجسيد، ومن هنا غابت الصور والرسوم التجسيدية عن الفن الإسلامي واستعاض المسلمون عنها بتوظيف الخط العربي فنيا، بخاصة أن القرآن بدأ بكلمة “إقرأ” وبالإشارة للقلم في “علَّم بالقلم” و “نون والقلم وما يسطرون”..الخ، وهو ما يعني العلاقة بين إقرأ والكتابة والخط .

دافع الكاتب عن فرضيته وسعى إلى إثبات العلاقة الوطيدة بين فنون وأشكال الخط العربي وجمالياته وما تحيطه من زركشات وبين الزمن والألوهية، وحاول أن يدعم ذلك مستندا لمفاهيم الفلاسفة من المسلمين أو مما قاله المستشرقون ، لكني أزعم أن الكاتب خصص لفرضيته المركزية أقل من 30 % من الكتاب، وغرق في شروحات ومقارنة بين الفلاسفة اليونان بخاصة (وتحديدا أرسطو) وبين الفلاسفة المسلمين (وبخاصة الفارابي والغزالي وابن سينا) في موضوعات لم أتمكن من إيجاد الرابط بين هذه المقارنات وبين فرضية الدراسة إلا في النزر اليسير منها، فقد طغت المقارنات بين الفلاسفة في موضوعات الزمن والوجود وقدم العالم والنفس، ولكني لم أعثر على الحبل السري بين هذه الموضوعات وبين فرضية الكاتب.

بين الخط العربي والميتافيزيقيا

ومن باب “ليطمئن قلبي” استعنت بزملاء من كلية الفنون للتأكد من انفراد كاتبنا بفرضيته (العلاقة بين فن الخط العربي والميتافيزيقيا بكل أبعادها أو بعضها) واستعنت بمكتبة الجامعة وبالمكتبة الإلكترونية، وأزعم أن كاتبنا صادق في القول بتفرده في هذا الموضوع، وعليه فإني أزعم أن هذا هو جديد دراسته، فقد درس البعض فن الخط العربي من جوانب عديدة بخاصة جمالياته، لكن ربطه بالميتافيزيقيا لم أجد عليه أية دراسة سابقة وبهذه المنهجية.

أرى أن هذه دراسة رضا جوادي حول “الزمن والألوهية بين الفلسفة الإسلامية وفن الخط العربي” تغري على دعوة الباحثين للولوج في هذا الميدان لما فيه ثراء لنظرتنا لحضارتنا العربية الإسلامية، وبخاصة في البعد الفني الذي كثيرا ما تم الغمز نحوها في هذا المجال، ومن هنا تأتي مساهمة هذه الدراسة.

يقع متن هذه الدراسة في 204 صفحات، وتم تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء، ومقدمتين (أحدهما لغير المؤلف) ومدخل، وفي مقدمة الكتاب (لغير المؤلف).

الفن وحل مشكلة الزمن في التراث الإسلامي

يلخص رضا جوادي دراسته حول “الزمن والألوهية بين الفلسفة الإسلامية وفن الخط العربي” بأنها سعي لإيجاد طريق ثالث لحل التشابك بين الفلسفة واللاهوت، وهذا الطريق هو الفن مجسدا في أحد نماذجه وهو الخط، وتحديدا في دراساتنا هذه الخط العربي. ثم يبدأ الكاتب في مدخله بالتساؤل عن إمكانية الفن في حل مشكلة الزمن في التراث الإسلامي، (القَبْل والبَعْد)، وهدف هذه الدراسة هو مقاربة الحضور الأنطولوجي للزمن من زاوية جمالية وروحية في الخط العربي.

أما مقدمة الكاتب فتبدأ بالإشارة للآية الأولى في القرآن وهي “اقرأ”، وارتباط القراءة بالكتابة، وبالتالي بالخط، وهنا يؤكد على الفارق بين الفن الإسلامي والفن الغربي القديم تحديدا من حيث حضور التجريد في الأول وغيابه في الثاني. وبعد استعراض لموقف ابن سينا من الوجود (المحسوس) والماهية (المدركة حدسا وروحا)،  يصبح مقياس الزمن هو الحياة الباطنية الحدسية، وهذه الفكرة هي المدخل للجزء الأول من الدراسة (معضلة الزمن داخل التراث الفكري للحضارة العربية الاسلامية)، وبعد الإشارة للترجمات من اليونانية للعربية (واختلاط الأبحاث اليونانية  على الفلاسفة المسلمين حينها من حيث تحديد نسبتها لمؤلفيها)، ينخرط الكاتب في سرد فلسفة أرسطو تجاه الزمن والحركة والعلاقة بينهما، ثم يتابع الموضوع مع الفارابي وابن سينا، وكيف سعيا إلى توظيف أرسطو لتحقيق التكافؤ الأنطولوجي بين الوجود والماهية، ويكتمل هذا التوظيف مع الإمام الغزالي.

تغلب الخط على الصورة في التراث الإسلامي

ويقدم الكاتب تفسيره لتغلب الخط على الصورة في التراث العربي الإسلامي استنادا لتحريم التصوير في الإسلام، وأصبح الخط “هندسة روحية بآلة جسدية: كما وصفها التوحيدي. في الجزء الثاني (الزمن المقدس من خلال براهين الميتافيزيقيا وجمالية فن الخط العربي)، شكلت قضية الوجود الاأزلي والأبدي منطلق مناقشة هذا الجزء، ثم يضع فرضيات لها صلة وثيقة بجوهر الدراسة: أن معنى الخط يؤخذ من الخط ذاته لا من النص، أن الخط يترك أثره في النفس حدسيا من خلال تقنيتين هما: الخيط (الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة) والرمي (الخطوط المنحنية والمقوسة)، أما تحريم الصور فتم استبداله بتجميل “كتابة” كلام الله وإضفاء المهابة والتقديس الروحي عليه، ثم يقدم أمثلة للتوضيح (إلى جانب الأشكال التي سنعود لها)، فمثلا تمثل الدائرة الله لأنها بلا نهاية ولا بداية..الخ.

في الجزء الثالث (المقاربة الأنطوثيولوجية لجمالية الزمن المخطوط)، ينتقد الكاتب الفارابي في تخطيه لموضوع “فن الخط”، ويشير إلى أن الخط هو تجسيد صوري لقول الله يدركه الحس، وعليه ففن الكتابة يتجاوز الفضاء البصري متجها للفضاء الروحي، ويناقش فكرة حضور الزمن بأبعاده الثلاثة في نفس اللحظة، فالماضي يحضر بالتذكر، والحاضر بالرؤية والمعاينة والمستقبل بالترقب والاستشراف، وهو الأساس لاعتبار النفس هي مقياس الزمن، لأن النفس تستحضر الزمن عبر الخيال من خلال تجلي الكلام الإلهي في الكتابة المخطوطة، فالخط فعل تكوين له دلالة في الذهن تكثف المعنى، وهناك دلالة نفسية للخط، فالخط الصاعد مثلا له دلالة الفرح والطموح، والهابط للحزن والانكسار  والزاوية المنفرجة للترحيب …الخ..وكل ذلك يتجاوز علوم اللغة ومدارس التفكيك المعاصرة . وفي الخاتمة أكد على علاقة تطور الخط العربي بالقرآن وتحرر الفن الإسلامي من الزمن بمفهومه التقليدي باتجاه الخلود.

توقفت عن منهجية الباحث، فإذا كان أفلاطون تعالى على الفن واعتبره بيعا للأوهام بل وطرد الفنانين من مدينته الفاضلة، فإن بارمينيدس صاغ فلسفته شعرا، فالعلاقة بين الفلسفة والفن علاقة ملتبسة تاريخيا،  وتتباين الأديان في مساحة الفضاء المتاحة للفن في كل منها، لكن الدراسة التي بين أيدينا جمعت الفلسفة والدين والفن وحاولت إيجاد وشائج عقلية ونفسية بينها.

المقارنة بين الفلسفات والأديان والفنون

وقد اعتمدت الدراسة على أدوات منهجية عدة : المقارنة بين الفلسفات وبين الأديان وبين الفنون (بخاصة فن الخط العربي الذي ينفرد من بين خطوط الكتابات كلها بتوظيفه فنيا)، واستخدم التحليل النفسي لتبيان العلاقة بين المقدس وبين كيفية التعبير عنه عبر اللاشعور ودلالات الرمز ( الدائرة لا بداية ولا نهاية لها مثل الله)، كما وظف الاستدلال المنطقي أحيانا (مثل العلاقة بين كلمة إقرا في القرآن والكتابة والخط أو مثل فن الخط العربي ومنع التصوير دينيا…الخ) أو ربط حرف معين بمعطى مادي مثل اعتبار حرف “ن” بانه يشبه المحبرة…الخ.

ورغم اقراري بأن الباحث رضا جوادي قدم في دراسته “الزمن والإلوهية بين الفلسفة الإسلامية وفن الخط العربي”فرضية جديدة (علاقة فن الخط العربي بالزمن واللاهوت) وتمكن من تقديم دلائل لا يستهان بها لإثبات صحة فرضيته كما أوضحنا في البندين السابقين، إلا أنني أرى أن بنية الدراسة كانت على النحو التالي:

أ‌- أجزاء كانت في صلب موضوع الدراسة وهي حوالي 30% من مجمل الدراسة

ب‌- أجزاء لها ارتباط نسبي بالدراسة وموزعة في صفحات مختلفة وتشكل 40% من الدراسة

ت- أجزاء لم أتمكن من التقاط علاقتها بالدراسة وغرق فيها الباحث في تناول موضوعات فلسفية دون إيجاد صلة الوصل وبشكل واضح بفرضية الدراسة( وهذه تصل إلى 30%) (انظر على سبيل المثال الصفحات من 172-176) أو آراء الفارابي حول الوجود والعلم الالهي (من 109-149) وغيرها.


ملاحظة: العناوين الفرعية من وضع الموقع