نزل القرآن الكريم على مرحلتين؛ حيث نزل في المرحلة الأولى جملةً واحدةً، وكان ذلك ليلة القدر، ثمّ نزل مفرّقاً بواسطة جبريل عليه السلام على قلب محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- خلال ثلاثٍ وعشرين سنةٍ، وكان لا بدَّ من جمع القرآن وحفظه مجموعاً بعد وفاة الرسولﷺ باتفاق الصحابة جميعاً بعد وفاة معظمهم حملة القرآن في صدور والخوف عليه من الضياع.
وقد وردت لفظة «الجمع» بمعنى: «الحفظ مع دقة الترتيب» عدّة مرّات في كتاب الله، وذلك من مثل قوله تعالى مخاطباً خاتمَ أنبيائه ورسله ﷺ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنهُ *فَإِذَا قرآناهُ فَاتَّبِعْ قرآنهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ *} [القيامة: 16 ـ 19]. وهذا المعنى آتاه الله تعالى ـ لخاتم أنبيائه ورسله ﷺ ـ ولعددٍ غيرِ قليل من صحابته الكرام، ومن تبعهم من الصالحين إلى اليوم، وحتى يوم الدين، وهؤلاء تدارسوا القرآن الكريم، ولا يزالون يتدارسونه ويستظهرونه، ليتمكنوا من القراءة به في الصلوات المكتوبة، وفي النوافل، وفي الاستشهاد. كما وردت لفظة «الجمع» بمعنى: «الكتابة والتدوين». وقد مرّ جمع القرآن وتدوينه بمراحل ثلاثة:
أولاً: جمع القرآن الكريم كتابة من فم الرسول (صلّى الله عليه وسلّم)
ظلَّ الصحابة يعكفون على حفظ القرآن غيباً، حتى ارتفعت نسبةُ الحفّاظ منهم إلى عدد لا يحصى. وبلّغوه إلى مَنْ بعدَهم بطريقتين اثنتين:
أحدهما: الكتابة التي كانت تتم للقران بأمر الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) لأشخاص بأعيانهم وكّل إليهم هذا الأمر، ولم ينتقل رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) إلى جوار ربه إلا والقرآن مكتوب كله في بيته.
الثانية: حفظه في الصدور عن طريق التلقي الشفهي من كبار قرّاء الصحابة وحفاظهم؛ الذين تلقَوْه بدورهم عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)؛ الذي أقرّهم على كيفية النطق والأداء.
ثانياً: جمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد أبي الصديق رضي الله عنه:
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب مسيلمة الكذَّاب في اليمامة كثيرٌ من حفظة القرآن، وقد نتجَ عن ذلك أنْ قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن، حيث جُمِعَ من الرقاع والعظام والسَّعْف ومن صدور الرجال، وأسندَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا العمل العظيم، والمشروعَ الحضاريَّ الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. وكانت الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم. وكان من أوليات أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنّه أوّل من جمع القرآن الكريم، يقول صعصعة بن صَوْحان رحمه الله: أول من جمع القرآن بين اللوحين، وورّث الكلالة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يرحم الله أبا بكر، هو أول من جمع القرآن بين اللوحين. وقد اختار أبو بكر رضي الله عنه زيدَ بن ثابتٍ لهذه المهمة العظيمة كونه شاباً، حيث كان عمره واحداً وعشرين عاماً، فيكون أنشطَ لما يُطْلبُ منه، كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ مَنْ وهبه الله عقلاً راجحاً فقد يسّر له سُبُلَ الخير وكونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرةٍ سابقةٍ في هذا الأمر، وممارسةٍ عمليةٍ له فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه.
ثالثاً: جمع القرآن الكريم في عدد من المصاحف في عهد عثمان ذي النورين رضي الله عنه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ حذيفة بن اليمان قَدِمَ على عثمان رضي الله عنه، وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزعَ حذيفةَ رضي الله عنه اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفةُ لعثمان: يا أميرَ المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتابِ اختلافَ اليهود والنصارى. فأرسلَ عثمانُ إلى حفصة أنْ أرسلي إلينا بالصُّحفِ ننسخُها في المصاحف، ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصةُ إلى عثمان، فأمرَ زيدَ بنَ ثابت، وعبدَ الله بن الزبير، وسعيدَ بن العاص، وعبدَ الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن؛ فاكتبوه بلسان قريش، فإنّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف، ردَّ عثمان رضي الله عنه الصُّحفَ إلى حفصة، فأرسل إلى كلِّ أُفقٍ بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ، أو مصحفٍ أن يُحرّقَ.
وجمع عثمان رضي الله عنه المهاجرين والأنصار، وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيانُ الأمة، وأعلامُ الأئمة، وعلماءُ الصحابة، وفي طليعتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وعرض عثمان رضي الله عنه هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين، ودارسهم أمرَها، ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للريب إلى قلوب المؤمنين سبيلاً، وظهر للناس في أرجاء الأرض من عقد عليه إجماعهم، فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف، ولا عرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفى على احادِ الأمة فضلاً عن علمائها وأئمتها البارزين.
هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة؟
ذهب الشيخ المحقق محمد صادق عرجون رحمه الله إلى أنَّ صحف الصِّدِّيق؛ التي كانت أصلاً للمصحف الإمام بإجماع المسلمين؛ لم تكن جامعةً للأحرف السبعة التي وردت في صحاح الأحاديث بإنزال القرآن عليها، بل كانت حرفاً منها، وهو الذي وقعت به العرضة الأخيرة، واستقرَّ عليها الأمر في آخر حياة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، وإنما كانت الأحرف السبعة أولاً من باب التّيسير على الأمة، ثم ارتفع حكمها لمَّا استفاض القرآن، وتمازج الناس، وتوحَّدت لغاتهم.
قـال الإمام الطحاويُّ: إنَّمـا كانت السَّعة للناس في الحروف، لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغـاتهم، لأنَّهم كانوا أمِّيين، لا يكتب إلا القليل منهم، فـلمَّا كان يشقُّ على كل ذي لغة أن يتحوَّل إلى غيرها من اللُّغات، ولو رَامَ ذلك لم يتهيّأ له إلا بمشقة عظيمة؛ وُسّع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متَّفقاً، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، فقدروا بذلك على حفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها. وهذا الحرف الذي كتبت به صحف الإجماع القاطع، ونقل عنها المصحف الإمام؛ جامع لقراءات القرّاء السبعة وغيرها، ممّا يقرأ به الناس، ونقل متواتراً عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)؛ لأنّ الأحرف الواردة في الحديث غير هذه القراءات.
عدد المصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار
لمّا فرغ عثمان رضي الله عنه من جمع المصاحف، أرسل إلى كل أفق بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كلَّ مصحف يخالف المصحف الذي أرسله إلى الافاق، وقد اختلفوا في عدد المصاحف التي فرّقها في الأمصار، فقيل: إنها أربعة، وقيل: إنها خمسة، وقيل: إنها ستة، وقيل: إنها سبعة، وقيل: ثمانية ، وبعث رضي الله عنه مع كل مصحف مَنْ يرشدُ الناسَ إلى قراءاته بما يحتمله رسمه من القراءات مما صح وتواتر، فكان عبد الله بن السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشامي، وأبو عبد الرحمن السُّلمي مع المصحف الكوفي، وعامر بن قيس مع المصحف البصري، وأمر زيد بن ثابت أن يقرأ الناس بالمدني. من هذا الاستعراض يتضح أن حفظ القرآن الكريم قد تم بطريقة لم يحظ بها كتاب اخر في تاريخ البشرية كلها، وذلك لأن الله تعالى هو الذي تعهد بحفظه قائلاً: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ*}.
الفرق بين جمع الصديق وجمع عثمان رضي الله عنهما
الفرق بين جَمْع أبي بكر وجمع عثمان: أنَّ جمع أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حملته، لأنّه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتب الآيات على ما وقفهم عليه النبي (صلّى الله عليه وسلّم). وجمعُ عثمان كان لمّا كثُر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك إلى تخطئة بعضهم بعضاً، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتب الآيات والسور، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم دفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أنَّ الحاجة قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة.
إن القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله له منذ أن كان في السماء، وفي طريقه إلى الأرض، وحين نزل إلى الأرض، وإن كتابة القرآن الكريم زمن النبي ﷺ والخلفاء الراشدين مرت بمراحل، تمت بفضل الله وعونه كل مرحلة لها سمتها وخصائصها كما بيّنا سابقاً.
مراجــع البحث:
1- د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، المكتبة العصرية، بيروت، صيدا، ط 1، 2010م، ص (78: 86)
2 – د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، أبو بكر الصديق، دار ابن كثير، ط1، 1424هـ / 2003م، – (264).
3 – البخاري، التاريخ الصغير، دار الوعي، حلب / مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1397 – 1977، (1/94).
4 – د. زغلول النجار، مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1430 – 2009م، ص (68).
5 – د. محمد سعيد رمضان البوطي، لا يأتيه الباطل: كشف لأباطيل يختلقها ويلصقها بعضهم بكتاب الله عز وجل، دار الفكر، دمشق، 2001م، ص (217).
6 – محمد عبد الله غبان الصبحي، فتنة مقتل عثمان بن عفان، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط2، 1424هـ/2003م، (1/78).