ألّف كُتّاب كبار الكثير من الكتب والمؤلفات عن عبقريات الصحابة ومواقفهم العظيمة، كما فعل الكاتب الكبير عباس العقاد وغيره. لكن أمهات المؤمنين ومنهم السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وكثير من الصحابيات لهن أيضاً مواقف تدل على الذكاء والإبداع والحكمة في التصرف في أحلك المواقف. وسوف نكشف في هذه المقالة جوانب من ذكاء وحكمة أمنا عائشة.
نحن في حاجة ماسة إلى ان نعيد دراسة تاريخنا على ضوء ما تحصل لدينا من معارف، وأن نعيد صياغته باللغة التي يفهمها الجيل الحاضر والأجيال القادمة.
المعرفة الصحيحة والحقيقية المبنية على التفكير المتزن كفيلة بأن توجه أجيالنا الوجهة الصحيحة وأن تضمن الولاء الحقيقي لهذا الدين وأصحابه ومؤسسيه.
لا بد من تشغيل العقل والاحتكام إلى المنطق فيما يصح الاشتغال به من الجوانب الكثيرة من ديننا. وليعلم الذين يسيئون إلى أمهات المؤمنين والصحابة ان المنطق، حتى المنطق القديم، ليس في صالحهم بل يحكم بكفرهم، كما سنبين في مقالة أخرى، فليحذر هؤلاء حتى من حكم العقل والمنطق!
سوف نكشف في هذه المقالة جوانب من ذكاء وحكمة أمنا عائشة، رضي الله عنها، وعن قدرتها على التصرف في أحلك المواقف، كما حصل في حديث الإفك، والذي توجهت فيه الاتهامات الباطلة إليها.
وسوف نعتمد في ذلك على حديث طويل رواه الإمام أحمد، وهو عند ابن كثير في تفسير سورة النور الآية 11. ملخص الحادثة ان أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، خرجت في غزوة مع النبي عليه السلام، وبعد انتهاء الغزوة ارتحل الجيش ليلاً، وترك أمنا عائشة خلفه. عادت أمنا إلى المدينة مع الرجل الذي يتعقب الجيش، وبعدها شاعت أخبار السوء حول هذا الموضوع. هيا نتمعن فيما حصل ونستكشف جوانب من شخصية أمنا عائشة رضي الله عنها، والتي تدل على إبداعها وحكمتها في التصرف على الرغم من حداثة سنها.
حكمة التصرف
أمنا عائشة خرجت في هذه الغزوة مع الرسول عليه السلام بناء على القرعة، وقد حصلت أحداث الإفك بعد فراغ الجيش من هذه الغزوة. قالت أمنا: (فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي). خروجها إذن ليس بناء على طلبها، وان كانت كل واحدة من زوجات النبي عليه السلام تتمنى الخروج معه، لكن الاختيار راجع إلى القرعة العشوائية.
سبب تأخر أمنا عائشة عن الجيش، الذي ارتحل من الغزوة، هو ذهابها لقضاء حاجتها ثم بحثها عن عقد سقط منها أثناء ذلك. وهل يُنكر هذا السبب، وهل يمكن مقاومته؟
الذين حملوا هودج أمنا عائشة ظنوا أنها فيه، فقد كانت صغيرة السن، وكانت أيضاً خفيفة الوزن، فلم يلمسوا الفرق، وهذا ينطبق على بقية النساء أيضاً. قالت أمنا: (وكانت النساء إذ ذاك خِفافاً، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين حملوه، وكنت جارية حديثة السن). غلطة من هذه؟
عادت أمنا عائشة ولم تجد الجيش، إذ يبدو أنهم خرجوا بسرعة، فماذا فعلت؟ رجعت إلى حيث كانت، وهذا من أسلوب العكس في التفكير الإبداعي. قالت أمنا: (فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه). والنقطة الأخرى التي رجحت هذا السلوك الإبداعي هي انها فكرت انهم سيرجعون بحثاً عنها. والى أين سيرجع من يبحث عنها؟ سيرجع إلى مكانها الذي كانت فيه أصلاً. قالت أمنا: (وظننت ان القوم سيفقدونني فيرجعون إلي). لله درك يا أماه كيف تفكرين على الرغم من حداثة سنك!
الذي وجد أمنا عائشة، وكانت نائمة، هو صفوان السلمي وهو الذي يتفقد الجيش بعد رحيله، فأخذ يسترجع ولم يقل إلا ذلك (إنا لله وإنا إليه راجعون).أمنا عائشة تخمّرت بجلبابها، ولم تُكلم الرجل ولم يكلمها بشيء. قالت أمنا: (والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه). ركبت أمنا عائشة الجمل وسارت إلى المدينة في منتصف النهار. وهذا يعني انه لم يكن هناك ما تخجل أمنا منه.
ألم الظلم
أفاض الناس في حديث الإفك هذا، لكن أمنا لم تكن تشعر بذلك لحوالي شهر، فلم يخطر ببالها مثل هذا، وكان ما يهمها هو موقف الرسول عليه السلام بعد ان عرفت بالأمر. لكن الأمر عظيم ووراءه مواقف عظيمة جعلت النبي يتصرف كبشر عادي، بانتظار الوحي، وكانت صيغة سؤاله، عليه السلام، عن أمنا حين يدخل عليها في بيت أهلها: (كيف تيكم؟). انظروا إلى هذا الموقف العظيم: ليس يهمها غير موقف النبي من ذلك، ولا يؤلمها إلا هذا الموقف. لكن الرسول عليه السلام لم يظن إلا خيراً بأمنا عائشة، فقد كان يردد: (فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً).
انظروا كيف كانت أمنا تُحسن الظن بالناس، وكيف هم أساءوا بها الظن. أم مِسطح دعت على ابنها الذي أشاع خبر الإفك، فاستغربت أمنا كيف تدعو هذه على ابنها وهو قد شهد معركة بدر. قالت أمنا: (بئسما قلتِ، تسبين رجلاً شهد بدراً؟)، تحسن به الظن وهو يشيع خبراً كاذباً عنها.
لم تكن تتوقع أمنا ان يكبر هذا الأمر إلى هذا الحد، وهو أمر لا يستحق هذا الاهتمام، فهي من المؤمنات الغافلات اللاتي لا يخطر ببالهن مثل هذه الأمور. كيف وهي زوجة النبي عليه السلام وهي المحببة لديه؟ قالت أمنا: (سبحان الله، أوَقد تحدّث الناس بهذا؟).
أمنا تروي لنا رأي الذين استشارهم الرسول في هذا الأمر بحذافيره. أسامة بن زيد قال ما أعلم إلا خيرا. علي بن أبي طالب قال ان النساء سواها كثير، وأشار على الرسول ان يسأل الخادمة، وما قالت في أمنا إلا الخير.
أمنا على حداثة سنها تتصرف بغاية الحكمة، وذلك عندما حضر الرسول عليه السلام إلى بيت أبيها، ووعظها، فطلبت من أبيها ان يرد على الرسول فلم يفعل، وطلبت من أمها ان ترد فلم تفعل. قالت أمنا: (والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت، وأنا جارية حديثة السن لا أحفظ كثيراً من القرآن: والله لقد علمتُ أنكم قد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدّقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)).
شدة ثقة أمنا عائشة بنفسها بفعل إيمانها القوي، وذلك على الرغم من حداثة سنها. قالت أمنا: (وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وان الله تعالى مُبرئي ببراءتي).
ومن أخلاق وذكاء وحكمة أمنا عائشة شدة تواضعها. قالت أمنا: (ولشأني كان أحقر في نفسي من ان يتكلم الله فيّ بأمر يُتلى).
بعد ثبوت براءتها تتوجه أمنا عائشة بالحمد والشكر إلى الله تعالى قبل أي أحد، حتى وان كان الرسول، عليه السلام، هو الذي ساق إليها البُشرى. قالت أمنا: (فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل، هو الذي أنزل براءتي).
تلك هي صفات المبدعين ومواقفهم العظيمة! فما أعظمك يا أمنا عائشة، ووددت لو ألقاك فألثم التراب الذي تسيرين عليه. رضي الله عنك وعن كل أمهات المؤمنين، ونرجو الله ان يجمعنا بهذا الرعيل الأول في جنات النعيم.
عزيز محمد أبو خلف – 05 أكتوبر 2010