حب الوطن غريزة فطرية يشترك فيها الإنسان مع غيره، فيألَفُ أرضَه ولو كانت قفراً مستوحَشاً، ويستريح إلى البقاء فيه على علاته، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص.

هواؤه لديه عليل ولو كان محمَّلاً بالغبار، وماؤه زلال ولو خالطته الأقذاء والأكدار، كما قال القائل.

بلادٌ أَلِفْناهَــــا عَلـــى كُلِّ حالــــةٍ ** وقَدْ يُؤلَفُ الشيءُ الذى ليس بالحَسَنْ

وَنَسْتَعذَبُ الأرضَ التِي لاَ هَوا بِها ** ولا ماؤُهَا عَــذْبٌ ولكِنَّها وَطَــنْ

وهذا المعنى هو ما عبر عنه الشاعر الشنقيطي سيدي محمد ولد الشيخ سيديا، وهو يخاطب بئرا في حيه وموطنه بقوله:

حَبَسْنَا عَلَيْهَا وَهْيَ جَدْبٌ سَــوَامَنَا ** فَمَا صَدَّنَا السَّعْدَانُ عَنْهَا وَلَا صَدَّا

وَيَظْعَنُ عَنْهَا النَّاسُ حَالَ انتِجَاعِهِمْ ** فَلَمْ نَنتَجِعْ بَرْقًا يَلُوحُ وَلاَ رَعْدَا

نَظَلُّ وُقُوفًا صَائِمِينَ عَلَى الظَّمَا ** نَخَالُ سَمُومَ الْقَيْظِ فِي جَـــنبِهَا بَرْدَا

وَتُذْرِي عَلَيْنَا الرَّامِسَاتُ غُبَارَهَـا ** فَنَنشَقُهُ مِنْ حُبِّ إِصْلَاحِهَا وَرْدَا

وَيَشْرَبُ كُلُّ النَّـاسِ صَفْوَ مِيَاهِهِمْ ** وَنَشْرَبُ مِنْهَا الطِّينَ نَحْسِبُهُ شَهْدَا

ولو تأملنا في نصوص الشرع فإننا نجدها لا تأبى هذا الحب ولا ترفض هذا الولاء ما دام منضبطا بضوابط الشرع،  ولعل خير دليلٍ على ذلك ما ورد عنه يوم الهجرة، بعد أن خرج من مكة، ووقف على حدودها، التفت إليها قائلا: ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك.[1]

ولما أخبر ورقة النبي قبل ذلك بأن قومه سيكذبونه ويؤذونه ويخرجونه ، قال: بأبي هو وأمي أو مخرجي هم؟ قال السهيلي: وفي حديث ورقة أنه قال لرسول الله – – لتكذبنه، فلم يقل له النبي – – شيئا، ثم قال: ولتؤذينه، فلم يقل النبي – – شيئا، ثم قال: ولتخرجنه، فقال: أو مخرجي هم؟

ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس، وأيضا فإنه حرم الله وجوار بيته وبلد أبيه إسماعيل، فلذلك تحركت نفسه عند ذكر الخروج منه ما لم يتحرك قبل ذلك فقال: أو مخرجي هم؟.[2]

ولما قَدِم أُصيل الغفاري على رسول الله من مكة سألته عائشة كيف تركت مكة ؟ قال : أخضرت جنباتها ، وابيضت بطحاؤها وأغدق إذخرها وانتشر سلَمها ، فقال له رسول الله : «حَسْبُكَ يَا أَصِيلُ لَا تُحْزِنَّا» [3].

ومن ذلك أيضا حبه للمدينة بعد انتقاله إليها وصيرورتها وطنا له بعد مكة فقد أحب ترابها وجبالها وأهلها ودعا لها فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ ، أي حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا” وَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ مَشْرُوعِيَّة حب الوطن والحنين إِلَيْهِ.[4]

وأخرج مالك في موطئه من حديث أبي هريرة أنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله – – ، فإذا أخذه رسول الله – – قال : ” اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، ومُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ مِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ “.[5]

وقد حن أصحابه إلى مكة وترنموا بذلك الحب وعبروا عنه ولم ينكر عليهم كقول بلال رضي الله تعالى عنه.

أَلا ليْتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً … بوادٍ وَحَوْلي إذْخِرٌ وَجَليلُ

وهل أَرِدَنْ يَوْماً مِياهَ مِجَنَّةٍ… وهَلْ يَبدُوَنْ لي شامَةٌ وَطَفيلُ.[6]

غريزة حب الوطن والشوق إليه عند البعد عنه ومفارقته جعلت الأعرابية ميسون ابنة بحدل الكلبيَّة لما زفت إلى معاوية بن أبي سفيان من بادية كلْب فسكنت قصور الشام تحن وتشاق إلى باديتها وتقول:[7]

لَبَيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيه … أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ

وأصوات الرِّياح بكلِّ فجٍّ … أحبُّ إليَّ من نقرِ الدُّفوفِ

ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيني … أحبُّ إليَّ من لبسِ الشُّفوفِ

وقد ذكر الله الدّيار فخبّر عن موقعها من قلوب عباده، فقال: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } النساء 66.

وقال: {وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا} البقرة 246.

فهذا يدل على شدة التعلق بالديار وعظمة مكانتها في النفس.

وذكر الجاحظ في المحاسن والأضداد أنه قيل: لولا حب الوطن لخرب بلد السوء. وكان يقال: بحب الأوطان عمرت البلدان.

وذكر أن  أعرابيا سئل: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية، فقيل له: وأين تسكن منها؟

قال: مساقط الحمى حمى ضرية ما إن لعمر الله أريد بها بدلاً ولا أبتغي عنها حولاً …فقيل له: ما طعامكم؟ قال: بخ بخ الهبيد والضباب واليرابيع مع القنافذ والحيات وريثما الله أكلنا القد واشتوينا الجلد، فلا نعلم أحداً أخصب منا عيشاً.

وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً فيرفض عرقاً كأنه الجمان ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساه وتقبل الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى.[8]


[1] سنن الترمذي وصححه الألباني. حديث رقم 3926

[2] شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى لأبي شامة ص163.

[3] أخبار مكة وما جاء فيها من الأثار للأزرقي 2/155.

[4] فتح الباري لابن حجر 3/621.

[5] الموطأ حديث رقم 1846.

[6] صحيح البخاري حديث رقم 1889

[7] التذكرة الحمدونية للبغدادي 7/416.

[8] المحاسن والأضداد للجاحظ ص117.