ما من إنسان إلا ويتعرض لهجمات حقيقية أو متوهمة والناس يختلفون في استقبال هذه الهجمات فمنهم من يترقبها ويستعد لها، ومنهم من لا يعتني بها غفلة عن الأخطار القريبة والبعيدة، ومنهم من يعتمد على معرفته بطبيعة الحياة وطبيعة أعدائه وقدراته على رد العدوان منفردة أو مجتمعة مع من يتخذ نفس الموقف أو يرتبط بنفس المصالح، ومنهم من يرى أن الله سبحانه وتعالى حسبه وكافيه، وأنه سيكون – على قدر طاقته – مع الله حتى يكون الله تعالى معه يمده بمدد من عنده فينبهه إلى الخطر ويسخّر له من يدفع عنه في حضوره أو غيابه، ولسان حاله قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل.

إن التثبيط في حياة الناجحين أو من يسعون للنجاح أحد المعوقات الكبرى، وبعض الناس يستجيب له لضعف ثقته بما منحه الله من نعم، أو استجابة لتيار عام لا يريد أن يقاومه، أو يشذ  عنه، أو عجز عن تحمل تكاليف الكفاح، ومنهم من يدرك إرادة المعوقين العاجزين عن النجاح في أن يتشارك الجميع في الفشل، كما يدرك خشية من صعدوا للقمم من منافس جديد يبين لهم  وللناس كيف يكون النجاح والإنجاز، وأن الصعود للقمم ممكن بمعونة الله تعالى.

ودائما ما يلبس هؤلاء زي الناصح الحريص المحب الذي يوهمك بأنك ضعيف لا طاقة لك بأعدائك، فهم أكثر عددا وعٌدَدا، فإذا اقتنعت بأنه ناصح أمين دخل في قلبك الوهم والوهن، وتسرب الضعف إلى قواك، وبذلك تكون المعركة بينك وبين خصومك قد انتهت قبل أن تبدأ.

وعلى أي حال فللمؤمنين تحصين رباني من قتلة الطموح وأعداء النجاح يحميهم من الوقوع في آبار اليأس العميقة، ومن ذلك ما جاء في كتاب الله تعالى عن محاولة فاشلة لبث الوهن في قلوب المسلمين  (روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] نزل في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان، قال: حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمَّد موعدنا موسم بدر القابل، إن شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى.

فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مِجنَّة من ناحية مر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، فلقي نُعيم بن مسعود، وقد قدم معتمرًا، فقال له أبو سفيان: إني واعدت محمدًا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع، وأكره أن يخرج محمَّد، ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأةً، فالحق بالمدينة، فثبطهم ولك عندي عشرةٌ من الإبل، أضعها في يدي سهيل بن عمرو. فأتى نُعيم المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: ما هذا الرأي؟ أتوكم في دياركم، وقراركم، ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم، وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم، فوالله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد في نفوس قوم منهم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “والذي نفسي بيده لأخرجن، ولو وحدي فخرج، ومعه سبعون راكبًا يقولون: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} حتى وافى بدرًا الصغرى – بدر الموعد – فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، فلم يلق أحدًا؛ لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجلٍ، فسماه أهل مكة جيش السويق، وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق”.

ووافى المسلمون سوق بدرٍ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا، واشتروا أدمًا، وزبيبًا، فربحوا، وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى. {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174][1]

 وقال في ذلك عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ أو كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ :

وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ وَعْدًا فَلَمْ نَجِدْ لِمِيعَادِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتَنَا فَلَقِيتَنَا لَأُبْتَ ذَمِيمًا وَافْتَقَدْتَ الْمَوَالِيَا تَرَكْنَا بِهِ أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنَهُ وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثَاوِيَا عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ أُفٍّ لِدِينِكُمْ وَأَمْرِكُمُ الشَّيْءَ الَّذِي كَانَ غَاوِيَا وَإِنِّي وَإِنْ عَنَّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ فِدًى لِرَسُولِ اللهِ أَهْلِي وَمَالِيَا أَطَعْنَاهُ لَمْ نَعْدِلْهُ فِينَا بِغَيْرِهِ شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ هَادِيَا [2]

إن التربص بين البشر قديم قدم الإنسان، والتخوف من الأعداء مصاحب لمسيرة  بني آدم، ومن الناس من يقيده هذا التخوف ويعيقه عن الحركة والفعل حتى تضيع عليه الفرص الثمينة بل حتى يضيع عمره دون مبادرة أو رد فعل محسوب بميزان الشرع والقوى والمنفعة، ومنهم من ينطلق في دنياه راجيا من الله تعالى التوفيق والمعونة قائلا بقلبه قبل لسانه حسبنا الله ونعم الوكيل.

هذه الحرب التي تقوم على التهويل واللعب على وتر حب البقاء كانت نتيجتها أن ازداد الذين آمنوا إيمانا، إيمانا بأن موازين القوى بيد الله تعالى يهبها لمن يشاء ويسلبها لمن يشاء.

عاد المؤمنون إلى ما عرفوه من صفات ربهم سبحانه ومعونته لعباده المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فقويت قلوبهم وأكملوا مسيرة بدأوها رغم ما بهم من جراح والآلآم. إن زيادة الإيمان تبعها زيادة العمل والإصرار على مواصلة الطريق مع الحق ثقة في وعد الله تعالى، وهذا شأن المؤمنين في كل صراع {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].

إن الله تعالى يتولى نصر المؤمنين في صراعهم من أجل الحق ولله جنود السموات والأرض حسبنا الله ونعم الوكيل مما توارثه الأنبياء وتوافقت عليها النبوات أخرج البخاري عن ابن عباس {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

وذكر الله تعالى ما كان من شأن موسى وقومه حين لاحقهم فرعون وجنده قال سبحانه {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62].

إن أعداء الحق يجمعون ويحشدون ولكن الله تعالى يخيب سعيهم {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال: 36] وإن الكفار دائما ما يتربصون بالمؤمنين والله تعالى من ورائهم محيط.

 التوكل عمل القلب والسعي عمل الجوارح

إن التوكل هو عبادة القلب بينما السعي هو عبادة الجوارح ولا تغني عبادة عن عبادة المسلم وهو يمتلك كل أسباب القوى ويعد كل اسباب النصر قلبه معلق بالله تعالى لا بما بيده من أسباب.

حسبنا الله ونعم الوكيل كثيرا ما نسمعها ممن ضعفت حيلته ووقف عاجزا أمام قوي لا يمكنه أن يصرخ بوجهه ولا أن يطالب بحقه، بينما إذا عدنا إلى كتاب الله تعالى نجدها خرجت من قلب المؤمنين الأقوياء الذين أعدوا ما استطاعوا، وكان في هذه الكلمة القرآنية تثبيت لقلوبهم وزلزلة لقلوب أعدائهم، فأول سلاح يستخدم في الحروب هي الحرب المعنوية التي يتزلزل فيها ثقة المؤمن بربه وبتأييده سبحانه للصالحين من عباده، وكونه جل جلاله معهم يحوطهم وينصرهم ويصرف عنهم السوء ويمن عليهم بالصبر لمواجهة عدوهم، ويعدهم بالأجر إن هم صبروا وصابروا واتقوا الله، فمن سلم منهم فله الأجر في الدنيا والآخر، ومن سبق منهم إلى رحمة الله ورضوانه فهو في نعيم مقيم فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

حسبنا الله ونعم الوكيل لا تقال في صراع بين الإيمان والكفر فحسب، بل تقال ثقة بالله وبثا للطمأنينة في النفوس واستمدادا لتأييد الله سبحانه وتعالى، ونستحضرها في الصراعات اليومية على لقمة الخبز ومحاولات البقاء على قيد الحياة أمام الطوفان.


[1] تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن

[2] تفسير المنار