من المنطقي حينما نبدأ الحديث عن السيد المسيح عليه السلام أن نتحدث عن عصره بظروفه وملابساته؛ لأن رسالة الرسول ليست بمعزل عن هذه الظروف التي جاءت أساساً لإصلاحها، ومن ثم يتفق الرسل جميعاً في هذا الجوهر، وهو (تصحيح العقيدة) ثم يختلفون بعد ذلك اختلافات (نوعية) حسب المرض الاجتماعي الذي استشرى بسبب فساد العقيدة عند كل أمة، وقد اختلف هذا المرض من مجتمع إلى آخر.

ومن ثم وجدنا كثيراً من الباحثين قد درسوا البيئة التي ظهر فيها عيسى عليه السلام ونشأ بها، لكي يثبتوا أن عيسى عليه السلام تأثر بهذه البيئة وبالأفكار المتداولة فيها، فكانت تعاليمه نتاجاً لمجموعة هذه الأفكار والمعتقدات السائدة في زمنه، وهذه النظرة توحي إلى بشرية رسالة عيسى عليه السلام، وأنه لم يتلقّ هذه التعاليم من وحي إلهي، وذلك لعاملين أساسيين وهما:

العامل الأول: أن التعاليم الإلهية التي جاء بها عيسى عليه السلام كانت مناسبة لهذه البيئة، وجاءت علاجاً لمشكلاتها، فبينما كانت تسيطر الأجواء المادية في ذلك المجتمع جاءت تعاليم عيسى عليه السلام روحية سامية لتعالج ذلك الاستغراق المادي.

العامل الثاني: أنه ما من شك أن الأفكار والمعتقدات السائدة في تلك البيئة وما حولها كان لها أثر كبير على العقيدة المسيحية بعد عيسى عليه السلام، ومن هنا كانت ضرورة دراسة العصر أو البيئة التي ظهر فيها المسيح عليه السلام؛ لأنها غذّت المسيحية بأفكار وفلسفات جديدة كان لها أثر في تلويث المسيحية بألوان مختلفة، وهذا العصر أو تلك البيئة كانت تنازعها عوامل ثلاثة: هي (الحضارة الإغريقية) التي شكلت عقل الإنسان، و(الدولة الرومانية) التي حددت له مؤسساته التي تعيش بينها، وأطّر الحياة في هذه المؤسسات، ثم (الدين اليهودي) الذي جاءت المسيحية أساساً لإصلاحه بعد أن صار عامل تخريب في العقل ومن أطر الحياة معاً.

الحضارة الإغريقية

هي واحدة من حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو يشمل حضارات مصر، وما بين النهرين (أي ما بين دجلة والفرات)، والإغريق، والرومان. وأصحاب هذه الحضارات هم اليونانيون الذين كانوا يمثلون أمة عظيمة القدر بين الأمم وسمّوا بذلك أي (الإغريق) لتغلغل حضارتهم وتأثيرها بين أعضاء الجماعات اليهودية في مصر وبرقة، وسوريا وآسيا الصغرى وفلسطين، وقد استمرت طيلة العصر الروماني، كما بينت ذلك في ثنايا البحث.

ومن الثابت أن الحضارة الإغريقية قد بدأت متأخرة عن حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط الأخرى إلا أنه كان لموقعها الاستراتيجي في منطقة البحر الأبيض المتوسط أثره البارز في الاتصال بالبلاد ذات الحضارات القديمة في هذا البحر (في شمال فلسطين) تماماً، كما اتصلوا بالحضارات الشرقية والجنوبية لحوض البحر، واكتسبوا من هذه الحضارات الشيء الكثير، وكان على رأس هذه الحضارات التي استفادوا منها، الحضارة المصرية القديمة.وقد أخذوا منها الكثير من معارفهم الدينية والفلسفية والعلمية، كالفلك والطب والزراعة والهندسة والفنون الجميلة وفنون العمارة والنحت والتصوير، وما يتجاوز الفن الرفيع إلى أشياء أخرى تسمى الفنون التطبيقية وتمسّ الحياة اليومية، وقد تمس السياسة أيضاً.

وكان كثير من فلاسفة الإغريق المشهورين (أفلاطون مثلاً) قد تلقى تعليمه في جامعات مصر، وقد زار مصر كثيرون من عظماء اليونان المشهورين أمثال (فيثاغورس) و (ديمقريطس)، وبالرغم من ذلك فقد استطاعت بلاد اليونان أن تسبق غيرها من البلاد التي أخذت حضارتها عنها خاصة في مجال الفلسفة؛ وذلك لأن هذه البلاد لم تحكمها دولة عريقة، ولم تكن فيها إلى جانب الدول الحاكمة دولة من دول الكهنة التي تتأصل في البلاد، وتتوارث فيها أسرار المعرفة والبحث في أصول الخلق والحياة، أو في المسائل الإلهية التي يتأثر بها الكهان، ورؤساء الدين.

وغير صحيح ما يشبهه البعض عن جهل أو سوء نية وقصد من أن حياة الإغريق قد نمت وازدهرت؛ لأنهم قد أبعدوا الدين جانباً عن حياتهم العامة على عكس ما فعلته المجموعات التي سبقت اليونانيين عن طريق الحضارة، ثم تخلفت عنهم على نفس الطريق، ومن ثم فقد رفعوا من شأن العقل وصبغوا تعاليمهم بالصبغة المدنية.

ربما من الصواب ما رآه ول ديورانت من أن الحضارة الإغريقية كانت حضارة دينية كغيرها من الحضارات التي سبقتها والتي لحقت بها حيث كانت قوانين اليونان ترى المروق من الدين (الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية) جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام، وهذا هو القانون الذي حُكمَ به عن سقراط بالموت.

وهكذا نجد مع ول ديورانت أن الحياة في بلاد اليونان لم تكن حياة دنيوية كما يصفها المؤرخون، بل كان للدين فيها شأن كبير في كل مكان إلا أنه كان ذا طابع فردي لا طابع (قومي) عام: بمعنى أنه لم يكن للدولة دين رسمي يتمسك به الجميع أو عقائد ثابتة مقررة، ولم يكن قوام الدين هو الإقرار بعقائد معينة بل كان قوامه الاشتراك في الطقوس الرسمية، وكان في وسع أي إنسان أن يؤمن بما شاء من العقائد على شريطة ألا يكفر بآلهة المدينة أو يسبها.

ولقد كانت هذه الفردية الدينية وما تبعها من فوضى دينية؛ نتيجة احتكاك الإغريق بالشرق وتأثر بعضهم بالمفاهيم الدينية السائدة فيه، فكان سبباً عجّل بتفكيك المجتمع اليوناني ثم سقوطه سريعاً تحت ضربات الرومان. ومع ذلك فقد خلّف الإغريق من بعدهم ما كان ذا أثر فعال في صياغة شكل الحياة في الإمبراطورية الرومانية ذاتها، وما كان ذا أثر فعال في الدين المسيحي نفسه. ويمكن إجمال ذلك في النقاط الآتية:

تمزيق الكيان الإنساني الواحد بالإعلاء من شأن بعض المواهب التي منحها الله للإنسان والحط من شأن بعضها الآخر، فلقد أعلى الإغريق على سبيل المثال من شأن العقل، وحطوا من شأن الجسد، فحقّروا العمل اليدوي والجري وراء الثراء، ورفعوا من شأن المحارب السياسي والمسؤولين عن الزراعة، وحُرِم العبيد وغيرهم ممن يزاولون الحرف اليدوية من حقوق المواطنة والتمتع بالديمقراطية.

ترتب على ذلك أن كان هناك تمايز صارخ بين الإغريق وغير الإغريق في داخل حدود مجتمعهم الإغريقي أو في خارجه، ففي داخل حدود بلادهم نجد أرسطو ينظر إلى العبد على أنه آلة بشرية، ويظن أن الاسترقاق سيبقى حتى يأتي اليوم الذي تؤدي فيه الآلات التي تدور بنفسها جميع الأعمال الحقيرة، وأما خارج اليونان فقد كانت الروح الإنسانية لليونانيين وطنية قومية، ولذلك كانوا استعماريين من الطراز الأول، وقد ساعدهم على ذلك تجارتهم الدولية التي أدت إلى ظهورهم وظهور حضارتهم التي شهد بها التاريخ.

المادية الغليظة: ظهر الميل إلى تجسيد المجردات برغم الاشتغال بالفلسفة، ومن ثم ساد عندهم قبول التفسير المادي للوجود والإنسان، وانعكست هذه النزعة المادية الوثنية على فكرة الألوهية عند الإغريق، فإنه “ليس ثمة دين يقرب آلهته من الآدميين قرب آلهة اليونان. فكان اليونانيون يؤمنون بأن آلهتهم يأكلون ويشربون ويلعبون ويلهون ويخوضون المعارك فيَغلبون ويُغلبون، ويتألمون ويفرحون ويحزنون، والويل لمن تعرض لهم أو أغضبهم، فإن غضبهم شديد ولذلك حكم على سقراط أن يشرب السمّ ومات شهيد الجهر بالحقيقة؛ لأنه أفشى أسرار الوحدانية وخلود الروح، واعتبروه كافراً بالآلهة إلى جانب هذا كانوا يعتقدون أن الأرض لا السماء هي موطن الآلهة اليونانية.

ولذلك عبدوا آلهة شتى فهناك آلهة للحرف، والمهن المختلفة وآلهة للحرب وآلهة مستمدة من الطبيعة، كما عبدوا رمزي الإخصاب الرئيسين في الرجل والمرأة، وعبدوا بعض الحيوانات، كما عبدوا الموتى.

الدولة الرومانية

سادت في أثينا كل علل (أمراض) الحضارة التي تنتج عادة من (شيخوخة) الحضارة واقترابها من الأفول، وفي الوقت الذي كانت عوامل الانهيار تدب في جسد المجتمع الإغريقي، كانت عوامل البناء تدب في جسد شاب مجاور هو جسد المجتمع الروماني المتمثل في الدولة الرومانية، التي بلغت أقصى اتساع لها في عهد المسيح، ودخل في حوزتها اسم العالم المعمور كله ما عدا الشرق الأقصى، وأصبح من رعاياها أناس مختلفون في الجنس واللغة والعقيدة، فشوهدت في روما والإسكندرية، ونابلس وبيت المقدس كل عبادة يدين بها البشر، وبلاد الرومان (إيطاليا اليوم) مجاورة لبلاد الإغريق (اليونان اليوم) على نفس الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، وعلى خط العرض نفسه تقريباً، ومن ثمّ كان هذا القرب من الموقع ممرّاً سهلاً لانتقال ديانة اليونان إلى الرومان، إلا أن مدارس الديانة الرومانية بنيت على الأخلاق وإن كان اليونانيون قد ألّهوا الأخلاق والفضائل إلا أن الديانة الرومانية تغالت في هذا الشأن فكانت لا تعرف إلها معيناً وما اعترفت بوجود إله أو آلهة، وإنما كان جلَّ همهم أن يلقنوا أبناءهم الأخلاق والفضائل منذ نعومة أظفارهم، وبهذا يمكن أن يقال: إن فلسفة الديانة الرومانية وليدة الفلسفة اليونانية.

وبالرغم من هذا التأثر الروماني – الذي لا ينكر- بالحضارة اليونانية إلا أن الرومان استطاعوا في النهاية أن يضعوا لغتهم الواضحة على هذه الحضارة لتكون حضارتهم هم في النهاية ابتداء من المفاهيم الدينية وانتهاء بأنماط الحياة اليومية وهياكل هذه الحياة.
فمن حيث الفكرة الدينية: لم تكن (الفردية الدينية) التي رأيناها سمة الحياة الدينية عند الإغريق -لم تكن تصلح منذ البداية للرومان – فإن الفردية تصلح للإغريق كمفكرين، ولكنها لا تصلح للرومان كمحاربين، والمفكر بطلب الحرية ولكن المحارب يطلب مع الحرية جماعة يحارب بها ولها.

ومن ثم احتلت الأسرة في الفكر الديني الروماني منزلة لم تنزل عنها عبر تاريخ الرومان الديني، فقد كانت الأسرة رابطة بين الأشخاص والأشياء من جهة، والآلهة من جهة أخرى، وكانت هي المركز الذي يلتف حوله الدين والخلق والنظام الاقتصادي وكيان الدولة بأجمعها، كما كانت هي المنبع الذي تستمد منه هذه المفهومات كلها.

وفكرة الألوهية: عند الإغريق فكرة مادية حسية بين كان الرومان يراها في بعض الأحيان معنويات مجردة كالصحة أو الشباب، وكان الرومان يعتقدون بأن بعض الآلهة يتقمص الحيوانات المقدسة كالحصان أو الحيوان الذبيح أو الإوز المقدس. وقد استخدمت روما (إيطاليا) نظاماً من الكهنوت، محكم الوضع، وكان الأب في منزله كاهناً، ولكن الصلوات العامة كان يرأسها جماعات من الكهنة ويرأسها كلها حبر أعظم.
وقبل ظهور المسيحية: كان الأباطرة قد بدؤوا يجدون لهم مكاناً في هذا الفكر الديني الروماني، ففي الاحتفالات الدينية كان الإمبراطور يرأس الاحتفالات وهو الكاهن الأكبر لدين الدولة.

وبتولي الإمبراطور أغسطس الحكم في القرن الأول قبل الميلاد اتخذ الدين الروماني شكلاً مهماً آخر، وذلك هو العبادة الشخصية للإمبراطور نفسه فقد كان أغسطس على حد تعبير ول ديورانت من أكبر المنافسين لآلهته، وكان قيصر قد ضرب به المثل في هذا التنافس، ذلك أن مجلس الشيوخ اعترف بألوهية قيصر بعد عامين من مقتله، وما لبثت عبادته أن انتشرت في أنحاء الإمبراطورية.
وهكذا خلف الرومان من بعدهم إلى جانب ما خلفه الإغريق فكرة (تأليه الإنسان)، وخلفت كلتا الدولتين تلك المؤسسات والهياكل والتنظيمات التي صارت تنظم الحياة الدينية الرومانية والتي انتقلت إلى الحياة الدينية المسيحية، مع الانحراف الكبير والخطير عن الديانة النصرانية التي بعث الله بها عيسى عليه السلام كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.


مراجع البحث:

علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م ص (29:22)

جورج سول، المظاهر الاقتصادية الكبرى، ترجمة راشد البراوي، مكتبة النهضة المصرية بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين المساهمة للطباعة والنشر، القاهرة -نيويورك، ص. ص 18 -19.

محمد فؤاد الهاشمي، الأديان في كفة الميزان، دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر, 1986م، ص 33.

محمد أحمد الحاج، النصرانية من التوحيد إلى التثليث، دار القلم / الدار الشامية، دمشق/ بيروت، 1413ه، ص35

عبد الغني عبود، المسيح والمسيحية والإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1984م، ص18. وانظر: محمد علي عبد المعطي أحمد، مظاهر الوثنية في عقائد أهل الكتاب، جامعة الأزهر، كلية الدعوة الإسلامية، 2006. ص264.