هاجر المسلمون الأوائل – من الصحابة والتابعين – بعد أن توطدت دعائم الإسلام، لتبدأ رحلة فتوحات إلى شتى بقاع الأرض، ولتستوعب تأثيرات فنية وثقافية كان لها دور بارز في تشكيل الحضارة الإسلامية.

وعلى ذكر التأثيرات الفنية فإن عددا من الآيات القرآنية التي حوتها صدور المؤمنين، تناولت المظهر الجمالي باعتباره شاهدا على بديع صنع الله في الكون وإتقانه. وكشف النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من أحاديثه قولا وفعلا، عن ذوق راق ينمي الإحساس بالجمال، ويدعو للاستمتاع بالطيبات التي أخرج الله لعباده. ومصنفات الحديث تزخر بأخبار عن حبه للسواك والطيب، وتوجيهاته بشأن اللباس والمسكن. فكان صلى الله عليه وسلم يجمع بين تحرير الإنسان الجاهلي من دنس الشرك وخشونة الهيئة والمظهر، ليكون المسلم عنوانا لطهارة الظاهر والباطن.

فهم المسلمون هذا المعنى فاشتدت عنايتهم بالجمال في كل تفاصيل حياتهم. وتأثروا بفنونه التي عاينوها في البلدان الأخرى، ومنها فن إنشاء البساتين والولع بعالم الزهور والورود. وكان التعبير عنه بأساليب شتى، تجمع بين تقدير الزهور كتجلّ للنعم الإلهية، ومصدر للتسبيح الدائم الذي دلّ عليه قوله تعالى : { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} الجمعة: 1 – وبين توظيفها في تعبيرات مبتكرة، تضفي لمسة الإبداع على العطاء الإسلامي.

أقبل الخلفاء والأمراء على إنشاء البساتين الرائعة وتخطيطها، متأثرين بما شاهدوه أو وُصف لهم في حدائق فارس وغيرها. وتجلت عنايتهم في جلب الأزهار النفيسة، وتطوير زراعتها، واستخراج أصناف جديدة حكى عنها بعض الكتاب والمؤرخين، كالورد الذي رآه القاضي أبو علي التنوخي في البصرة، نصفه أحمر قاني الحمرة، ونصفه الآخر أبيض ناصع البياض، وبينهما خط كأنه مقسوم بالقلم.

ويسوق المقريزي في كتابه (الخطط) نموذجا لهذا الولع ممثلا في الأمير خمارويه، الذي عدّه بعض المستشرقين أكبر منشئي البساتين، ويصف أحد بساتينه بالقول ( وحُمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة يتعاهدها البستاني بالمقراض، حتى لا تزيد ورقة على ورقة؛ وزرع فيه النيلوفر الأحمر والأزرق والأصفر والجنوي العجيب؛ وأهدي إليه من خراسان كل أصل عجيب ) .   

انتقل ولع الحكام بالزهور والبساتين إلى عموم الناس، ليحدث حالة ثقافية وجمالية فريدة. وانضافت أسماء الزهور والورود إلى مفردات التخاطب اليومي التي كانت حتى وقت قريب منحصرة في أصناف الجواهر وأنواع الطيب. فشاع ذكر الورد، والنرجس، والأقحوان، والكافور، والبنفسج، وشقائق النعمان، والبهار، والياسمين، والخيريّ، والنوّار، والشقيق، والنيلوفر، والسوسن وغيرها. وتنبه الشعراء إلى هذا الافتتان فتنافسوا في وصف جمال الزهور، وتصويرها بالكلمات، وأحدثوا من المعاني ما يضاهي لوحات الرسامين في عصر النهضة الأوربية. فهذا الياسمين كأنه كواكب في السماء تبيَض، وشقائق النعمان في الروض أكاليل عقيق على رؤوس زنوج، أما النرجس فأنامل فضة يحملن كاسات الذهب.

وأتاحت أنواع الزهور للخطاطين أن ينفخوا الحياة في الحرف ويحولوه من جماد إلى نبات، كما قال الخطاط كامل البابا، فتحولت الخطوط العربية إلى أيقونات في عالم الزخرفة والنحت، وحمل بعضها اسم الزهرة التي تماهى مع أوراقها كالخط الريحاني.

ولم يسلم الخشب بدوره من هذا التأثير فظهر فن الأرابيسك الذي يعتمد نظام تزيينات قائم على الزهور والنباتات المختلفة، ويكسر بذلك جمود الخشب. فأحدث هذا المزج ثورة في عالم الأثاث والمعمار الخاص بالمساجد وقصور السلاطين، حتى أن بعض حكام الدولة العثمانية كانوا يستقدمون فناني الأرابيسك من مصر ويمنعونهم من العودة إلى بلادهم بعد الانتهاء من عملهم، فشهد التاريخ ما سمي لاحقا بـ “الأسر الفني”!

وبما أن لكل تعلق وافتتان آثارهما الجانبية، فإن محبة الزهور، أو الأرباح المتحصلة من بيعها وترويجها، دفعت لاحقا إلى وضع أحاديث باطلة تزكي بعض أنواعها، وتأمر بشمه وتقديره.

ففي فضل النرجس وضعوا حديث :” شموا النرجس ولو في اليوم مرة، ولو في الشهر مرة، ولو في السنة مرة، ولو في الدهر مرة، فإن في القلب حبة من الجنون والجذام و البرص لا يقطعها إلا شم النرجس”.

وفي فضل الورد حلقوا عاليا ليجعلوا له نصيبا من حادثة الإسراء والمعراج. فوضعوا حديث: ” الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج، وخلق الورد الأحمر من عرق جبريل عليه السلام، وخلق الورد الأصفر من عرق البراق. وزادوا عليه “من أراد أن يشم رائحتي فليشتم رائحة الورد”.

وأما دهن البنفسج ففضله على سائر الأدهان كفضل الإسلام على سائر الأديان، وفي رواية أخرى كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، بارد في الصيف، حار في الشتاء ! وهذه الأحاديث التي ردها ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات) تؤكد أن التعاطي مع عالم الزهور و الورود بلغ شأوا عاليا تمرد فيه حتى على الخطوط الحمراء.

وفي عالم التأليف خلّد المسلم قائمة بأنواع الزهور حين اختارها عناوين لكتبه، سواء في ذلك المصنفات الأدبية والتاريخية، وحتى الدينية. فذاعت في الساحة الثقافية أسماء من قبيل: “رياض الصالحين”، و”بستان العارفين”، و”زهر الأكم”، و” أزهار الرياض”، و”ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا“، و” زهرة الآس في بناء فاس”، و”الريحان والريعان” وغيرها. 

لكن يظل أبلغ تأثر بعالم الزهور أن يجعل لها المسلم نصيبا داخل أسرته، فيتخذ لمولودته اسما يُوثق صلته بآيات الجمال الرباني، وتتردد في أرجاء بيته : نرجس، وريحانة، ووردة، وسوسن، وزهرة، ونوارة، ونسرين، وياسمين، والعشرات من ألفاظ الدلال وعبارات المودة التي تسكن لها النفوس، وتوثَّق بها الأواصر.

كان للإحساس الجمالي إذن حضوره الآكد في الحياة الإسلامية، ولم تنشأ أبدا خصومة بين تعاليم الدين وطلب الزينة والجمال. ويبقى أشد ما يثير غيظ المتشككين والمتربصين بهذا الدين أن شريعته رسمت حدودا دقيقة بين المباح والإباحي، وهيأت للمسلم مجال حركة واسعة داخل حقل الجمال، لتسمو نفسه بالمعاني بدل أن تنجر إلى حضيض الشهوات.

أبدت المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل دهشتها أمام المئات من الزهور والنباتات التي تزين حيطان الجوامع في تركيا. واستوقفها الحرص العجيب الذي أبداه الصانع المسلم لتحويل تلك الكائنات الفانية إلى لوحات ونقوش خالدة، فعبّرت عن الامتنان الذي يجيش في كل صدر لهذا العطاء بقولها:” عندما ينظر المؤمن إلى هذه الرسوم بعد الفراغ من صلاته، يتذكر الجنات التي وعدها الله الذين آمنوا. وما أسعد صاحب صنعة تُذكر الإنسان أن للمتقين عند ربهم جنات نعيم”.