كان ارتقاء الصحابي من درك الجاهلية إلى رحاب الإيمان ولادة ثانية، بكل ما تحيل إليه الولادة من آلام المخاض وتباريحه، والخطر الشديد الذي اكتنف القطع مع عوالق الوثنية، وعادات المجتمع العربي وتقاليده. ولعل من أخص دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أن تحتشد في الجماعة الأولى من المسلمين نماذج فريدة، اقتبست من السراج المحمدي مقوماتها الخلقية، وخصائصها المعرفية والجهادية؛ فصحّ أن يقال بأنه لم يسبق لنبي أن ربى جيلا بكامله كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم.

كان لهذه الولادة كلفتها الاجتماعية والمعنوية، فما إن ينطق أحدهم بالشهادتين حتى يستبدل قرابته وصلاته ومكانته الاجتماعية بآصرة العقيدة، ويُفارق عادات قومه ومألوف حياته السابقة. لذا حين قال رجل للمقداد بن الأسود رضي الله عنه: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيتَ وشهدنا ما شهدتَ، أسرع المقداد لوضع الصورة في إطارها الصحيح، وكشف قائمة المحن القاسية والاختبارات الثاوية خلف هذا الامتياز، فرد قائلا: أوَلاَ تحمدون الله إذا أخرجكم الله عز وجل لا تعرفون إلا ربكم ،مصدقين بما جاء به نبيكم عليه السلام، وقد كُفيتم البلاء بغيركم؟ والله لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بُعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرّق بين الوالد وولده، حتى أن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافرا. وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان، ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقرّعينُه وهو يعلم أن حميمه –أقرباءه- في النار.

إن هذا التحديد القاسي لمعنى الصحبة يكشف أن للأمر كُلفته وتضحياته الجمة، وأن شرف الصحبة لم يكتمل إلا بعد أن تجردوا للدعوة، وواجهوا بقلوب مطمئنة ألوانا من الفجيعة. وارتضوا أن ترسم الدعوة المحمدية حدودا دقيقة بين الإيمان والكفر في كنف الأسرة الواحدة.

ارتضى مصعب بن عمير أن يفارق حياة التنعم في حضن أم تنفق عليه من مالها الوفير، وتكسوه الحلل الرقيقة والنعال الحضرمية، حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يقول: ” ما رأيت بمكة أحدا أحسنَ لمة ولا أرقّ حُلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير”. يدع كل هذا في سبيل الصحبة والرسالة، فلا يجد المسلمون ما يُكفنونه به يوم استشهاده في أحد إلا قطعة من ثوب إذا وُضعت على رأسه خرجت رجلاه، فيأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه ويضعوا على رجليه نبات الإذخر !

وارتضى صهيب أن يُعذّب في الله ويتنازل عن كل أمواله لمشركي قريش. فحين اتبعه نفر منهم عند خروجه للمدينة وقالوا: أتيتنا هاهنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا، وبلغتَ ما بلغتَ ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك. رد صهيب قائلا: أرأيتم إن تركت مالي تخلون سبيلي؟ قالوا : نعم. فترك لهم مالَه أجمع. ولما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع، ونزل قوله تعالى:(( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد)) البقرة-207.

وارتضت أم سلمة محنة الشتات الأسري لمّا منعها قومها من الهجرة مع زوجها على المدينة، ثم وثب أهل الزوج على طفلها سلمة فانتزعوه منها. تقول أمة سلمة : وبقيت على ذلك سنة أو قريبا من سنة، إلى أن مرّ بي رجل من بني عمي فرقّ لحالي ورحمني، ومازال بقومي يستلين قلوبهم ويستدر عطفهم حتى قالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت !

وارتضى المهاجرون فراق الديار والأهل والمتاع استيفاء لشرط الإيمان والصحبة، كما ارتضى الأنصار إيواء المهاجرين ومؤاخاتهم، وتحمل الخصومة مع العرب قاطبة بعد كانوا يأملون في فض نزاع بين أبناء العمومة. وتوالت الوقائع والأحداث لترتفع بهم إلى أقصى طاقاتهم الذاتية في البذل والتضحية، والصبر على أوضاع وصلات ومواقف ما كانت النفوس لتحتملها، لولا أن الله تعالى فتح أقفال القلوب للإيمان كما قال المقداد رضي الله عنه!

كان للصحبة ضوابط وخصائص فهمها الرعيل الأول، فتشكلت حياتهم بعد الإسلام ضمن مسار قيمي يؤثر حرث الآخرة على لعاعة الدنيا. ويرى في آيات الكتاب وتوجيهات النبوة رسائل تذل لها الرقاب، حتى وإن حارت أمام مقصدها الأذهان. فنزلت الآيات تثني على مواقفهم، وعدّدت الأحاديث مناقبهم التي جعلتهم نماذج للقدوة و التأسي بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكانوا، كما وصفهم ابن مسعود رضي الله عنه، أبرَّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هدياً، وأحسنها حالا.

من ضوابط الصحبة سرعة الاستجابة لأوامر الوحي ونواهيه، وتعاليم النصوص وأحكامها. فالسمع والطاعة مكونان أساسيان للتفاعل مع الوحي وكلام النبوة. وفي ذلك قطع لأسباب الخلاف والجدال والمراجعة، وحث على المبادرة بالأعمال مادام قوام الدين هو اليسر ورفع الحرج والمشقة. لذا كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض، كلهن في القرآن، منهن:﴿ يسألونك عن الشهر الحرام﴾ و﴿ يسألونك عن المحيض﴾. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

ومنها سرعة التخلص من عوالق الجاهلية التي ترسبت في النفوس كالعصبية والمفاخرة بالأحساب، والظلم الاجتماعي للمرأة. فحين رأى يهود المدينة ما نشأ من ألفة وصلاح بين الأوس والخزرج بعد الإسلام، أرسلوا شابا فطنا ليجلس إليهم ويُذكرهم أيام العداوة بينهم في الجاهلية، ويثير النفوس بما قيل من أشعار في حروبهم. فتحركت روح الجاهلية، وكادوا أن يقتتلوا لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه الخبر فجاءهم مع بعض أصحابه من المهاجرين وقال: (( يا معشر المسلمين، الله، الله، أَبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، و استنقذكم به من الكفر وألّف بين قلوبكم )). فأفاق القوم من غفلتهم وبكوا وتعانقوا. فنزل قوله تعالى محذرا من أثر تلك العوالق:﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم﴾ آل عمران-100.101 

  ومنها المبادرة إلى المعونة، والإيثار ولو بالقليل. فكانت أموالهم رهن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم، يبذلونها دونما تردد أو خوف، حتى أن الأنصاري في واقعة المؤاخاة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملكه، ويؤثر بعضهم بعضا في التمرة والتمرتين .

ومنها صدق التجرد للدعوة، وكسر الحواجز المصطنعة التي تنشأ في العادة عن حب الدنيا والتعلق بملذاتها. حيث بلغ من إقدامهم أن يقول الصحابي الجليل أنس بن النضر: لئن أشهدني الله قتالا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيريَنّ الله كيف أصنع. فلما كان يوم أحد وشاع بين صفوف المسلمين خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. وجالد بسيفه حتى استشهد، ولشدة التمثيل بجسده عرفته أخته ببنانه فقط. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا ذكره يقول: إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده يوم القيامة !

تصطف النماذج في تاريخنا الإسلامي لا لتستعرض بطولاتها ومآثرها، وإنما لتؤكد حقيقة ناصعة مفادها: أن النهوض من جديد يتطلب ولادة ثانية، وانضباطا لشروط الصحبة، ورضى بكلفة الإيمان والثبات على العقيدة. وليس شرطا وجود النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه، ففي سيرته وحياة أصحابه تجتمع كل العناصر الضرورية لسلامة البناء، سواء ما تعلق بالبناء النفسي والقيمي للفرد، أوالبناء الاجتماعي والحضاري للأمة.