اقرأ أيضا:
بل جعل علماء الإسلام العلم علمين، دينا ودنيا، وعلم الدنيا هو الطب، كما قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، يقول: إنما العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو: الفقه، والعلم الذي للدنيا هو: الطب.
بل يتعجب الشافعي – رحمه الله- من قلة اهتمام المسلمين آنذاك بالطب، وأن أغلب من يشتغل فيه من اليهود والنصارى، فعن الربيع سمعت الشافعي يقول: لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه.
وقال حرملة: كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب ويقول: ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى. (سير أعلام النبلاء ط الحديث (8/ 258).
ولخص الطبيب أبقراط ما يجب أن يكون عليه الطبيب فقال: ” ينبغي أن يكون الطبيب حراً في جنسه، جيداً في طبعه، حديث السن، معتدل القامة، متناسب الأعضاء، جيد الفهم، حسن الحديث، صحيح الرأي عند المشورة، عفيفاً شجاعاً غير محب للفضة، مالكاً لنفسه عند الغضب، ولا يكون تاركاً له في الغاية، ولا يكون بليداً. وينبغي أن يكون مشاركا للعليل مشفقاً عليه، حافظاً للأسرار، لأن كثيراً من المرضى يوقفونا على أمراض بهم لا يحبون أن يقف عليها غيرهم. وينبغي أن يكون محتملاً للشتيمة؛ لأن قوماً من المبرسمين وأصحاب الوسواس السوادي يقابلونا بذلك. وينبغي لنا أن نتحملهم ونعلم أنه ليس منهم ذلك وأن سببه المرض الخارج عن الطبيعة. وينبغي أن يكون حلق رأسه معتدلاً مستوياً لا يحلقه ولا يدعه كالجمة، ولا يستقصي قص أظافير يديه ولا يتركها تعلو على أطراف أصابعه. وينبغي أن تكون ثيابه نظيفة بيضاء نقية لينة، ولا يكون في مشيه مستعجلاً؛ لأن ذلك دليل الطيش، ولا متباطئاً؛ لأنه يدل على فتور النفس، وإذا دعي إلى المريض فليقعد متربعاً، ويختبر منه حاله بسكون وتأن لا بقلق واضطراب، فإن هذا الشكل والزي والترتيب عندي أفضل من غيره “. (مطالع البدور ومنازل السرور، للغزولي (ص: 189)
وللأطباء في المجتمعات الإنسانية عامة وفي المجتمعات الإسلامية خاصة حقوق تجب لهم، من أهمها:
التقدير والتكريم: من حقوق الأطباء أن يكرموا في بلادهم، وأن ينزلوا منزلتهم اللائقة بهم، وأن يعلم الناس مكانتهم فيهم، وقد كرم الإسلام الأطباء، وعرفت مكانة الأطباء في تاريخ حضارة الإسلام، حتى إن كثيرا من أطباء النصارى واليهود تبوؤوا منازل عليا في سلم الوظائف في الخلافة الإسلامية.
وما أحسن وصف الأستاذ علي الطنطاوي حين عد الأطباء من رموز الحضارة، يقول: ” على أنني ما عاديت الأطبّاء ولا أستطيع أن أعاديهم، لأنهم من ركائز الحضارة البشرية ولأنهم من رموزها الظاهرة” . (ذكريات – علي الطنطاوي (4/ 295)
الحصول على الأجر الكافي: فمن حقوق الأطباء أن يتحصلوا على الأجر الذي يغنيهم عن الحاجة وسؤال الناس، فكل الناس في حاجة إليهم، وإغناء الأطباء فيه صيانة لمهنة الطب، وحفظا من أن يلجأ ضعاف النفوس من الأطباء إلى الغش والسرقة والرشوة ومخالفة الدين والقانون وشرف المهنة، ولما قلت رواتب الأطباء في كثير من بلاد المسلمين تحولت مهنة الطب إلى تجارة في السوق، فوجدنا كثيرا من المستشفيات والعيادات والأطباء من لا يتقي الله في مهنته، فيستنزف أموال الناس بالباطل، ولو أغنوا؛ سد كثير من هذا الباب.
وقد وجدنا أن الإنسان لم يجعل مهنة الطب احتسابا، بل أباح للطبيب أن ينال أجره اللائق به، ففي سنن أبي داود (3/ 265) عن أبي سعيد الخدري، أن رهطا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها فنزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، قال: فلدغ سيد ذلك الحي فشفوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم لعل أن يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم، فقال بعضهم: إن سيدنا لدغ فشفينا له بكل شيء، فلا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم شيء يشفي صاحبنا؟، يعني رقية، فقال رجل: من القوم إني لأرقي ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا ما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلا فجعلوا له قطيعا من الشاء، فأتاه فقرأ عليه بأم الكتاب، ويتفل حتى برئ كأنما أنشط من عقال، فأوفاهم جعلهم الذي صالحوه عليه، فقالوا: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أين علمتم أنها رقية؟ أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم»
وفي سنن أبي داود أيضا (3/ 266) عن الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمه، أنه مر بقوم فأتوه، فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فارق لنا هذا الرجل فأتوه برجل معتوه في القيود، فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية، وكلما ختمها جمع بزاقه، ثم تفل فكأنما أنشط من عقال فأعطوه شيئا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق».
بل كان بعض السلاطين يغدق على الأطباء إن شفي من مرضه، فيحكي زين الدين الملطي الحنفي عن أحداث شهر ربيع الآخر سنة: (862هـ): ” وفيه أقيمت الخدمة بالقصر، وخلع على رئيس الطبّ وبعض أطبّاء معه وعدّة من السقاة بسبب عافية السلطان من وعكه. وكانت الخدمة قد تعطّلت من القصر أياما”. (نيل الأمل في ذيل الدول (6/ 36).
ومن يتتبع تاريخ الأطباء في الإسلام يجد أن الحضارة الإسلامية اعتنت بالأطباء عناية فائقة، وأن العطاء لهم لم يقف عند حد الرواتب، بل تعدى إلى تقديم الطعام والغذاء لهم، بل ودفع علف دوابهم، أو بلغة العصر دفع ( بنزين السيارات لهم)، بالإضافة إلى بعض المكافآت والحوافز، فقد:” كان للأطباء على وجه العموم من لدن الخلفاء والملوك والأمراء، الإحسان الكبير والأفضال الغزيرة، والجامكية الوافرة والصلات المتواترة، وكانت تطلق للأطباء مع الجامكية الجراية وعلوفة للدابة التي يركبونها” بل وصل بعض الأطباء حد الغنى الذي يقارن الحكام آنذاك، ” وقد بلغ بعض الأطباء من حسن الحال ورغد العيش إلى درجة عظيمة، فقد بلغ بختيشوع في زمان الخليفة المتوكل في الجلالة والرفق ةعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال وكمال المروءة ومباراة الخليفة في اللباس والزي والطيب والفرش والضيافات والتفسح في النفقات مبلغا يفوق حد الوصف.. (تاريخ البيمارستانات في الإسلام، د. أحمد عيسى (ص: 28-30)
ومن حقوق الأطباء أن تكون لهم وقاية وحماية مما قد يعرض حياتهم للخطر، فإن هذا مما ينقص قدرهم عند بعض من لا علم لهم، فواجب أن توفر للأطباء وسائل الوقاية والحماية، فإن فقد الطبيب ليس كفقد غيره، فالله تعالى جعل الطبيب سببا في شفاء الخلق، فهم من أركان كل مجتمع، وأصل من أصول كل حضارة، ولذا كان من نصيحة الشافعي ألا يسكن الإنسان بلدا ليس فيه طبيب، فقال رحمه الله: ” لا تسكنن بلدا لا يكون فيه عالم يفتيك عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك. (آداب الشافعي ومناقبه (ص: 244). وإذا كانت المجتمعات تسعى إلى حماية الإنسان من الوقوع في الأمراض والتعرض للأوبئة، وهو من جميل الأفعال، فإن توفير مثل هذه الوسائل الطبية في حق الأطباء أوجب، لأنهم في هذا المقام أصل والناس فيها فرع، وهم فيها رأس والناس فيها تبع، وحماية الأصل هي حماية للفروع.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين