تأسيس العدالة والسلم

عند رجوع قريش من حرب الفجار المشهورة تداعوا لحلف الفضول، فتم في دار عبد الله بن جدعان التيمي أحد رؤساء قريش ((فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف الفضول))[1].

      وعن طبيعة هذا الحلف، وقيمته العامة والخاصة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم إقرارا لفضله: (( لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت ))[2].

      فلقد كان السبب في هذا الحلف هو أن (( رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف ، عبد الدار ومخزوما وجمحا وسهما وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه – أي انتهروه – فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة ، فنادى بأعلى صوته:

يا آل فهر المظلوم بـضاعـــته ببطن مكة نائي الدار والـنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت كــرامته  ولا حـرام لثوب الفـاجر الغدر

      فقام  في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك! فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدو وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة، وما رسى ثبير وحراء مكانهما، وعلى التآسي في المعاش.

فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه )) [3].

      فحرب الفجار قد كانت في شهر حرام، وحلف الفضول سيتم أيضا فيه، وكأنه بهذا التوافق يمثل محوا إيجابيا لعمل سلبي سبق وحدث، في حين أن الحرب قد تمت بحلف ولكن من غير تعاقد وإنما هي تدافع قبلي واجتماعي وحمية يطبعها قانون: (( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ))، بينما حلف الفضول قد كان ذا طبيعة تعاقدية شرعية وحضارية مبنية على مناصرة المظلوم دون الظالم، وهذا ما يؤشر على أن قريش، أو العرب عموما، لم يكونوا في جاهلية مطلقة وفوضى عارمة وإنما قد كان لهم ضمير ووحدة شعور قابل للصقل والإثارة، سرعان ما يتنبهون إلى الفضيلة بالرغم من جثامة أورام الشرك وأوهام الأوثان على قلوبهم التي قد جاءت الدعوة النبوية الإسلامية لمحقها من جذورها ومحو آثارها ومظاهرها، ومن هنا فقد كان (( خيارهمفي الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )) كما أكده صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان الأمر هكذا فإن حضور النبي صلى الله عليه وسلم بين قومه وهم على هذه الصفة والقابلية للإيجابية والسلبية سيكون جد مؤثر في سلوكهم لا محالة، خاصة وهو الملقب بينهم بالأمين، وهي الصفة التي ستبقى بالنسبة إليهم مطمحا وتطلعا ما بعده من تطلع، قد عجز الكثير منهم عن الدنو من أنفاسه أو تعقب آثار خطواته.

      فأمانته صلى الله عليه وسلم هي التي أهلته لأن يحضر هذا الحلف ، ويكون شاهدا على قراراته ، ومزكيا له بهمته ، بل سيكون هو من وضع ختمه وطبع له بالعدل الذي يمثل  صلى الله عليه وسلم محوره في هذا الوجود ، وهذه أيضا من فضائله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه.

      إذ إنه لم يكن يحضر أو يشهد تحالفات تنبني على الشر أو الغدر، بتاتا، وإنما كان يكون، دائما وأبدا، حيث يوجد مظهر العدل والصلاح أو الإصلاح.

      وهذا الحلف لم يكن جزافيا وعابرا ، أو هو مجرد رد فعل إنساني واجتماعي محض، وإنما سيكون له امتداد دعوي ينبني على مؤازرة ومناصرة النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلا لما أكرمه الله تعالى بالرسالة الخالدة والشاملة حيث الإشارة النبوية في هذا الأمر واضحة، وهي: (( لو دعيت به في الإسلام لأجبت)).

      فحلف الفضول قد كان مقدمة لهذه المناصرة والمواساة، حتى في المعاش، وخاصة عند مسألة الحصار في الشعب، إذ سيبدو موضوع التضامن على هذا المستوى واضحا جليا في انضمام بني هاشم قاطبة، باستثناء أبي لهب، إلى كوكبة المحاصرين مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعاناة نفس الصعاب وتجرع مرارتها من جوع وعزلة وتعيير واستفزاز التي كان يعني منها، إلى أن انتهت المحنة بفك الحصار عن طريق المعجزة وما يقتضيه مقام النبوة من مناصرة ومباركة ربانية جلية.

   وملخص حصار الشعب في سير الأعلام، مسألة: الجزء السادس والعشرون هو : (( عن الزهري، قال: ثم إنهم اشتدوا على المسلمين كأشدما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله  صلى الله عليه وسلم علانية. فلما رأى أبو طالب عملهم جمع بني أبيه وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوه أجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلح، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل. فلبث بنو هاشم في شعبهم ، يعني ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء، وقطعوا عنهم الأسواق، وكان أبو طالب إذا نام الناس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش ذلك فينام عليه. فلما كان رأس ثلاث سنين، تلاوم رجال من بني عبد مناف، ومن بني قصي، ورجال أمهاتهم من نساء بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.

      وبعث الله على صحيفتهم الأرضة، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق، ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، فلم تترك اسما لله إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فأخبر به أبا طالب…   ))[4]      

حلف الفضول و المشترك الإنساني في باب العدالة والسلم

   وهذا الموقف ، سواء عند حلف الفضول أو حلف الشعب، يعطي لنا دروسا وعبرا ، في مجال التكاتف والتضامن الاجتماعي ، وتأسيس مبدأ عدم التخلي عن القريب ولو مع التعذيب مهما كانت الظروف والأحوال,

      فهي أي المواقف ليست مبنية على توافق عقدي محض، وإنما هي ذات مرجعية إنسانية قائمة على قوة الحس المشترك بين البشر، من باب الشعور بالآخر ومدى تأثير الظلم عليه بالقياس إلى نفسية كل واحد منا و تصور انتقاله إلى نفوس الآخرين وإيلامهم.

      إذ لا يهم أن يكون المظلوم قريبا أو بعيدا غريبا، ولكن الظلم هو الظلم في ظلماته، ولو وقع من أب على ابن أو زوج على زوجة أو حبيب على حبيب، وهكذا…

      فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حضر حلف الفضول وهو أبعد ما يكون عن عقائد المشركين ووثنيتهم، كما عبر عن بغضه لها صراحة حينما استحلفه بحيرى اختبارا باللات والعزى عند لقاء سفر الشام سابقا، لكن القاسم المشترك الذي كان قائما بينه وبين هؤلاء القوم هو إقامة العدل بصورته الاجتماعية، والنبي صلى الله عليه وسلم هو محور العدالة الكونية كما سبق وبينا في مرقى: ((فجر النور ومبادئ الخصوصية من السيرة النبوية )) حيث مازلنا الآن في امتداد ظلاله وسلسلته.

      وهذا العنصر كفيل بأن يضمن حسن استمرارية التواصل بينه و بينهم والثبات على المبادئ، فكان هذا الوصف من نصيب بني هاشم الذين أثبتوا بالفعل والحال أنهم خيار الناس في الجاهلية والإسلام.

      روى الحاكم والبيهقي: (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل : قلبت الأرض من مشارقها، ومغاربها، فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الأرض من مشارقها ومن مغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم  ))[5].

      وينسب إلى أبي طالب يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم قوله:

إذا اجتمعت يوما قريش لفـخر   فعبد مناف سرها وصـميمـها
فإن حصلت أشراف عبد منافها  فــفي هاشم أشـرافـها وقديمها
وإن فخرت يومـا فـإن محمدا   هو المصطفى من سـرها وكريمها    
 تداعت قريش غثها وسمينها    علينا فلـم تظـفر وطاشت حلومها
وكنا قديما لا نـقـر ظلامة   إذا ما ثنوا صـعـر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهةونـضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء وإنما       بأكفاننا تندى وتنمى أرومها                                                     

      فحال قريش، خاصة بني هاشم، في مسألة رعاية حقوق الأقليات والضعفاء والمظلومين قد كان أحسن وضعا مما هي عليه عصبة الأمم المتحدة في  عصرنا، وذلك من جهة نوعية المناصرة وشرفها، ومن ناحية أخرى ذلك الالتزام بالمبادئ والمعاهدات مهما كلف الثمن ذلك. كما لم تكن لديهم مراهنة على الدماء لحسابات ضيقة وطائية مقيتة تهتك وتفتك ولا يرعى الفرق فيها بين من يَهلك أو يتهالك !

      ولهذه الخاصية أيضا فقد كان لقريش السبق في المجال السياسي وتولي الريادة في المجتمع العربي والإسلامي مع التعقييد بشروط العدالة والالتزام كما ورد في الأحاديث النبوية: (( الأئمة من قريش إذا استرحموا رحموا ،وإذا عاهدوا وفوا ، وإذا حكموا عدلوا… ))[6] أو (( الناس تبع لقريش  في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم ))[7] (( إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين ))[8].

      قلت: إن الاختلاف العقدي في باب العدل ورد المظالم لأصحابها لا يقتضي بالضرورة أن يكون المبادر فيها هو المؤمن أو المسلم المحض، أو أن يكون غير الموافق عقيدة، بل الأمر هنا يعتبر مسألة حق كما نص عليه القرآن الكريم: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) )[9]،( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[10].

      فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يقر حلفا قد تم في الجاهلية، له جانب صحيح في باب العدل، وهاهو صلى الله عليه وسلم سيجعل من هذا الإنجاز نموذجا يحتذى من أجل المصلحة الإنسانية العامة، ومن أجل سلم الأمم ووحدتها في باب العدالة وضمان الحقوق. وهو بهذا قد كان أول مؤسس لمفهوم عصبة أو هيئة الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية حينما تتوافق مع مبادئ العدالة الصحيحة ولا تتعارض مع الحق بأي وجه كان.

       هذا مع مراعاة للاختلافات العقدية أو العرقية والعرفية، لأن العدالة ودفع الظلم عملة غير قابلة للتصنيف الطائفي كيفما كانت صورتها، إذ العدل ميزان ولا علاقة له بطبيعة الموزون ونوعه.

      من هنا ، فقد كان هذا الخلق العظيم للنبيصلى الله عليه وسلم في ارتباط رؤيته وحكمه وبعده بهذا الموضوع متساويا ومتواصلا حتى قد قال : “ لو دعيت إليه لأجبت “.

      فهو صلى الله عليه وسلم  رسول ونبي وداعية إلى الله تعالى، ومؤسس للفضائل والحقوق، على رأسها العدل كما سبق وفهمنا، ومع هذا فهو يقبل الاستجابة لمن يبادر بهذا الأمر، وينزل عند طلبه كرما وعزما وحزما، حتى يتم التواصل بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم، ويتحقق التعايش ويتأسس العمران على أبهى صوره ومعالمه.

      وهنا قد نرى كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه ووجوده الشريف داعية ومدعوا في آن واحد ، وهذا هو قمة الفضل وحلف الأحلاف مطبوعا بنور النبوة في ظاهره وباطنه، عاجله و آجله.

      وهذا الحلف وإقراره أيضا من طرف النبي صلى الله عليه وسلم قد أصبح نموذجا رفيعا لدفع الظلم ومنع سلب أملاك الناس ومكتسباتهم من غير حق.

      قال ابن إسحق: (( وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي، أن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي حدثه أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وبين الوليد بن أبي سفيان- والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بين أبي سفيان – منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين، في حقه لسلطانه، فقال له الحسين : أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم لأدعون بحلف الفضول، قال: فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد حين قال حسين ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا، قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذاك الوليد بن عتبة، أنصف الحسين من حقه حتى رضي))[11].


[1] ابن هشام: سيرة النبي  صلى الله عليه وسلم  ج1ص145

[2] رواه أحمد

[3]  ابن كثير: السيرة النبوية ج1ص259

[4]  الذهبي: سير أعلام النبلاء

[5] بن كثير: السيرة النبوية ج1 ص194

[6]  رواه أحمد والحاكم في المستدرك وغيرهما

[7]  رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش…

[8]  رواه البخاري في كتاب الأحكام ،باب الأمراء من قريش

[9]  سورة المائدة آية  7 ـ 9

[10]  سورة الأنفال آية 61

[11]  ابن هشام:سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1ص146