جعل الإسلام أساس العلاقة بين السلطة والشعب يقوم على التكامل فيما بينهما، بحيث لا يمكن أن يستغني أحد الطرفين عن الآخر، فكل منهما يكمل الآخر، ويُكمِّله الآخر. كما لا يُمكن أن ينوب أحدهما عن الآخر في مسؤولياته وواجباته.

وقد كان لهذا التكامل أسس وضعها الإسلام وأكَّد على وجودها، وأول هذه الأسس أنه سوَّى بين الحاكم والمحكوم في الحقوق والواجبات، وقد كان هذا المفهوم شيئًا جديدًا كل الجدة، بالنسبة لما كان معروفًا من النظم قبل الإسلام، كما سبق وبيَّنّا.

وثاني هذه الأسس إرساء الإسلام لمجموعة من القواعد التي تحقق التكامل بين السلطة والشعب، وهي مجموعة من الأحكام والتشريعات التي تعضد هذا التكامل وتقويه، ومن  أهمها ثلاثة: الأمر بإقامة العدل في الدولة، ووجوب تحقيق الحريات، ووجوب الشورى والمشورة بين السلطة والرعية.

والعدل أهم أسس التكامل بين السلطة والشعب، ولذا جعله الإسلام فريضة واجبة، مأمور بها في القرآن الكريم والسنة النبوية، وجعله ضرورة من الضرورات الاجتماعية والانسانية، وليس مجرد حق من الحقوق يمكن لصاحبها التنازل عنها إن أراد، أو أن يفرط فيها طواعية، دون وزر أو إثم.

إنها فريضة عامة، فرضها الله عز وجل على رسوله فقال: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}[الشورى:15]، وفرضها على أولياء الأمور في الأمة من السلطة والعلماء والقضاة وأهل الشوكة ونحوهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:58].

وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى  كون العدل أحد أهم أعمدة التكامل بين السلطة والشعب، بقوله: “إنَّ لهم  (أي: ولاة الأمر) عليكم (أي الرعية) حقًّا، ولكم عليهم حقا مثل ذلك، ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وَفُّوا، وإن حكموا عَدَلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين[1].

إن قيام العدل في الدولة بحيث يُنتصف للمظلوم، ويُستوفى من الظالم، يؤدّي -ولا شك- إلى تقوية العلاقة بين الشعب والسلطة، كما يُضاعف شعور الإنسان بالانتماء لوطنه.. مما  يجعل الدولة أكثر تماسكًا وأمنًا واستقرارًا، فلن يبيت مظلوم يُعاني القهر ما دام يعلم أن حقه إليه راجع، ولن يهنأ ظالم بالعيش أو يستلذ بنوم؛ لأنَّه يعلم أنه مُطالَب ومُعاقب.

وهذا معنىً جميل يملأ النفس طمأنينة، ويُنزل على القلوب سكينة، فيَأمن الإنسان على نفسه وماله فيبدع وينتج، ويسهم في حل المشكلات التي تعوق مسيرة أمته،  وتلك غاية الغايات وقمة الأهداف لأي مجتمع متحضر ينشد حاضرًا أكثر أمنًا واستقرارًا، ويستهدي مستقبلاً أكثر رفعةً وازدهارًا. فهو بلا شك أساس لعمران البلاد، وأساس لبناء الحضارات في كل زمان ومكان.

وما قامت الأمم وارتفعت حضارتها بشيء مثل العدل، ومن هنا كان تحقيق العدل مهمة الرسل والأنبياء، ووظيفة الحكم الصالح ودعامته المكينة. فلا تستقر أحوال أي مجتمع دون وجود سلطة تُقيم القسط، وتنشر العدل، وتحوط الأمة في دينها ودنياها، لا يؤثر أحد من أولي الأمر فيها نفسه وقرابته وأهله وعشيرته على سائر رعيته، بل يتحرى الجميع العدل في جميع مسالكهم بقدر استطاعتهم، ويتخذون بطانة صالحة، فتستقيم أمور الدولة، وتحبهم الرعية وتدعو لهم، وبذلك يكثر التراحم في المجتمع بين الراعي والرعية. ومن هنا كان خير الأئمة من يحبون رعيتهم ويدعون لهم، وتحبهم الرعية وتدعو لهم[2]. وكان أول السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله “الإمام العادل”[3].

وبغيبة العدل في المجتمع يحصل الخلل محل التوازن بين الجماعة الإنسانية، فيصير المجتمع فاسدًا، تتركز فيه السلطة والقوة والمال والثراء في طبقة واحدة، على حساب باقي الطبقات، ويتكون المجتمع من سادة وعبيد، وأثرياء ثراءً فاحشًا وفقراء فقرًا مدقعًا، وتحصل قلة من الأمة على كل شيء، ويُحرم الباقي من كل شيء. وهذا يؤدي إلى مشكلات عديدة، من أهمها ترف القلة وبطرها وضلالها، وربما كفرها.. وبهذا الترف تتحقق سنة انهيار الحضارات، وتراجع العمران، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء:16].

فتحقيق العدل في الدولة طوق النجاة من مثل هذا المصير، وقوة للأمة بترابط أجزائها، وليس كالإسلام مذهبا ومنهاجًا لتحقيق الأمن والأمان بالعدل والتكامل.


[1]- رواه أحمد (12307) وقال محققو المسند: حديث صحيح بطرقه وشواهده. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2758) عن أنس.

[2]- كما في الحديث: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم”، والحديث رواه مسلم في الإمارة (1855) عن عوف بن مالك.

[3]- متفق عليه: رواه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031) عن أبي هريرة.