التربية تحتاج جهدا كبيرا، وانشغالا واعيا، من الأبوين والمربين، فهي ليست عشوائية، أو غير علمية، ولكنها ممارسة واعية، تسعى لغرس قيما إيجابية في نفوس الأجيال الصاعدة، وإعدادهم للمستقبل، لذا كان تجنيب الأبناء المخاطر، له تدعياته السلبية تربويا، فهو يثمر أجيالا ضعيفة، فاقدة للثقة بأنفسها، وعاجزة عن الإبحار في الحياة، فغرفة العمليات الجراحية المعقمة ليست صالحة للحياة، والأجساد تحتاج في بناء مناعتها إلى مواجهة، وحرمان الجسد من منافع المواجهة، هو حكم عليه بالفناء.

ومن أهم الصفات الواجب غرسها في النشء: الجرأة، والإقدام، والقدرة على اتخاذ القرار، وعدم تهيب الصعاب، وعدم الرهبة من الفشل، والقدرة على النهوض مع الإخفاق، وتلمس طرقا جديدة للنجاح والصعود، والخروج من التبعية نحو الاستقلال، وبناء الشخصية السوية الإيجابية والنافعة.

الانفتاح على المخاوف

الجرأة مدخل لكثير من المنجزات التي حققها الإنسان في تجاربه العلمية وكشوفه الجغرافية وانتصاراته العسكرية، وذات أهمية في التنشئة، ومتى كان غرسها في النفس بصورة جيدة، كانت النتائج المتوقعة في المستقبل أكثر عطاء، وهي من مسببات مقاومة الأمراض النفسية لدى الشباب، إذ تحرم الشخص من الانكماش في ذاته، وتمنعه من اعتصار نفسه ألما وحسرة، كما أنها تدفعه لاقتحام مكامن الخطر سعيا لتغيير النتائج، ومع الجرأة يتراجع القلق والاكتئاب، ويشعر الفرد بالثقة والقدرة على الفعل والمقاومة وتجاوز المحن والصعاب، وهناك طريقان يساهمان في ترسيخ الجرأة في النفس:

الانفتاح على المخاوف: بمعنى ألا يستسلم الإنسان للخوف، فبعض حالات الفوبيا والرهاب تفرض على الإنسان أن يلمس مخاوفه؛ بل يعيش فيها، حتى تنتهي، مثل الشخص الذي يخشى الأماكن المرتفعة، أو الشخص المصاب برهاب القطط-مثلا- من المفترض أن يقترب منها، وأن يتجرأ على اقتحام مخاوفه الموهومة، حتى تتحول تلك المخاوف إلى نقاش داخلي، ينتهي في الغالب بأن ذلك الخوف غير مبرر،  ومن ثم فمعرفة الحقائق، تخلق في النفس جرأة وشجاعة، تجعلها تستهين بالخوف والقلق.

الاستعداد للمواجهة: عندما ينفتح الشخص على مخاوفه، من المفترض أن تكون الخطوة التالية، هي الجرأة على المواجهة، وعندما يعرف الإنسان حجم ومقدار الخطر، ويدرك حجم الخطأ في تصور الخوف، ومقدار إمكاناته الذاتية والمادية، فهذا يقوي جرأة النفس، ويسهل له الشجاعة.

في مسألة الجرأة والتنشئة، يجب أن نقول أن الجرأة نقيض الخجل، وفيها يكون الشخص على الاستعداد للمخاطرة، والمخاطرة تعنى الابتعاد عن مناطق الراحة، واقتحام الأخطار، ولا تعني النجاح كل مرة، فالجرأة شيء إيجابي، والعيش مع الخجل والقلق والخوف ليس شيئا جيدا، فالأشخاص الواثقين اجتماعياً يتعلمون عمداً المهارات، فالشخصيات الكاريزمية الزعامية تصنع، في الغالب، من خلال جهدها وجرأتها وقدرتها على التغلب على مخاوفها، ومواجهة المخاطر تزود الشخص بمهارات كبيرة، وتمنحه قدرات، وتقوي ذاته، وتدفعه للتعامل مع الإخفاق بانفتاح وليس باعتباره نهاية العالم، والجرأة تضبط الأفكار القلقة داخل الإنسان، وتلجمها بالحكمة، وتضعها في إطارها الصحيح، والجرأة لا تُنشيء تصورات مخيفة للقلق تغري بالهلع والفزع، والجرأة تجعل الشخص أكثر وعيا بمخاوفه، ومع الانفتاح على المخاوف تقل المخاوف، ووفقا لعلم النفس فإن زيادة الخجل-مثلا – يرجع إلى قلة التواصل الاجتماعي، فتهيب الانسان من الآخرين، يحتاج إلى جرأة في التواصل، وهو ما يبني الثقة الذاتية، ويعدل أخطاء الذات، فالجرأة تخمد الاستجابة للخوف، وتقلل من الطبيعة الوراثية تجاه بعض المخاوف.

مأزق الأبوة المفرطة

أحد معيقات التنشئة على الجرأة، ما يسمى بـ”الأبوة والأمومة المفرطة” وذلك عندما يتولى الآباء والأمهات حماية أبنائهم من المخاطر، بصورة شاملة، دون أن يقوموا بتنمية قدرات الأبناء على المواجهة، فالحرص الزائد والخوف المبالغ فيه من الآباء والأمهات يُخرج أبناءً ضعفاء قليلي الحيلة لا يتمتعون بالمهارات اللازمة لمواجهة الحياة وتقلباتها وصراعاتها، وفي دراسة لجامعة “ستانفورد”[1]  للبرفيسورة ” جيلينا أوبرادوفيتش ” Jelena Obradovic ، قالت:”أن الأطفال الذين يتدخل آباؤهم لإعطاءهم التعليمات أظهروا في كثير من الأحيان صعوبة أكبر في تنظيم عواطفهم في وقت لاحق” وأنه “عندما يسمح الآباء للأطفال بأخذ زمام المبادرة في تفاعلاتهم، يمارس الأطفال مهارات التنظيم الذاتي ويبنون الاستقلال “.

وأكدت أوبرادوفيتش أن الأبوة المفرطة ذات تأثير سلبي في التنشئة، لأنه مع تقدم الأبناء في السن، يكتشفون أن خبراتهم قليلة وقدراتهم ضعيفة على المواجهة، مما يجعلهم أقل ثقة في أنفسهم، وأن الواجب على الآباء والأمهات أن يُخرجوا هؤلاء الأبناء من مناطق الراحة الخاصة بهم لمواجهة المواقف المختلفة، ويجب تعزيز الجرأة والشجاعة عند الأطفال، لأن ذلك سيساعد في تحقيق أقصى استفادة لهم من الحياة، وأن ذلك بمثابة إعداد لهم للعالم الحقيقي، فالآباء الذين يسمحون لأبنائهم بالجرأة وأخذ زمام المبادرة، يقدمون دعما نفسيا كبيرا للأبناء في المستقبل.

تناول بعض علماء النفس ظاهرة “الآباء والأمهات النمور” أو كما أسموهم الآباء الهليكوبتر” the helicopter parenting وهم الآباء الذين يحومون فوق رؤوس أبنائهم طوال الوقت ويحرمونهم من الاستقلال واتخاذ القرارات بمفردهم، أو حتى اكتشاف الحياة والواقع بأنفسهم، فهذه التربية والرقابة الصارمة من الآباء تفسد شخصية الأبناء، وتجعلهم دوما يعولون على غيرهم لتقرير مصيرهم، فرغم النوايا الحسنة للآباء والأمهات فإن مسلكهم التربوي غير جيد وقليل النفع.

وقد أظهرت الدراسات عن مأزق يقع فيه الآباء وهو أن رغبتهم في منع الأبناء من ارتكاب نفس الأخطاء التي يشعرون أنهم ارتكبوها، وتقريع الأبناء على قراراتهم الشخصية غير الجيدة في بعض الأحيان، يعدان مؤشرا على الأبوة المفرطة، واقترح بعض علماء النفس نظرية تقرير المصير في التربية self-determination، وأشاروا إلى وجود ثلاث احتياجات نفسية عامة، هي:

الكفاءة:

وتعني الشعور بالأمان والثقة في قدرة الفرد

الاستقلالية:

وتعني قدرة الفرد على اتخاذ خياراته الخاصة

الاتصال والقدرة على بناء علاقات:

وتعني القدرة على الانخراط في علاقات حقيقة.

وأشارت الدراسات أن المشاركة المفرطة في حل مشكلات الطفل تقلل من كفاءة الطفل وفعاليته، وتضعف تنمية قدراته، وتؤثر سلبا على علاقاته في محيطه العائلي والاجتماعي، وكما تقول الحكمة “من لا يجرؤ على الإمساك بالشوكة، يجب ألا يشتهي الوردة” فالجرأة طاقة في الحياة، ووقاية نفسية، ومورد لبناء الشخصية القوية، والذي لا يتعلم الجرأة سيظل قليل المكاسب، قابعا في مكانه لا يرنو إلى مكانة أعلى.


[1]  رابط الدراسة https://www.apa.org/pubs/journals/releases/fam-fam0000838.pdf