قال الدكتور حازم علي ماهر، الباحث المصري المتخصص في الدراسات الإسلامية والقانونية، إن الشريعة الإسلامية لها ثلاثة مكونات، هي العقيدة والأخلاق والمعاملات، ويتعين عدم الفصل بينها، وإن جاز التمييز لاعتبارات التخصص والدراسة.

وأوضح الباحث المصري أن الشريعة الإسلامية نظام تشريعي مستقل قائم بذاته، وشهد بذلك غربيون منصفون كثيرون، وفي مؤتمرات قانونية دولية.. لافتًا إلى أن الشريعة أوسع من محاولة حصرها في منطقة “عقابية” منفِّرة ومفرِّقة.

والدكتور حازم علي ماهر، حاصل على الدكتوراه من كلية الحقوق، جامعة القاهرة، عام 2016م، عن أطروحة بعنوان: “تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر- دراسة تطبيقية حول النصوص الدستورية”، ويعمل حاليًا مستشارًا قانونيًّا بدولة الكويت، بالإضافة إلى إشرافه على موقع “حوارات الشريعة والقانون” الذي أنشأه مؤخرًا لوصل القانون بالشريعة بعيدًا عن التحزبات السياسية.. فإلى الحوار:

من المهم أن نبدأ بتوضيح مفهوم “الشريعة الإسلامية”.. فماذا نقول؟

دعني أشير أولاً إلى أن “الشريعة الإسلامية” (مصطلح) وليس (مفهومًا)؛ والفارق بين المصطلح والمفهوم أن الأول أكثر تحديدًا، ومحل للاتفاق بين غالبية الفقهاء، ويمكن تعريفه حديًا وإجرائيًا على حد سواء، على عكس المفهوم الذي قد يختلف تحديده من فقيه لآخر أو من مجموعة من الفقهاء لآخرين، ولما يستقر بعد على تعريف حاسم له متفق عليه إلى حد كبير.

ولعل من أوضح التعريفات المعاصرة للشريعة الإسلامية، والتي تعد شارحة لمعناها في الوقت نفسه، تعريف العلامة محمد يوسف موسى، الذي عرفها بأنها: “كل ما شرعه الله للمسلمينمن دين؛ سواء أكان بالقرآن نفسه، أم بسنة الرسول r من قول أو فعل أو تقرير؛ فهي لهذا تشمل أصول الدين، أي ما يتعلق بالله وصفاته والدار الآخرة، وغير ذلك كله من بحوث علم التوحيد أو علم الكلام. كما تشمل كل ما يتعلق بتهذيب المرء لنفسه وأهله، وما يجب أن تكون عليه العلاقات الاجتماعية، وما هو المثل الأعلى الذي عليه أن يعمل لبلوغه أو مقاربته، وما هي الطرق التي يريد بها أن يصل إلى هذا المثل أو الغاية من الحياة، وهذا كله هو ما يعرف باسم علم الأخلاق. ومع هذا أو ذاك، تشمل الشريعة أحكام الله لكل من أعمالنا، من حل وحرمة وكراهة، وندب، وإباحة..”.

فالشريعة الإسلامية؛ عقيدة وأخلاق ومعاملات، وهذه المكونات الثلاث يتعين عدم الفصل بينها-كما هو حادث في الوقت الحالي- وإن جاز التمييز لاعتبارات التخصص والدراسة.

لا يوجد في التاريخ “يوتوبيا” أو مدينة يعيش فيها الناس كالملائكة

كيف يتقاطع مفهوم “الشريعة” مع مفهوم “الإسلام” نفسه؟

الإسلام في اللغة، هو: الطاعة والانقياد، ويطلق في الشرع على الانقياد إلى الأعمال الظاهرة، والشريعة الإسلامية تتقاطع مع مصطلح الإسلام (وكذلك مع مصطلح الدين) باعتبارها تشمل كل ما نزل به الوحي على رسول الله محمد r من عقائد وأحكام أخلاقية وعملية، فهذه الأحكام تسمى شريعة؛ لأن القرآن شرعها، وتسمى دينًا؛ لأن مَن يتمسك بها يكون طائعًا لله وخاضعًا لشرعه، على النحو الذي انتهى إليه من قبل أستاذنا الدكتور عبد العزيز سمك.

وماذا عن العلاقة بين “الشريعة الإسلامية” و”الفقه الإسلامي”؟

يمكن القول اختصارًا إن الشريعة هي النص، والفقه هو قراءة هذا النص وفهمه، أو بمعنى آخر فإن الفقه-كما عرفه العلماء- هو “العلم بالأحكام الشرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية”، فهو ليس الأدلة التفصيلية ذاتها، وتنبني على ذلك آثار بالغة الأهمية تنبع من كون الشريعة هي وضع إلهي يتضمن الأحكام الواردة في المصدرين الأساسين في الإسلام: الكتاب والسُنَّة، بينما الفقه جهد بشري لاستنباط الأحكام الشرعية من هذه المصادر.

فالإلزام بالنص الشرعي لا ريب فيه، بينما الآراء الاجتهادية غير ملزمة في ذاتها، إلا بقدر قوة أدلتها الشرعية وقوة حجتها، ويمكن مخالفتها دوما بأدلة أقوى من جانب من تتوافر فيهم القدرة على الاجتهاد، باعتبار أن المقارنة بين الأدلة والترجيح فيما بينها أو معرفة الدليل الأقوى لا يتم إلا عبر ممارسة الاجتهاد ممن هم أهل له.

وأحب أن أنبه هنا إلى أمرين مهمين:

أولهما: أنه لا قداسة لرأي بشري في الفقه الإسلامي، وإنما القداسة دومًا للوحي وحده؛ سواء وردنا عبر القرآن الكريم أم من خلال النبي صلى الله عليه وسلم، قولا وفعلا وتقريرًا.

ثانيهما: أن الفقه الإسلامي يعد “ثروة تشريعية هائلة” من السفاهة الدعوة إلى التخلي عنها جملة، لما يؤدي إليه ذلك من حدوث نوع من الاستلاب الحضاري، والتعويل على مرجعية لم تنشأ في بيئاتنا ولا مجتمعاتنا، والأهم أنها لم تستمد من الكتاب والسُّنَّة المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي.

لماذا يبدو مفهوم الشريعة ملتبسًا، وحتى يحصره البعض في نظام الحدود والعقوبات؟

هناك أسباب عدة لهذا الأمر:

أولها: هذا التشويش المتعمد لمصطلحاتنا ومفاهيمنا، ومنها مصطلح الشريعة الإسلامية، باعتباره أحد أهم المصطلحات التي إذا فُهمت وطُبقت على نحو صحيح تبدلت أحوالنا إلى الأفضل، ومن ذلك مثلاً استناد السلوك- الفردي والمجتمعي- إلى فكرة جامعة صلبة تحكمه وتصله بالعقيدة والأخلاق معًا!

وثانيهما: سطحية البعض إلى حد تصور أن الخلاف بين الشريعة والقانون هو خلاف في التفاصيل والفروع، فلما بحثوا وجدوا أن هذه التفاصيل لا تصادم فيها بين نصوص القوانين وأحكام الشريعة بصورة فجة وقطعية سوى في الحدود والعقوبات الشرعية وإباحة الربا والزنا (في حالات معينة)، على النحو الأغلب، بينما تتفق في معظمها مع الشريعة، أو على الأقل تتوافق معها ولا تصادمها، بينما الفهم الصحيح يكمن في التركيز على مصدرية النصوص القانونية ومرجعيتها، هل هي شرعية أم وضعية؛ فمحل الاختلاف هو الميزان لا الموزون، ولأستاذنا المستشار الجليل طارق البشري رحمه الله إضافات تأصيلية مهمة في هذه المسألة، يمكن مراجعتها في كتابه: (الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي).

وثالثهما: التوظيف السياسي المغرض لقضية تطبيق الشريعة الإسلامية، والذي استهدف حصرها في منطقة “عقابية” منفرة ومفرقة، بدلاً من فهمها الواسع الذي يستند على الفهم الصحيح الجامع لمصطلح الشريعة الإسلامية، والذي يركز على القيم والمبادئ الأساسية التي فرضتها الشريعة قبل العقوبات وبالتوازي معها، ومن ضمنها إقامة العدل في الأرض، وترسيخ قيم الرحمة والحرية والمساواة ومساءلة الحكام وتقويمهم، ورفع الظلم عن الناس بكافة أشكاله وصوره!

بماذا تختلف الشريعة الإسلامية عن الشرائع الأخرى؟

الشريعة الإسلامية مكملة للشرائع السماوية السابقة، وهي تتفق معها في المصدرية، وفي العقيدة والأخلاق وفي أصول العبادات وأصول المعاملات، وغالب الاختلافات بين الشريعة الإسلامية وما سبقتها من الشرائع السماوية تنتج عن اختلاف طبيعة الشريعة الإسلامية من حيث إنها عابرة للزمان والمكان والأشخاص، مما اقتضى إجمالها لما يتغير وتفصيلها فيما لا يتغير؛ بمعنى أن أحكامها جاءت مرنة لتسع كافة تعاملات الإنسان حتى يوم الدين، ولذلك اختلفت عن كثير من الشرائع السابقة، فجاءت متوازنة بين الروح والمادة خلافًا للشريعتين اليهودية والمسيحية، كما أن أحكامها جاءت متوازنة، فلم تَمِل إلى التشدد على معتنقيها مثلما حدث مع اليهود، ولم تبالغ في التسامح إلى الدرجة التي كانت قد وصلت إليها المسيحية، بل رفضت الإفراط من جانب ورفضت التفريط من جانب آخر.

مؤتمرات دولية اعترفت بالشريعة الإسلامية نظامًا مستقلاً قائمًا بذاته

وعلى الرغم من ذلك، فلوحدة المصدرية، ووحدة الأصول الاعتقادية والأخلاقية، اعتد جمهور الفقهاء بـ”شرع من قبلنا” دليلًا من أدلة الأحكام الشرعية بضوابط معينة ذُكرت مفصلة في مراجع أصول الفقه المختلفة. وقد اقترح أستاذنا الدكتور جمال الدين عطية (رحمه الله) من قبل تقسيمًا لمصادر الأحكام الشرعية من زاوية جديدة تفرق بين المصادر ومناهج التوصل إلى الحكم الشرعي في كل منها، وضع فيه “شرع من قبلنا” ضمن المصادر النقلية، بعد الكتاب والسنة.

ما المقصود بحركة تقنين الشريعة؟ وكيف تنظرون إليها؟

تقنين الشريعة يعني صياغة الأحكام الشرعية في مواد قانونية على النهج الحديث، وهو أمر تجاوب معه الفكر والفقه الإسلاميان منذ قرنين من الزمان، بدءًا بترجمة رفاعة الطهطاوي للدستور الفرنسي وبعض القوانين الفرنسية الأخرى، مرورًا بالفتاوى الهندية، وتقنينات محمد قدري باشا، ومجلة الأحكام العدلية، بالإضافة إلى تقنينات مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وتقنينات لجان مجلس الشعب المصري التي أعدها مجموعة من فقهاء الشريعة وفقهاء القانون وعدد كبير من الخبراء، في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات.. إلخ.

وكما تفضلت، فهي “حركة”، حيث لم يتصلب المسلمون في التعامل مع المستجدات الوافدة إلينا من الغرب، بل تفاعلوا بإيجابية، ولم يجمدوا على الموجود، وقدموا دروسًا في كيفية الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وعدم الوقوع في شراك ثنائية صراعية بين التقنين الوافد والثروة التشريعية الموروثة.

غير أن هذا التفاعل لم يكن كافيًا لإرضاء “الفرنجة”، فلم يكن الأمر من منظورهم يتمثل في السعي لإحداث تفاعل حضاري وتبادل ثقافي، بقدر ما هو اجتياح شامل يستهدف الاقتلاع الحضاري في مواجهة الإقلاع الحضاري، ولذلك فلم يكن التقنين يمثل حلاًّ من منظورهم، بل هو تعقيد للمسألة؛ ذلك أنهم يريدون منا الذوبان فيهم والاستسلام لمرجعيتهم بحذافيرها، وفينا سماعون لهم، وآخرون من السذج الذين كانوا يظنون أن تنفيذ بعض إملاءاتهم، ومن ضمنها التقنين، قد ينجينا من العذاب الأليم!

على أية حال فإن حركة التقنين لا تزال مستمرة، وكان من أحدثها إصدار قانون استرشادي لأحكام الوقف، أصدرته دولة الكويت منذ عدة سنوات ليقدم العون في تجديد القوانين المتعلقة بالوقف الإسلامي في البلاد العربية.. ولكن بالتأكيد لا يزال الأمر يحتاج إلى مزيد من الجهد لتطوير تلك القوانين وغيرها، مع الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة فيما تسعه أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها، لاسيما فيما يتعلق بتجاربهم في التخلص من الاستبداد السياسي ذي المظلة الدينية، عبر آليات الديمقراطية المختلفة ومن ضمنها الدساتير المانعة من تغول سلطة الحكم على سلطات الدولة الأخرى ومن ثم على الشعوب، خاصة ونحن نعاني في هذا المجال أكثر من غيره. ولو كان المطالبون بتطبيق الشريعة قد ركزوا منذ البداية على تقنين الأحكام الداعمة للشورى والعدالة والمساواة والحرية وحفظ الكرامة الإنسانية ومساءلة الحكام (أو ما يسمى حاليًا بالقوانين المكملة للدستور) وتأصيلها شرعيًا، لكان ذلك أكثر فعالية في تنزيل أحكام الشريعة الإسلامية العقدية والأخلاقية والعملية على حد سواء!

البعض يرى ضرورة الانتقال من خطاب الدعوة لتطبيق الشريعة، والذي قد يحمل ضمنًا مفاصلةً أو حكمًا قاسيًا على المجتمع.. إلى خطاب الاستهداء بالإسلام؟

من أكثر مواطن الخلل في الفكر الإسلامي في القرن الماضي، أن جعل بعض المفكرين من أنفسهم حُكامًا وقضاةً على المجتمع، فحكموا بـ”جاهلية” الشعوب الإسلامية، ودعوا إلى “الحاكمية الإلهية” في مواجهة تلك الجاهلية، على أن تقوم “طليعة مؤمنة” بقيادة العالم الإسلامي إلى تحقيق “اليوتوبيا” الإسلامية!

والحقيقة أنه لا يوجد في التاريخ الإسلامي- بل في التاريخ البشري كله- “يوتوبيا”، أو مدينة يعيش فيها الناس كالملائكة “لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون” دومًا بلا أخطاء أو تقصير أو غلبة أهواء، حتى في عهد الخلفاء الراشدين ومن سار على نهجهم، لم يكن الأمر كذلك، بل ظلت هناك مساحة للظلوم الجهول أو لمن يريد الدنيا أن يتحرك في مواجهة من يريد الآخرة، ولم يكن هناك تطبيق كامل ومطلق للشرع الحنيف!

فهناك خلط واضح بين الواقع والمثال، بين البشري والإلهي، أو النسبي والمطلق، وستظل هناك مساحة دومًا لتنمية الإنسان ولهدايته، غير أنها لن تصل أبدًا إلى درجة الصعود به إلى العصمة والملائكية، فإن البشر مجبولون على النقص؛ ولذلك لم يطلب منهم ربهم إلا السعي الواعي المخلص إلى تطبيق أحكام الإسلام وحفظ مقاصده، غاية وسعهم، فهم مطالبون ببذل عناية، لا بتحقيق نتيجة، ولذلك كله فإن مطالبة الناس بتطبيق الشريعة والحكم بما أنزل الله ينبغي أن تكون في إطار الوعي بتلك الحقائق.

وبغض النظر عن (شعار) الخطاب الإسلامي، سواء كان الدعوة لتطبيق الشريعة أم إلى الاستهداء بالإسلام، فإن الأولى هو العمل على أن يتصدر هذا الخطاب أطروحات الرعيل الأول من مفكرينا الكبار؛ مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي وعبد الله النديم، ومعهم مالك بن نبي وعلي شريعتي ومحمد الغزالي وطارق البشري.. لاسيما في تشخيصاتهم لأمراض العالم الإسلامي وتركيزهم على ما يعاني منه المسلمون من تغول للاستبداد السياسي وتحالفه مع الإمبريالية الغربية ضدهم، وما أنتجه ذلك من معاناة للشخصية المسلمة من أمراض ترسخ تخلفها وتعرقل نهوضها، وكذلك فيما طرحه هؤلاء المصلحون الكبار من معالجات لتلك الأمراض، مثل السعي الواعي الحثيث للتحرر وللاستقلال دون التوقف عند مجرد المطالبة به، مع التركيز على رسمهم الطرق للتخلص مما ران على المسلمين في عصور تخلفهم من كسل عقلي وقابلية للاستعباد واستسلام لكل محتل متجبر، سواء كان داخليًّا أم خارجيًّا، وغفلتهم عن القيام بواجباتهم للحصول على حقوقهم، وعلى افتقادهم للمنطق العملي في التفكير، بالإضافة إلى اتكاليتهم، وفقدانهم لفاعلية عقيدة التوحيد في حيواتهم، حيث اقتصرت تلك الفاعلية- أو كادت تقتصر- على أداء الشعائر بلا روح ودون أثر عملي وأخلاقي يصدقها ويستوعب المفهوم الواسع للعبادة في الإسلام الذي لا تنفصل فيها العقيدة عن الخُلُق وعن السلوك.

في الشبهات المثارة حول الشريعة الإسلامية، يتكرر الحديث حول تأثرها، أو تأثر الفقه الإسلامي، بالتراث الروماني.. نريد التوضيح؟

ظلت الشريعة الإسلامية والفقه الآخذ عنها بمنأى عن هذا الاتهام طوال ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، حتى جاء أحدهم (وهو المحامي الإيطالي دومينكو غايتسكي) وزعم- في كتاب له صادر سنة 1856م- أن القانون الإسلامي مأخوذ في مجمله من القانون الروماني، ولم يورد أدلة على قوله سوى بعض المتشابهات بين القانونين لا ترقى أبدًا إلى مستوى الأدلة، ولكن مع ذلك نقل عنه غيره من المستشرقين غير المدققين أو المغرضين، ورددوا الزعم نفسه بلا أدلة حاسمة كذلك، مثل جولد تسيهر في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام)، وشاخت في بحثه المعنون: (القانون البيزنطي والشريعة الإسلامية)!

وقد نفت العديد من المؤتمرات القانونية الدولية هذا الزعم ضمنيًا، واعتدت بالشريعة الإسلامية نظامًا تشريعيًّا مستقلاً قائمًا بذاته، مثل المؤتمر الدولي للقانون الدولي المقارن” الذي عُقد في مدينة لاهاي عام 1937م، بمشاركة العلامة عبد الرزاق السنهوري، وأستاذه الفقيه الفرنسي لامبير، وكذلك مؤتمر القانون المقارن الذي عقد في المدينة نفسها عام 1937م، والذي قرر “أن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع العام وأنها شرع مستقل قائم بذاته.”

كما فند ذلك الزعم بتأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني كثير من الفقهاء الغربيين والمسلمين على حد سواء، وقدموا حججًا وبراهين يصعب دحضها؛ مثل اختلاف مفهوم التشريع والتصور الذي ينطلق منه ويلتزم به في الإسلام عنه عند الرومان، ومثل اختلاف المصدر، حيث إنه رباني عند المسلمين بشري عند الرومان، وكذلك هو أخلاقي عند المسلمين منفصل عن الأخلاق عند الرومان، فضلًا عن عدم توفر أية وثائق تثبت حدوث أي اتصال يعتد به بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني، فهذا الادعاء عبارة عن قول مرسل لا دليل عليه.

أما عن التشابه في بعض المفاهيم بين النظامين التشريعيين فهو إما تشابه وهمي، أو جاء في إطار المشتركات الإنسانية التي قد تتكرر لتشابه احتياجات الإنسان وطرق إشباعه لتلك الاحتياجات.

وللمفكر الهندي محمد حميد الله الحيدر أبادي جهد مهم في هذا الإطار؛ حيث فند غالبية الحجج التي استند إليها القائلون بتأثر الشريعة والفقه الإسلاميين بالقانون الروماني وأصدر كتابًا مهمًا تضمن دراسات لثلاثة من العلماء الأجانب المختصين- قام بترجمتها والتعليق عليها بنفسه- ودراستين لمفكرين مسلمَين (أحدهما د. محمد حميد الله نفسه، والآخر هو د. محمد معروف الدواليبي) أجمعوا فيه على تهافت هذا الزعم، وهو الكتاب المعنون (هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي؟)، والذي أنصح بمراجعته في هذا الشأن، فضلاً عن الكتابات ذات الصلة لكل من العلامة محمد يوسف موسى، ود. محمد سلام مدكور، ود. عبد الحميد متولي، ود. صوفي أبو طالب، وغيرهم.

“التاريخية” لا تسري مطلقًا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله

وماذا عما يقال عن تجاوز الزمان لأحكام الشريعة الإسلامية، مما نراه في دعوى “تاريخانية الإسلام”؟

التاريخانية أو التاريخية مذهب نشأ في الغرب في نهايات القرن التاسع عشر، مؤداه أن “النص” جاء نتاج ظروف اجتماعية وثقافية وسياسية وشخصية أنتجته وينتهي مع انتهائها، أي أن النص هو منتج تنتهي صلاحيته بانتهاء زمانه ومكانه وأشخاصه، حيث يمكننا أن نضعه في المتحف آنذاك، فهو حينئذ مثل السلع التي انتهت صلاحيتها، فلم تعد مناسبة للاستعمال في حاضرنا، ويمكننا أن نستعيض عنه بنصوص جديدة تناسب عصرنا.

فالتاريخية نوع من إخضاع النص للواقع، وحصره في نطاقه الزماني والمكاني تمهيدًا لتحكم الإنسان وحده في ذاته وفي واقعه، فلا مطلقات تقيده، ولا متعالي على سلطته، ولا راد لحكمه، ولتنتقل سلطة الله إلى الإنسان، فهو المقدس لا النص الديني!

ولا يخفى ارتباط التاريخية بالنسبية كذلك والسيولة؛ فالأخلاق نسبية، وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، طالما أن مرجعيتها نفسها باتت كذلك غير ثابتة ولا خالدة، فلا قيم ولا فلسفات كونية ولا مطلقات، فالمعرفة نسبية ترتبط بسياقها التاريخي.

وكالعادة انتقل إلينا هذا المذهب عبر مقلدي الغرب والمنبهرين به، الذين يتبعونه ويسقطون أفكاره ومناهجه علينا وعلى مرجعيتنا دون تمحيص ولا مراعاة لاختلاف البيئة والفكر والحضارة بصفة عامة!

ومن ثم، فقد حاول النقلة المقلدون إخضاع القرآن الكريم نفسه لمذهب التاريخية الذي نشأ أساسًا لأجل دراسة النص الأدبي، فبات القرآن- ومعه السنة بالطبع- وفق هذا الفكر منتج بشري يخضع لما يخضع له النص الأدبي، أو هو على الأقل يتضمن أحكامًا مرتبطة بزمانها ومكانها وأشخاصها وأحوالها، وانتهت بزوالها، ولم تعد واجبة التطبيق علينا!

وللأسف الشديد لم يلتفت هؤلاء إلى مآلات هذا الفكر في الغرب الذي قضى على قداسة الأديان وجعل كل شيء نسبيًا وسائلًا (من السيولة)؛ إذ انهارت قدسية الأديان لصالح قدسية الإنسان، ثم انهارت قدسية الإنسان لصالح الماديات والأشياء، فمات الإله عندهم ومات الإنسان، ولم يعش سوى الحيوان في داخله، حين سادت غرائزه، واتخذ إلهه هواه، فأفسد نظامه الاجتماعي بتفكيك الأسرة وإفساد الفطرة وتسويد المترفين وتحكمهم في الإعلام وفي السياسة وفي صحة الإنسان، وامتد إفساده للبيئة والمناخ من حوله، ووضع العالم على حافة الفناء بحرب نووية أو بالفيضانات والزلازل والأعاصير نتيجة تلاعبه في مناخ الأرض لإشباع غرائزه، أو بيد الإنسان نفسه بابتداعه ذكاءً اصطناعيًا يحل محله ولكن بلا ضمير ولا مرجعية دينية وأخلاقية يمكن أن تردعه عن تدمير البشر والعالم من حوله!

وهذا كله من آثار مثل تلك الأفكار المميتة التي هيمنت على العقل الغربي ويراد لنا أن نتناقلها كما هي فيما بيننا، ونتبع المقلدين المتبعين للفكر الغربي الذين يعيبون علينا نحن أننا تقليديون متبعون للقرآن والسنة!

على أية حال، فإن العلماء المسلمين لم تثر عندهم هذه المشكلة أساسًا، حيث وضعوا قواعد صارمة ومرنة في الوقت نفسه في التعامل مع النص الديني فيما يتعلق بالسياق “الزمكاني”؛ ومن ذلك- على سبيل المثال- أنهم وضعوا قاعدة عامة في التعامل مع النص القرآني وهي أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، باعتبار أن عدول الشارع في نص جوابه أو فتواه عن الخصوصيات إلى التعبير بصيغة العموم، قرينةٌ على عدم اعتباره تلك الخصوصيات- على حد تعبير الشيخ عبد الوهاب خلاف-، واستقر العلماء على أن الشارع قد اعتمد في منهجه على “إجمال ما يتغير وتفصيل ما لا يتغير”، وفتح باب الاجتهاد في الظنيات دون القطعيات، فحفظ الثوابت دون أن يحرم الإنسان من أن يجتهد لعصره بما يناسبه. ومن هنا، جاءت قاعدة “لا يُنكر تغير الأحكام [الاجتهادية] بتغير الأزمان”، فلا مانع مطلقًا من أن تتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، حتى إنهم كانوا يقولون حين ملاحظة الخلاف المبني على تغير الأعراف “هذا خلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان”، فضلا عن تبنيهم للعرف مصدرًا من مصادر الأحكام الشرعية فيما لا يخالف النص، حيث استقروا على أن “العادة مُحكَّمة”.

لأجل ذلك فليس عند المؤمنين شك في صلاحية أحكام الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وأن التاريخية لا تسري مطلقًا على كتاب الله وسنة رسوله (التشريعية)، خاصة وأن إطلاقية كل منهما واردة بالقرآن نفسه، وخطابهما- لا ريب- موجه لهداية العالمين إلى يوم الدين.

جهود علمية كثيرة تُبذَل في خدمة الشريعة من المجامع والجامعات

وماذا عن أهم الجهود العلمية المعاصرة حول الشريعة؟ وما الدور المطلوب من المجامع الفقهية والمؤسسات التشريعية، حتى يمكن تيسير “الشريعة” للفهم والتطبيق؟

هناك جهود علمية كثيرة تُبذَل في خدمة الشريعة الإسلامية، سواء من جانب المجامع الفقهية المختلفة التي تحرص على مواكبة العصر وبيان حكم الشرع فيما يستجد من نوازل وأحداث، أم من جانب الجامعات المختلفة التي تحرص على دراسة العلوم الحديثة- طبيعية واجتماعية وإنسانية- من منظور الشريعة الإسلامية؛ أي وزنها بميزان الشرع الإسلامي وبيان ما يتفق منها مع الشرع وما يخالفه، فضلًا عن جهود المراكز البحثية والباحثين الذين يمكن اعتبارهم من المجاهدين لعملهم في مناخ مناقض للعلم وقامع للفكر حريص على إعلاء الأشياء والأشخاص على حساب الأفكار، وعلى تفشي الفقر حتى لا يجد الإنسان وقتًا ولا حتى ذهنًا عنده مساحة باقية للتأمل والتفكير!

أما المؤسسات التشريعية فينبغي أن يكون أعضاؤها أولاً قد اكتسبوا عضويتهم بطريق شرعي، أي عبر انتخابات حرة ونزيهة، حتى يتم اعتمادهم ممثلين للشعوب التي انتخبتهم بحق، ومن ثم يسوغ مخاطبتهم للإسهام في تنزيل الشريعة الإسلامية وتيسيرها للناس، سواء في رقابتهم أم في تشريعاتهم، فيحرصون على درء الفساد وتحقيق مصالح العباد؛ فهذا هو مقصد الشرع الإسلامي الأساسي، مع مقصد إقامة العدل، وهذا المقصد يتطلب بدوره العمل على استقلال السلطة القضائية بالذات، فضلاً عن العمل على استقلال المؤسسات الدينية والجامعات ومؤسسات البحث العلمي، ودعمها وحمايتها، كما يستلزم إقامة العدل فرض سيادة القانون- المستمد من الشريعة أو على الأقل الموافق لها المحقق لمقاصدها- على جميع سلطات الدولة، وهو ما يفرض بدوره تحقيق استقلالية المؤسسات التشريعية نفسها عن السلطات التنفيذية، لضمان حماية حقوق المواطنين وحرياتهم ضد تغول هذه السلطات وتعسفها.

أما العمل المباشر لتيسير فهم الشريعة وتطبيقها فهو ليس دور المجامع الفقهية وأعضاء المجالس التشريعية وحدهما، بل هو دور كل فرد وجماعة ومؤسسة في العالم الإسلامي، كل فيما يخصه وبقدر نفوذه واستطاعته، وينبغي العمل على تنشيط الحركة الإعلامية واستثمار التقدم التقني في نشر الثقافة الشرعية وبيان مقاصد الشرع الكلية والجزئية، حتى تعود الشريعة للمرجعية والسيادة مع الوقت ودون ضوضاء تحدثه دومًا المتاجرة السياسية بالدين، التي حان وقت وقفها لصالح الاستهداء به في العمل على انتشال الأمة من أزمتها الحضارية الممتدة والمتمددة!