أوضحت الدكتورة سامية سلام، أستاذة الفلسفة بجامعة بني سويف، أن القياس المرسل، أو المصلحة المرسَلة، من أهم الأدلة الشرعية التي يلاذ بها لبيان حكم الشرع في الوقائع والمستجدات، وأن ابن رشد أكد أهمية القياس المرسل في النظـر للنوازل الفقهية، وكل المسـائل الفقهيـة المسكوت عنها.

وبيّنت أستاذة الفلسفة، في بحثها “القياس المرسل عند ابن رشد”، أن المصلحة هي أساس التدبير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحيثما وُجدت فثمّ شرع الله، وأن ابن رشد بحث عن التقدم والإصلاح في الحكم والسياسة، وفي الفكر الديني والعلم والفلسفة والأخلاق، ووقفت فلسفته ضد الفساد والاستبداد؛ مما أثبت دور الفيلسوف والمفكر في تعديل وبناء وإصلاح المدينة والمجتمع.

وأشارت الدكتورة سامية سلام إلى أن الارتكان إلى المصالح المرسلة الشرعية ليس جديدًا؛ فقد عُرف منذ عصر النبي وكذلك الصحابة.. وأن كل ما يحقق مصلحة غالبة مطلـوب، وكل ما يحقق مفسدة فهو منهيّ عنه. ومع كثرة الحوادث والمستجدات في حياة الناس؛ أصبح من الضرورة بمكـان أن نبحث في المصلحة المرسلة والسياسة الشرعية؛ لنضع الحلول في كل ما يستجد، ونُبرز بشكل واضح أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.

وذكرت أن الفاحص لفكر ابن رشد بصورة عامة يجد أن مسألة التعليل والبحث عن الغاية، تحتل مساحة كبيرة في فكره؛ إذ هو يعتبر أن كل من أراد السعي في مجال من المجالات فعليه أن يبحث عن الغاية والعلة، وإلا ضاع جهده، ولم يعرف إلى ماذا ينتهي سعيه.. لافتةً إلى وجود تشابه بين آراء ابن رشد الشرعية والفقهية من جهة، وميوله الفلسفية من جهة أخرى.

وبيّنت سامية سلام أن القياس المرسل من أهم مصادر التشريع، وذلك لمسايرته مستجدات الحياة، التي تتغير بتغير واقع الناس وأحوالهم، كما أن الشريعة الإسلامية تكسب به مرونة في كل زمان ومكان.. موضحةً أن الشريعة الإسلامية تتسم بالشمول، وتعتـني بالمصالح، وأن تطبيقـات المصلحة المرسلة في حياتنا المعاصرة، كثيرة؛ مثل ما يختص بنظم الحكم، والنظم الديمقراطية والسياسية المعاصرة؛ فمجال الحكم والسياسة من أكبر المجالات التي تطبق فيه المصلحة المرسلة، وذلك لندرة النصوص الشرعية التي تنظم هذا المجال، ولكثرة المسـتجدات والوقائع والنوازل فيه.

أهمية الاستدلال بالقياس المرسل

وذكر بحث “القياس المرسل عند ابن رشد” أن القياس المرسل أو المصالح المرسلة، یعبِّر عنه الأصوليون بالاستدلال أو الاستصلاح؛ وهو ما لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه.

وأشار إلى أننا عندما نعلم أنَّ النصوص متناهيات، والنوازل متتابعات غير متناهيات؛ ندرك لماذا جعل الشرع الاجتهاد سبيلاً لحفظ الضروريات، ورفع المشقات عن العباد. ولأن نصوص الدين كثيرة المعاني والمقاصد، فهي تقبل التأويل والاجتهاد في التفسير، لكن وفق شروط وضوابط محددة.

وتكمن أهمية الاستدلال بالقياس المرسل، كما رصد البحث، في محاولة جعْل الشريعة الإسلامية متوافقة ومسايرة لوقائع العصر، بإيجاد الأحكام الشرعية المناسبة لجل النوازل وفق كليات الشريعة ومقاصدها. وتقتضي مرونة الشريعة أن يراعى الشارع تغير الأحوال والظروف تبعًا للتطور الذي يحدث في المجتمع. وسيكون هذا باستعمال القياس على الأحكام المنصوص عليها فى الكتاب والسنة؛ سواء كان القياس على النص مباشرًا، أو بطريق الملائمة، وهي الدخول تحت جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل، أو ما يعرف بـ”المصالح المرسلة”.

وأوضحت الدكتورة سامية سلام أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ والتمهل حتى تتحقق صحتها، ولا تعارض مصلحةً أرجح منها أو مساوية لها، ولا تتنقل بنا إلى مفسدة.. وأن والقياس المرسل بهذا المعني يستند إلى ما هو أعم، إلى المصلحة الشرعية العامة التي روعيت وثبتت في نصوص عامة وخاصة غير منحصرة؛ فهو قياس إجمالي وفقه مصالح عامة واسعة في مقابل القياس الجزئي.

وأضافت: من ضوابط المصالح المرسلة أن تكون المصلحة معقولة في ذاتها، جارية على الأوصاف المناسبة بحيث لو عرضت على العقول السليمة تلقّتها بالقبول، وأن يتحقّق من بناء الحكم عليها جلب نفع، أو دفع ضرر لمصلحة عامة ليست خاصة بفرد أو طائفة معينة.. ولا تكون المصالح معتبرة، إلا إذا كانت منضبطة بضوابط الشرع؛ لأن المصلحة المرسلة لا تعتبر دليلًا مستقلًّا، كالكتاب والسنة والإجماع والقياس. لكنها معنى كلي، يرتبط بأدلة تفصيلية، فلا يقع المجتهد في باطل، إذا تم ضبط المصالح ببعض الضوابط ومنها: أن لا تدخل في مجال العبادات، فهي تنحصر في مجال المعاملات.

مفهوم القياس المرسل عند ابن رشد

وأشارت الدكتورة سامية سلام إلى أن القياس المقاصدي عند ابن رشد يقع على مستويين: مستوى خاص، ومستوى عام؛ الأول هو القياس على مسائل محددة، والثاني هو القياس علي أصول كثيرة، وهو ما يسميه ابن رشد بالقياس المرسل؛ حيث لا يستند إلى أصل واحد ومثال معين من الشرع يقاس عليه ويهتدي به؛ وإنما هو القياس والاهتداء بالتوجهات العامة والمقاصد العامة للشريعة؛ لتقرير ما يحققها ويخدمها من الأحكام الاجتهادية.

ولفتت إلى أن “المصلحة المرسلة” يطلق عليها بعض المسميات؛ منها: قياس المصلحة، النظر المصلحي، القياس المرسل، الاستصلاح.. لكن ابن رشد يفضل استخدام مصطلح “القياس المرسل”.

وتابعت: في استدلال ابن رشد على حجيَّة القياس، رأي أن الوقائع والنوازل غير متناهية، بل متجددة ومتغيرة، وغير منحصرة، وتختلف باختلاف الزمان والمكان.. أما النصوص والأفعال والإقرارات، باعتبارها مصادر للأحكام الشرعية، فهي متناهية؛ ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى، وهذا يعني أن القول بحجُّيَّة القياس والقول بالقياس المرسل بصفة خاصة؛ ضروري في الشريعة.

وأشارت إلى أن هذا القياس، عند ابن رشد، هو في حق بعض الناس واجب، وفي حق بعضهم مندوب إليه، وفي حق بعضهم مباح.. وأن ابن رشد حصر الأخذ بدليل القياس المرسل في العلماء الراسخين في علوم الشريعة العالمين بحكمها ومقاصدها، ودعا إلى تفـويض أمثـال هـذه المصـالح إلى العلمـاء بحكمـة الشرائع.

بين النظر الفلسفي والفكر المقاصدي الرُّشدي

وأوضحت الدكتورة سامية سلام في بحثها “القياس المرسل عند ابن رشد”، أن المتتبع لفكر ابن رشد، يجد أن الفلسفة متمكنة من صياغة نظرته المقاصدية؛ إذ لا تخلو كتاباته التي تكلم فيــها في هذا الأمر من مـصطلحات فـلسفية؛ فآراء ابن رشد المقاصدية تتنازعها مؤثران؛ مؤثر فلسفي، وهو أن المقصد العام للشريعة: فضائل السعادة، أي تلك الأخلاق الفاضلة التي تجلب السعادة، وهو الغالب في تعريفه لها.. ومؤثر شرعي، وهو الذي يرده إلى دائرة الشريعة، ويجعله يتكلم بلغة المصلحة الشرعية، ويصرح أن الشريعة مبنية على رعايتها.

وأضافت: إذا تأملنا الشرائع، في رأي ابن رشد، نجدها تنقسم إلى معرفة مجردة، مثل ما تأمر به شريعتنا لمعرفة الله تعالى.. ومعرفة عملية، مثل ما تحض عليه من الأخلاق، وقصدها من هذا هو عين ما تقصده الفلسفة. ومقصود الشرع في تصور ابن رشد هو تعليم العلم الحق والعمل الحق، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء. فمقصود الشريعة عند ابن رشد إفادة السعادة الإنسانية؛ فاللّٰه تعالى قد فطر عباده على معرفة معظم المصالح الدنيوية؛ ليحصلوها، وعلى معرفة معظم المفاسد الدنيوية؛ ليتركوها، فهذا ما حثت عليه الشرائع.

وبيّنت سامية سلام أن مسألة التعليل والبحث عن الغاية والمقصد، تحتل مساحة كبيرة في فكر ابن رشد؛ فهو يعتبر أن كل من أراد السعي في مجال من المجالات فعليه أن يحدد المقصد؛ أما من لا يعرف الغاية التي ينشدها فهو بالضرورة لا يقدر أن يعرف ما سينتهي إليه سعيه، وبالتالي يضيع جهده. ومن لا علم عنده بحكمة الشريعة فليس مفوضًا، ولا يجوز له أن يتكلم في هذه المسألة، ولا أن يفتي في غيرها من مسائل العلم.

وتابعت: هكذا اختلط النظر الفلسفي بالفكر المقاصدي عند ابن رشد؛ فقد رفعت الشريعة من شأن العقل، وجعلته جهة الخطاب، ومناط التكليف، وجعلت المحافظة عليه من حيث الوجود والعدم من المقاصد الخمسة الكبرى، ودعت إلى التدبر والنظر من خلاله في آيات الله الكونية والشرعية. والفاحص لفكر ابن رشد ومؤلفاته يجده حريصًا على إعطاء العقل مكانة عالية، مقررًا كثيرًا من المبادئ والمفاهيم التي تهدم التعارض الظاهري بينه وبين الشرع، عاملاً على تقرير مبدأ العِلّية في دراسة الظـواهر الطبـيعية والمســائل الشــرعية والعقلية، وهو في هذا كله متأثر إلى حد بعيد بالفلسفة الأرسطية.

وأشارت إلى أن هذه النظرة الفلسفية كان لها أثر قوي في الفكر المقاصدي لابن رشد؛ إذ شكّل العقل عنده مسلكًا للكشف على المقاصد؛ فأهم صفة تتميز بها مؤلفات ابن رشد صفة التأمل والنظر؛ وإذا غاص الباحث في فكره الفـلسفي والفقهي يجـده حريصًا على معـرفة الأسبـاب والعلل؛ وسبب هذا أنه يرى أن معرفة الحقيقة لا تكون إلا بمعرفة الأسباب والعلل والغايات، فقد قال ابن رشد: إنما نعرف الشيء المعرفة الحقيقية، إذا عرفناه بعلته.

بين القياس الشرعي والقياس المرسل عند ابن رشد

وذكر البحث أن ابن رشد عرّف القياس بأنه: حمل شيئين أحدهما على الآخر في إثبات حكم أو نفيه، إذا كان الإثبات أو النفي في أحدهما أظهر منه في الآخر، وذلك لأمر جامع بينهما من علة أو صفة.. وأن الشيء الذي وجود الحكم فيه أظهر يسمونه “الأصل”، والشيء الذي يوجب له الحكم من أجل وجوده في الأصل يسمونه “الفرع”، والصفة الجامعة بينهما أو السـبب يسمونه “العلة”. وعرّف ابن رشد “القياس الشرعي” بأنه إلحاق الحكم الواجب لشـيء مـا بالشـرع بالشـيء المسكوت عنه؛ لشبهه بالشيء الــــــذي أوجب الشرع له ذلك الحكم، أو لعلـة جامعـة بينهما. ومن الضروري، عند ابن رشد، الاعتماد على القياس؛ حتى يستطيع المجتهد مواكبـة المستجدات والنوازل، فدليل العقل يشهد ثبوته.

وأشارت الدكتورة سامية سلام أن ابن رشد فرّق بين القياس العقلي اليقيني، أو قياس الفلاسفة، وبين قياس الفقهاء الظني؛ فأقر شرعية الفلسفة وطريق العقل، واعتماد القياس العقلي، ثم أقر أيضًا ما يمكن أن نعبر عنه بعصمة هذا النظر. وحينما يتحدث ابن رشد عن الفلسفة والبرهان إنما يقصد حصرًا فلسفة أرسطو ومنطقه، فيقرر صحة منهج معين من الفلسفة، ولا يتفق مع كل مناهج الفلسفة.

وتابعت: إذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس، أو بالقياس؛ فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وهنا نجد ابن رشد يعتبر القياس العقلي الوسيلة الأساسية للتأويل، التي دعا إليها الشرع؛ فالاعتبار عند ابن رشد، والذي ورد في النص الديني في سورة الحشر، يعني القياس الذي يقوم على استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه.

وهذا هو المعنى الذي تعطيه كتب المنطق للقياس، فالاعتبار في الشرع هو القياس في الفلسفة، ومنزلة الاعتبار من الشرع كالقياس من الفلسفة، وبهذا يؤكد ابن رشد أن الشرع دعانا إلى النظر في الموجودات من خلال استعمال القياس المنطقي والقياس العقلي البرهاني على الخصوص.. ومفهوم الاعتبار عند ابن رشد هو البرهان الارسطي على وجه التحديد.

القياس المرسل والسياسة الشرعية

يوضح البحث، أن السياسة الشرعية هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، سواء ورد بها نص أم لم يرد. وتعد السياسة الشرعية خروجًا من الجمود وتوسعة على ولاة الأمور في تحقيق أمن مجتمعاتهم. فالشريعة الإسلامية تحاول تحقيق متطلبات السياسة العادلة، فلا تضيق عن حاجة، ولا تقصر عن إدراك مصلحة.

وتضم السياسة الشرعية الأحكام التي لا تبقى على وجه واحد، بل تتغير بتغير الزمان والمصالح المشروعة، وجميع مجالات وأنشطة الدولة، كشؤون الحكم، والإدارة، والاقتصاد، والقضاء، والسلم، وإعلان الحروب، وفرض الضرائب، وإبرام المعاهدات، وغيرها، مما تقرره الدولة من قوانين وأحكام، ونظم وإجراءات، وقرارات وترتيبات، وما تدشنه من مؤسسات، وغير ذلك من رعاية المصالح العامة، وبهذا المفهوم أخذ جلّ العلماء المعاصرين.

وتشير الدكتورة سامية سلام إلى أن المصلحة أساس التدبير السياسي، وحيثما وُجدت المصلحة فثم شرع الله، وغاية السياسة الشرعية الوصول إلى تدبير شئون الدولة الإسلامية، ورعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان، ومسايرة التطورات الاجتماعية في كل حالٍ وزمان على وجه يتفق مع المبادئ الإسلامية العامة، وبهذا لا يمكننا أن نستغني عن السياسة الشرعية، فهي أحد الجوانب المتطورة في حياة الأمة الإسلامية، وهي التي تبين بوضوح، وتؤكد بالدليل أن الشريعة الإسلامية صالحة لمسايرة التطور والتطبيق في كل زمانٍ ومكان.

وتضيف: تمثل المصلحة المرسلة الطريق العملي المحدد لتحقيق الأصل الكلي، فالطريقة التي وُلِّيَ بها أبو بكر رضي الله عنه، على سبيل المثال، لم يدل عليها دليل معين، لكنه تصرُّفٌ من شأنه أن يحقق مصلحة للأمة الإسلامية، وهي حفظ النظام السياسي الإسلامي الذي دلت عليه أدلة كثيرة، كما كانت طريقة تولية أبي بكر لعمر بن الخطاب أيضًا ضمن المصالح المرسلة.

فالسياسة الشرعية هي المجال الذي يضفي الطابع العملي أو التطبيقي على المفهوم الأصولي للمصلحة إضافة إلى كون المصلحة أداة استدلالية في بناء الحكم الفقهي، وهي مكون رئيس من مكونات السياسة الشرعية.

التأسيس الفلسفي للفكر الرُّشدي

ومن الطبيعي، كما تقول الدكتورة سامية سلام، أن ينشغل الفيلسوف بالنظر السياسي؛ لأنه يعيش في مجتمع يتفاعل معه ويبغي إصلاحه؛ فالفيلسوف يدرك أن الإنسان لا تتقوم إنسانيته إلا من خلال الدولة، ولا يتحقق كماله وسعادته إلا إذا توفرت مدينة فاضلة يعيش فيها، ومن ثم تقع عليه مسؤولية كبيرة، ودور رئيس في جميع المجتمعات للبحث عن أفضل النظم، إلى جانب دوره النقدي للأنظمة والحكومات. ولا جدال في أن الفكر السياسي جزء هام وأصيل من فلسفة ابن رشد العامة، وهي الفلسفة المتأثرة بالمذاهب الفلسفية اليونانية القديمة، وبالعديد من المؤثرات الفكرية والاجتماعية الأخرى التي عاشها.

وتُتابع: تكمن أصالة فكر ابن رشد السياسي في إخضاعهِ السياسةَ للبرهانِ وللفحصِ النقدي؛ لكشف مواطن الخلل التي يراها في الممارسات السياسية التي عاشها في الأندلس، وفي دفاعه عن فكرة المساواة، وبخاصة مساواة المرأة مع الرجل.

وتبيِّن أن فليسوف قرطبة قد روّج للسلطة العقلية، ورأى فيها السلطة الحقيقية لتوصيف الأنظمة، ومواجهة تجاوزات الحكام، وأكد أن التفكير في المجتمعات السياسية لا يكون ألا عقليًّا وفلسفيًّا، وذلك بفضل إمكانية الفيلسوف العقلية لفهم أصول ومبادئ النظام السياسي للدولة. واتساقًا مع ذلك، اهتم ابن رشد بالسياسة والأمور العامة للمسلمين، وفق نظام معين، وهو ما يقوم به الإمام، أو الحاكم. ومثل ابن رشد الوجه المشرق للفيلسوف الذي يفكر سياسيًّا وفلسفيًّا في مجتمعه وحاضره، وينتقد الطبقة الحاكمة، رغم أنه كان يعيش في كنفها. واهتم بالمشكلات التي تعصف بالمجتمع الأندلسي مقاومًا ذلك بالعقل، وكانت انتقاداته شهادة على ما انحط إليه المجتمع الأندلسي في عصره من جور وتسلط.

وبهذا، كما يخلص البحث، تمكّن ابن رشد- إلى حد غير قليل- من وضع نظرية سياسية خاصة، من خلال اختصاره لجمهورية أفلاطون التي أخرجها في صورة جديدة، ونقلها من الجدل إلى البرهان، وفسَّرَ السياسة بخطاب فلسفي برهاني.

وبناءً على ذلك، ناقش ابن رشد الإشكاليات والقضايا السياسة بشكل عقلاني، ومنها: القضايا المختصة بحقوق المرأة، ونقد الاستبداد، ودعوته إلى النظر في الشأن العام من موقع التفكر والرويَّة، وتصديه لتدخل رجال الدين في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية. واتخذ من تلخيص النص الأفلاطوني وسيلة للنقد والإصلاح، وقرأ الاجتماع البشري من منظور أخلاقي، وصنّف المدن تصنيفًا معياريًّا انطلاقًا من الإنسان ذاته، وفعله البشري، وسلط نقده على الوضع الذي يعاني منه المجتمع، وذلك لكي يضع أفكاره بشأن القضايا المثارة حول الشأن الاجتماعي والسياسي.

ثم ختم البحث باستعراض آراء ابن رشد في عدة قضايا حيوية، مثل: الحاكم في المدينة الفاضلة، حقوق المرأة والمشاركة السياسية، مهام المرأة في المجتمع، وحدانيَّة التسلُّط ضد المصالح المرسلة.. لينتهي البحث إلى أن ابن رشد قام بتطبيق “القياس المرسل”، لاسيما في الممارسات السياسية؛ فتعرَّض لإشكاليات تخص الحكم والحاكم، ونقَدَ بعض الممارسات السياسية في عصره، كما أوصى بالتوسع في دراسة القواعد الفقهية، وتأصيلها بالأدلة الشرعية.