مسيرة العقل العربي الإسلامي مسيرة ممتدة طولاً وعمقًا، انطلقتْ من رحاب القرآن الكريم؛ الذي أسَّس للنظر العقلي، وحضَّ على التفكر والتدبر والتعقل والتفقه.. ثم تشابكتْ هذه المسيرة مع التراث الإنساني وتفاعلت معه، وفي هذا الحوار مع الأكاديمية المصرية الدكتورة فاطمة إسماعيل، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس، نستجلي تلك المسيرة؛ منذ انطلاقتها من بين دفتي الكتاب العزيز، مرورًا بتفاعلها مع التراث اليوناني، ثم ما شهدته من سجال بين “التهافت” “وتهافته”، ونتوقف مع المشهد الفلسفي العربي المعاصر؛ فنتساءل عما يحتاجه، ثم نعرّج على بعض القضايا المعاصرة؛ مثل قضية التأويل وما تستدعيه من ضوابط.. فإلى الحوار..
نريد أن نبدأ الحوار بتعريف القراء بمسيرتكم الفلسفية.
بدأت مسيرتي الفلسفية بالتحاقي بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس، وتخرجت فيها، عام 1980، وقتها كان لدي ولدان، ثم سافرت مع زوجي لمدة عامين وعدت والتحقت بتمهيدي الماجستير بكلية البنات جامعة عين شمس، واستمرت المسيرة بحصولي على الماجستير ثم الدكتوراة ، فأستاذًا مساعدًا ثم أستاذًا. لكن من المعروف أن خير شاهد على أي مسيرة علمية لصاحبها هي مؤلفاته التي انفصلت عنه وأصبحت في يد القارئ. لذلك خير شاهد على مسيرتي العلمية هي مؤلفاتي وترجماتي وبحوثي التي نشرتها. ومسيرتي العلمية مرَّت بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: كان اهتمامي فيها منصبًا على الفكر العربي الإسلامي، بدأت بما رأيته يمثل التأسيس الأول، والأصل الأول الذي استند عليه الفكر الإسلامي على اختلاف وتنوع تخصصاته ومجالاته، الأصل الذي يُمثل المرجعية لكافة علوم التفسير، والفقه وأصوله، وعلم الكلام، والفلسفة الإسلامية، والتصوف وغيرها من علوم. فكانت أطروحتي للماجستير بعنوان: (القرآن والنظر العقلي). وما أسعدني أنني حظيت بتقريظ الشيخ محمد الغزالي، رحمة الله عليه، عند نشرها. ثم أعقبه كتاب (منهج البحث عند الكندي) وكان أطروحتي للدكتوراة ، وأردت من خلاله أن أستكمل المسيرة مع أول فيلسوف عربي مسلم شقّ طريق الفكر العلمي والفلسفي لمن جاء بعده من الفلاسفة المسلمين، وصولاً إلى ابن رشد الذي تناولته في كتاب لي بعنوان: (المنهج الفلسفي عند ابن رشد). وبالطبع لا يمكن الحديث عن ابن رشد بمعزل عن الحديث عن الغزالي؛ فتناولت: (التأويل بين الغزالي وابن رشد) في بحث مستقل. ثم قمت باستكمال هذا البحث، فيما بعد، بالحديث عن الهرمنيوطيقا في الفكر الغربي في كتاب مستقل، بعنوان: (مقالات في فلسفة التأويل). وفي جميع المؤلفات السابقة كان اهتمامي الأساسي بقضية المنهج التي رأيتها تمثل عصب التفكير في أي تخصص كائنًا ما كان مجاله. من هنا كان أيضًا كتابي: (التفكير النقدي عند العرب).
المرحلة الثانية: وفيها تركز اهتمامي في الفكر العربي الحديث والمعاصر، فتناولت ذلك في بحث لي بعنوان: (الحوار الحضاري في الإسلام)، وبحث آخر بعنوان: (دور الفكر الإسلامي في النهضة الحديثة- اتجاه واحد أم تعدد في الاتجاهات؟). وقد سبقهما كتاب: (التفكير الفلسفي عند زكي نجيب محمود- منهج وتطبيقه). تأكيدًا مني على رصد القضية التي شغلتني، وهي قضية المنهج، والتفكير المنهجي.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الترجمات من الإنجليزية إلى العربية، والتي انصبت أيضًا على مؤلفات تهتم بالمنهج الفلسفي، وبتاريخ العلم وفلسفته، وبتاريخ الميثودولوجيا، ومشكلات فلسفة العلم المعاصرة، وتمثلت في:
1- ترجمة كتاب روبين جورج كولنجوود: (مقال عن المنهج الفلسفي)، مع دراسة عنه، طبعة المركز القومي للترجمة، 2001. وهو متوفر على الإنترنت.
2- كتاب إسرائيل شفلر: (عوالم الصدق– نحو فلسفة للمعرفة)، مع دراسة بعنوان: التطور المعاصر لنظرية المعرفة عند شفلر، المركز القومي للترجمة، 2015.
3- كتاب لاري لودان، فيلسوف العلم الأمريكي المعاصر: (التقدم ومشكلاته- نحو نظرية عن النمو العلمي)، المركز القومي للترجمة 2016. ثم دراسة بعنوان: (مشكلة التقدم العلمي)، نُشرت في كتاب الجمهورية، مايو 2016.
4- كتاب لاري لودان: (العلم والفرضية- مقالات تاريخية في المنهجية العلمية)؛ وهو مكون من مقدمة و14 فصلاً جميعها تهتم بالقسم المهم من فلسفة العلم وهو “المنهجية العلمية”، ومعه دراسة بعنوان: (العلاقة بين العلم وتاريخه وفلسفته عند لاري لودان).
5- كتاب لاري لودان: “تجاوز الوضعية والنسبوية- النظرية والمنهج والدليل”. المركز القومي للترجمة، 2021. ومعه دراسة بعنوان: (الاتجاه النقدي عند لاري لودان).
وحاليًا أعمل على ترجمة كتاب له بعنوان: (الحقيقة والخطأ والقانون الجنائي- مقال في الإبستمولوجيا القانونية)، وهو قيد النشر.
كما تناولت موضوعات أخرى، في بحوث أخرى، مثل: “المواطنة متعددة الثقافات”، “الفلسفة للأطفال”، “الكونية وخصوصية الثقافة”، “التعليم عن بُعد في زمن الكورونا”.. وغيرها من موضوعات فرضها العصر.
من أبرز من تأثرتِ بهم في هذه الرحلة الفلسفية؟
الحقيقة كل أساتذتي الذين تتلمذت على أيديهم، في مراحل الدراسة الجامعية الأولى في آداب عين شمس، كان لهم فضل كبير عليّ، ولا أستطيع أن أنكر فضلهم جميعًا. غير أن أكثر من تأثرت به من أساتذتي، وما زلت أتذكره حتى الآن، واعتبره نموذج الأستاذ كما ينبغي أن يكون، هو أستاذي الفاضل، رحمة الله عليه، الأستاذ الدكتور عزمي إسلام، خير من درَّس لنا المنطق ومناهج البحث وفلسفة العلوم. كما لا أنسى في مرحلة التمهيدي الماجستير، فضل الأستاذة الدكتورة فوقية حسين، رحمة الله عليها، ولا أنسى الفضل الأكبر للأستاذة الدكتورة سهير فضل الله، التي أشرفت على رسالتي الماجستير والدكتوراه، وبفضلها تعينت في قسم الفلسفة، كلية البنات مع مجموعة من زميلاتي.
خطاب القرآن موجِّه للعقل
هذا عن المسيرة العلمية .. وإذا جئنا للقضايا الفكرية؛ فلنبدأ بالتعرف على كيفية تأسيس القرآن الكريم للنظر العقلي.
القرآن الكريم معجزة إلهية تتناسب مع الرسالة العالمية الشاملة، الخاتمة الموجهة للناس جميعًا، وهي مختلفة عن المعجزات المادية للرسل والأنبياء السابقين التي انتهت بانتهاء عصرهم. لقد جاء خطاب القرآن الكريم موجهًا للعقل؛ فهو كتاب منزل مقروء محفوظ بالعناية الإلهية يخاطب عقول الناس جميعًا، هو قائم باق ثابت، لا يُدرك خرقه للعادة أو إعجازه، بالحس.. بل بالنظر العقلي. فلا يوجد كتاب آخر، يماثل القرآن الكريم، في احتفائه بالعقل، وتأكيده على ضرورة استعمال العقل، بكل المفردات والمفاهيم التي نقرؤها، أو نعرفها عن العقل لدى المفكرين أو الفلاسفة، في أي عصر ومصر.
لقد جعل القرآن الكريم العقل مناط التكليف، ودعا إلى وجوب النظر العقلي في مئات الآيات التي تدعو إلى وظائف العقل، ومن ثم تدعو إلى الفعل والعمل والتطبيق والتفاعل والفاعلية… آيات تدعو إلى: النظر، والتدبر والتفكر، والتبصر، والاعتبار، والتفقه، والتذكر… آيات تخاطب أصحاب العقول الرشيدة، أولي الألباب، وتذم هؤلاء الذين لا يعقلون ولا يتفكرون، وتذم التقليد واتباع الهوى، وتدعو إلى اجتناب الظن المذموم، الذي لا يقوم على دليل ولا برهان.
فليس في القرآن آية من آياته تخلو من إشارة دالة أو لمحة موحيّة للعقل الإنساني تدله وترشده إلى العلم والمعرفة؛ إلى الحدّ الذي جعل كثيرًا من العلماء يعتبر النظر العقلي وأدلته وجهًا من وجوه إعجازه. والعلم في كل يوم يثبت لنا ذلك من خلال الأدلة على وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
وإلى أي مدى نجح الفكر الإسلامي لاحقًا في البناء على هذا التأسيس؟
بالتأكيد انطلق الفكر الإسلامي من دعوة القرآن الكريم الملزمة لكل فرد بوجوب النظر العقلي، بوصفها فرض عين على كل مسلم ومسلمة، انطلاقًا من أول كلمة نزل بها الوحي، كلمة “اقرأ” بصيغة الأمر. وفعل الأمر يؤكد وجوب القراءة واستخدام العقل، وجوبًا مستمرًا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. لقد أدرك مفكرو الإسلام الأوائل، مدى اهتمام القرآن الكريم بالعلم والعلماء.. هذا الاهتمام الذي تجلَّى في مادة العلم ومشتقاتها، التي ذُكرت في القرآن الكريم أكثر من تسعمائة مرة، وكانت أُولى آيات الله نزولاً هي دعوة إلى العلم في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1- 5).
لقد ظهرت البواكير الأولى للحركة الفكرية الإسلامية، منذ عصر نزول القرآن الكريم؛ حيث كان يتنزّل على رسول الله ﷺ منجَّمًا، ويتلقفه المسلمون يقرأونه، ويتدبرونه، ويتأملونه، ويعملون به.. ومن هذا التدبر والتفكر في أعماق النص القرآني، وتطبيق أحكامه ومعانيه؛ بدأ الفكر الإسلامي عامة.
فالفكر الإسلامي انطلق من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، التي هي تفسير للقرآن؛ فأصبحت الحياة الفكرية الإسلامية كلها ليست سوى التفسير القرآني لتلك الدعوة لوجوب إعمال العقل والنظر العقلي؛ فمن النظر في قوانين القرآن العملية نشأ “الفقه”، ومن النظر فيه ككتاب يضع الميتافيزيقا نشأ “علم الكلام”، ومن النظر فيه ككتاب أخروي نشأ “الزهد والتصوف والأخلاق”، ومن النظر فيه ككتاب للحُكم نشأ “علم السياسة”، ومن النظر فيه كلغة إلهية نشأت “علوم اللغة”… إلخ؛ كما بين ذلك د. على سامي النشار في كتابه (نشأة الفكر الإسلامي).
لقد أسس المفكرون والفقهاء والفلاسفة علومهم على دعوة القرآن الكريم للنظر العقلي؛ وابن رشد، على سبيل المثال، أثبت أن وجوب دراسة الفلسفة وعلوم المنطق يلزم بالضرورة عن وجوب النظر العقلي الذى يدعو إليه القرآن الكريم. فكانت نقطة البداية عند ابن رشد هي التحصن بالآيات القرآنية، واتخاذها شاهدًا على تبرير دعوته لمشروعية الفلسفة. فاستخدم ابن رشد مسلمات الفقهاء لينتج منها ما يريد إنتاجه طبقًا لما يقصده من دفاع عن مشروعية الفلسفة وعلوم المنطق، على جهة النظر الشرعي. لذلك ينطلق من معنى “الاعتبار” كما ورد في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 2)؛ ليؤكد أنه نصّ على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معًا.
وهذا الحكم بوجوب النظر العقلي، منصوص عليه في الشرع ولا يحتاج إلى اجتهاد لبيان وجوده ووجوبه؛ إنما الذى يحتاج إلى اجتهاد هو كيفية النظر العقلي. ولَمَّا كان أرسطو قد كفانا هذا الاجتهاد؛ فينبغي علينا أن نضرب بأيدينا إلى كتبه ونتعلمها على الترتيب، وذلك قياسًا على ما يقوم به العالم في أصول الفقه. وهنا يلجأ ابن رشد إلى “التمثيل” بين عمل الفيلسوف وعمل الفقيه؛ فكما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام وجوبَ معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها… يجب على العارف (=الفيلسوف) أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوبَ معرفة القياس العقلي وأنواعه.
ويستمر ابن رشد في المقارنة بين صناعة الفقه وصناعة الفلسفة؛ من حيث الشروط الواجب توافرها في الصناعة، والشروط المنهجية التي يمارسها العالِم في كلِّ صناعة منهما، ومن حيث المنفعة الحاصلة… إلخ، بما لا مجال لذكره بتوسع.
لا يوجد إيجاب محض
هل كان لدخول الفلسفة اليونانية ساحة الفكر الإسلامي، أثر إيجابي أم سلبي بخصوص الاقتراب من تأسيس القرآن للنظر العقلي؟
انطلاقًا من دعوة القرآن للنظر العقلي، كان لابد للفكر العربي الإسلامي أن يتعرف على علوم الآخرين في كل بقاع الأرض، وخاصة هؤلاء الذين دخلوا في نسيج الإسلام من الحضارات الأخرى وأصبحوا مسلمين.
وبالطبع، لابد أن نعترف بأنه- على مستوى الفكر عمومًا- لا يوجد إيجاب محض ولا يوجد سلب محض، أيضًا لا يوجد قبول محض ولا يوجد رفض محض لأي شكل من أشكال الفكر الإنساني، أو أي علم أو أي معرفة في الوجود؛ فالحياة فيها من الخير والشر، والصواب والخطأ، والصحيح والفاسد ما يُقّر به كل إنسان كائنًا ما كان جنسه أو لونه أو معتقداته. ويمكن لمن يريد أن يشارك في مسيرة العلم والمعرفة أن يستّل من هذا الفكر أو ذاك، العناصر الإيجابية الفعّالة الدافعة للتقدم ولنمو المعرفة، ويترك العناصر السلبية؛ تحقيقًا للإيجابية والموضوعية، ثم يبني على ما يأخذه بناءً جديدًا يختلف عن القديم.
وهذا ما فعله أسلافنا حين تعاملوا مع الفلسفة اليونانية، فقبلوا العناصر الإيجابية الفعّالة فيها، ووظفوها في إطار ثقافتهم الدينية. من هنا، برزت مسألة التوفيق بين الحكمة والشريعة، أو العقل والنقل، وظهرت العديد من المؤلفات؛ مثل (فصل المقال فيما ين الحكمة والشريعة من الاتصال) لابن رشد. أو التي تقول بـ(درء تعارض العقل والنقل)، أو (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) لابن تيمية. كما جلبوا علوم الآخرين من كل بقاع الأرض وزرعوها في تربتنا الخاصة، فأثمرت العلم العربي والفلسفة العربية الإسلامية التي نشأت في ظل الحضارة العربية الإسلامية؛ تلك العلوم العربية التي تسلمت أوروبا شعلتها، في عصورها المظلمة، فأضاءت لهم عصور الظلام، وبفضلها نشأت العلوم الحديثة في الغرب.
لذلك نجد الكندي يؤكد معنى الانفتاح ومشاركة الآخرين في علومهم، ومعنى الانتقاء من هذه العلوم والمعارف، فيتحدث عن اليونان ويشكرهم لأنهم “أشركونا في ثمار فكرهم، وسهّلوا لنا المطالبَ الحقِيَّة الخفية”. ويعترف بأنهم “أكبر أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجدية، فإنهم، وإن قصَّروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنسابًا وشركاء فيما أفادونا”. وهذا معنى رائع يؤكد أن في العلم نسبًا، وأن بين العلماء نسبًا حتى لو اختلفوا عنّا في الملة، أو قصَّروا فيما وصلوا إليه من معرفة.
ويعبّر ابن رشد عن هذا المعنى، الذي يؤكد وجوب الاستفادة من السابقين الذين سبقونا بعلمهم، بشرط أن نضع علومهم هذه في الميزان؛ ميزان الحق والحقيقة وشروط البرهان، حتى نقبل ما قدموه، فيقول: “يجب علينا إنْ ألفينا لمن تقدم من الأمم السالفة نظرًا في الموجودات، واعتبارًا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم؛ فما كان منها موافقًا للحق قَبِلناه منهم، وسُررنا به، وشكرناهم عليه؛ وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه، وحذَّرنا منه وعذرناهم”. إنه نص يشهد كالوثيقة ليؤكد أن عملية دخول أفكار الآخرين من الأمم السالفة عملية منهجية ذات معايير وقوانين، ولا تتم بشكل عشوائي أو اعتباطي.
ويلتقى ابن رشد مع الغزالي في الدعوة إلى تعلم المنطق الأرسطي، باعتباره يتنزل “من النظر منزلة الآلات من العمل”. أي أنه مقدمة ضرورية، مِن الواجب تعلمها قبل النظر في العلوم؛ أي قبل النظر في الموجودات أو معرفة الله تعالى.
بالنقد ينمو الفكر ويزدهر
وكيف ترون المعركة التي حدثت بعد ذلك بين الغزالي وابن رشد.. في (التهافت) و(تهافت التهافت)؟
الحقيقة أنا لا أرى أنها معركة على الإطلاق، بل هي عملية نقدية علمية من الطراز الأول؛ هي نقد ونقد للنقد، وبالنقد ينمو الفكر ويزدهر. لقد قام الغزالي بنقد الفلاسفة في أمور معينة تتعلق بالغيبيات أو السمعيات، التي ليس للعقل فيها مجال. الغزالي لم يرفض الفلسفة بما هي فلسفة، ولم يقل “تهافت الفلسفة”. كيف وهو يمارس الفعل الفلسفي؟!! فهو قبل أن يكتب (تهافت الفلاسفة)، وضع قبله كتابًا وهو (مقاصد الفلاسفة). وهو، لعمري، إنصافٌ للرأي قبل نقده. وفي (التهافت)، قال بتهافت بعض آراء الفلاسفة، وتحديدًا الفارابي وابن سينا.
والحقيقة أن الغزالي لم ينتقد الفلاسفة فحسب، بل انتقد المتكلمين، والباطنية، والصوفية. والمقام لا يتسع لذكر الموضوعات التي كانت محل نقده، لكن نشير فحسب إلى نقده للفلاسفة ممثَّلين في الفارابي وابن سينا، في مسائل ثلاث محددة تعد من السمعيات؛ وهي:
1) مسألة قِدم العالم وقولهم: إن الجواهر كلها قديمة.
2) إنكارهم أن يحيط الله علمًا بالجزئيات الحادثة من الأشخاص.
3) إنكارهم بعث الأجساد وحشرها.
ويرى الغزالي أن موقف الفلاسفة- من المسائل الثلاث المشار إليها- يُعدّ قطعًا تكذيبًا للرسول ﷺ؛ لأن هذه المسائل من أصول العقيدة، والفلاسفة ليس لديهم دليل على إنكارها إلا أنهم لم يعقلوها، ولم يستطيعوا فهم كيفية حدوثها بالعقل. وليس لديهم برهان على استحالة ظاهر الآيات القرآنية التي تثبتها. وما لا يوجد دليل على استحالته، لا ينبغي إنكاره.
لقد خاطب الغزالي الفلاسفة بلغتهم مستخدمًا منطق تفكيرهم، ليثبت لهم أن ما شرطوه في المنطق “لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية”. فهو لم يعترض في الفلسفة على المنطقيات، لأنها “نظر في آلة الفكر في المعقولات”، بل دافع عن المنطق بحماس حين أكد أن من لم يتعلم المنطق لا ثقة في علومه. وكذلك دافع عن الرياضيات؛ لأنها لا تتعلق بالدين نفيًا أو إثباتًا. والغزالي اعتبر أدلةَ القرآن وجميعَ ما جاء به من أخبار، مثل حشر الأجساد، وتعلق علم الله بتفصيل كل ما يجري على الأشخاص؛ أمورًا تتجاوز حدًا لا يقبل التأويل، لأن ظواهر الشرع في نظره، منها: ما يُعلَم بدليل العقل دون الشرع.. وما يعلم بالشرع دون العقل.. وما يعلم بهما معًا.
والمسائل الثلاث عند الفلاسفة، تقع في نطاق ما يعلم بالشرع فقط دون العقل. واستحالة قيام البرهان العقلي عليها، لا يعني إنكارها. لقد كان الغزالي يدافع عن أصول العقيدة بالحجة والمنطق، فيقول للفلاسفة “أين من يدّعي أن براهين الإلهيات قاطعة كبراهين الهندسيات”. وما قاله الغزالي قال به كانط فيما بعد، من أنه لا يمكن استخدام المناهج الرياضية في الفلسفة الأولى أو في الإلهيات.
وابن رشد يرى أنه لا يمكن أن يتقرر إجماع في هذه المسائل، فضلا عن أن كثيرًا من السلف لم يفصحوا عن تأويلاتهم. ولهذا اعتبر ابن رشد أن خطأ العلماء في هذه المسائل العويصة مصفوح عنه في الشرع، لأنهم إن أصابوا فهم مأجورون، وإن أخطأوا معذورون؛ لذلك قال ﷺ: “إذا حكَم الحاكمُ فاجتَهَد ثمَّ أصاب، فله أجرانِ؛ وإذا حكَم فاجتَهَد ثمَّ أخطأ، فله أجرٌ” (البخاري ومسلم).
محاولة الغزالي بدايةُ عهدٍ جديد
هل تتفقون مع القول بأن الغزالي أسهم في القضاء على الفلسفة؟
لا أتفق مع هذا الرأي على الإطلاق؛ فهو رأي شاع عنه دون دراسة وتمحيص لآرائه!! لابد أن نتعامل مع موقف الغزالي فلسفيًّا، أي بالحجة والبرهان، وقراءة مؤلفاته، عبر مراحل تطور فكره، ومعرفة هدفه الذي أراد الدفاع عنه.
والحقيقة أننا نستطيع أن نقول إن الغزالي دافع عن الفلسفة بطريقته؛ فله يرجع الفضل- بعد الفارابي- في الدفاع عن المنطق وتوظيفه لخدمة الفكر العربي الإسلامي. ولقد كانت محاولة الغزالي بداية عهد جديد في علمي أصول العقيدة وأصول الفقه، وبخاصة أن الغزالي نهج نهجًا مميزًا حين ألبس الأقيسة المنطقية الأرسطية ثوبًا إسلاميًّا خالصًا في كتابه (القسطاس المستقيم)، وقدم المنطق في صورة موازين قرآنية، أنزلها الله في كتابه، وعلّم أنبياءه الوزن بها، فكان الله تعالى هو المعلم الأول، وجبريل عليه السلام علمها للأنبياء منهم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء وصولاً إلى محمد ﷺ. ومن الأنبياء والرسل تعلمها الناس جميعًا.
وهكذا ردّ الغزالي الأقيسة المنطقية جملة إلى الله سبحانه وتعالى الذى خلق الإنسان وعلمه البيان، ووضع له (الميزان). وكان من الضروري أن يلجأ الغزالي إلى إثبات أن المنطق الأرسطي ليس يونانيًّا- إلا من جهة الاسم فحسب- وذلك في بيئته المعادية للمنطق والفلسفة. وكان العلم السائد هو الفقه. لذلك يشير الغزالي في معرض دفاعه عن الفلسفة إلى أن “الخطب الجسيم والأمر العظيم” الواقع في زمانه “لا يستقل بأعيانه بضاعة الفقهاء”؛ بل لا يقدر عليه ولا يضطلع بأركانه إلا من تخصص في أمور الدين، وعرف مسالك الأوائل من الفلاسفة والحكماء.
وقد كان الغزالي جامعًا بين التخصص في الدين ومعرفته بطرق ومناهج الفلاسفة؛ فمزج بينهما معًا، في قسطاسه، مُصدرًا فتوى شرعية في (المنقذ من الضلال) تؤكد تمامًا أن “المنطقيات فلا يتعلق شيء منها بالدين نفيًا وإثباتًا، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. كما ذكر في مقدمة كتابه (المستصفى)، أن المنطق مقدمة ضرورية لكافة “العلوم كلها. ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بعلومه أصلاً”.
وكما يقول الجابري: و”الحق أنه إذا كان هناك من شخصية علمية يرجع إليها الفضل، بعد الفارابي، في توظيف المنطق في الحقل المعرفي البياني، فهي شخصية الغزالي؛ لقد نزل (حجة الإسلام) بكامل ثقله في الميدان، فسخّر سلطته كفقيه أصولي كبير، وكمتكلم حاضر الحجة، وكعالم مطلع على مختلف منازع الثقافة العربية الإسلامية في عصره.. سخّر ذلك كله للدعوة إلى اعتماد المنطق في العلوم البيانية، وبكيفية خاصة في علم الكلام”. واستخدمه سلاحًا لنقد تأويلات السابقين والمعاصرين له”.
ولهذا أقول: إن (تهافت الفلاسفة) و(تهافت التهافت)- فيما أرى- أعظم حوار فكري على مستوى الفلسفة العربية الإسلامية عبر عصورها القديمة والحديثة. وكتاب الغزالي يتعلق بقضية غاية في الأهمية، هي قضية “المنهج”؛ أي بمدى قدرة العقل وحدوده في مسائل الإلهيات، وهل يمكن للمنطق العقلي الذى اشترطه الفلاسفة في كتبهم المنطقية أن يصلح للوصول إلى الحقيقة في مجال الإلهيات؟ لقد صاغ الغزالي هذه المسألة في (تهافت الفلاسفة) حين احتج على الفلاسفة بقوله: “إن ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق، وما شرطوه في صورته في كتاب القياس، وما وضعوه من الأوضاع في (إيساغوجي) و(قاطيغوراس) التى هى من أجزاء المنطق ومقدماته؛ لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية”. لعمري، إن ازدهار الفكر لا يأتي إلا بالنقد ونقد النقد.
ابن رشد دافع عن الدين والفلسفة معًا
إذا كان صاحب (تهافت التهافت) انطلق من التوفيق بين “الحكمة” و”الشريعة”.. فلمَ يريد البعض أن يأخذ ابنَ رشد بعيدًا عن الدين، أو ضد الدين؟
لا يمكن أن نأخذ ابنَ رشد بعيدًا عن الدين، أو ضد الدين على الإطلاق؛ بل على العكس من ذلك تمامًا؛ إن من يقرأ ثلاثية ابن رشد: (فصل المقال)، و(مناهج الأدلة)، و(تهافت التهافت)؛ لا يمكن أن يقول بهذا الرأي أبدًا، بل يدافع ابن رشد عن الدين وعن الفلسفة في وقت واحد، ويجعل الشريعة “الأخت الرضيعة” للحكمة. ويقول بحدود العقل الإنساني في مسائل الإلهيات؛ فاعترف بقصور العقل الإنساني وعجزه عن بلوغ كثير من الحقائق المتعلقة بمسائل الإلهيات؛ فيؤيد رأيَ الغزالي في هذا الأمر. يقول ابن رشد: “قوله (=الغزالي) إن كل ما قصرت عن إدراكه العقول الإنسانية فواجب أن نرجع فيه إلى الشرع، حق؛ وذلك أن العلم المتلقى من قِبل الوحي إنما جاء متممًا لعلوم العقل، أعني: أن كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى للإنسان من قبل الوحي”.
ومما يؤكد قصور العقل عند ابن رشد أنه يؤكد عدمَ جواز التكلم والجدال في مبادئ الشرائع، بل “يجب على كل إنسان أن يُسلّم بمبادئ الشريعة، وأن يقلد فيها ولابد الواضع لها. فإنَّ جَحْدَها والمناظرة فيها مبطل لوجود الإنسان؛ ولذلك وجب قتل الزنادقة. فالذي يجب أن يُقال فيها: إن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية. فلابد أن يُعتَرف بها مع جهل أسبابها. ولذلك لا نجد أحدًا من القدماء تكلم في المعجزات مع انتشارها وظهورها في العالم؛ لأنها مبادئ تثبيت الشرائع. والشرائع مبادئ الفضائل. ولا فيما يقال فيها بعد الموت” (تهافت التهافت). مثل مسألة البعث- بعث الأجساد- وهى مسألة لم يخض فيها أرسطو ولم يتعرض لها القدماء من الفلاسفة اليونانيين على ما يذكر ابن رشد. لذلك يردّ المسألة برمتها إلى الشرائع وليس إلى الفلسفة، إلى الإيمان وليس إلى العقل؛ ليؤكد أهميةَ الإيمان ببعث الأجساد كضرورة في وجود الفضائل الخلقية للإنسان. كما يؤكد- مرة أخرى- ضرورةَ التسليم بمبادئ الشرائع ولا ينبغي التعرض لها بقول مثبت أو مبطل، و”الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت، وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود؛ كما اتفقت على معرفة وجوده وصفاته وأفعاله، وإن اختلفت فيما تقوله في ذات المبدأ وأفعاله… إلخ.
ويؤكد ابن رشد أن الحكمة موجودة في الأنبياء عليهم السلام؛ ولذلك “أصدق كل قضية هي: أن كل نبي حكيم، وليس كل حكيم نبيًّا”. وإذا كانت الصنائع البرهانية في مبادئها المصادرات والأصول الموضوعة، كما يقول ابن رشد؛ فمن الواجب والأولى أن يكون ذلك في الشرائع الدينية. ويرى ابن رشد أن كل شريعة دينية يخالطها العقل، ولو سلَّمنا بأن هناك شريعة بالعقل فقط “فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحى”. لذلك يعتبر ابن رشد مسألة المعاد الجسماني مسألة إيمانية بحتة يعود الأمر فيها إلى “الدلائل التي تضمنها الكتاب العزيز”. ويعترف ابن رشد اعترافًا صريحًا بعجز العقل الإنساني في الإلهيات؛ لذلك يقول: “لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولاً يُعتَد به. وليس يُعْصَم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء”.
ورغم أن القضية الأساسية للغزالي هي إثبات أن حقائق الأمور الإلهية، لا يتم الوصول إليها بالبراهين القطعية.. فقد دافع ابن رشد دفاعًا قتاليًّا عن العقل (الأرسطي)، لكنه أكدَّ قصور العقل في الإلهيات.
ما الذي يحتاجه المشهد الفلسفي العربي المعاصر، بالنظر لهذا التراكم والإرث التاريخي؟
الذي يحتاجه المشهد الفلسفي العربي المعاصر، بالنظر لهذا التراكم والإرث، هو احترام هذا الإرث التاريخي، ومعرفة كيف نتعامل معه. ومن جانبي أؤكد دائمًا أنه لا يوجد إيجاب محض، ولا يوجد سلب محض. وينبغي أن نعي أننا لا يمكن أن نستغني عن إرثنا التاريخي، الذي يمثل هويتنا ووجودنا وكرامتنا، بل ومستقبلنا؛ فالإنسان “كائن تاريخي” على حد قول “دلتاي”؛ الذي أكد استحالة الفكاك من التاريخ. فنحن نمتلك ما يشكل إرثنا التاريخي، الذي على أساسه ينبغي أن نفهم ماضينا فهمًا متناميًا على الدوام يرتبط بزمانية الفهم؛ فَهْم المعنى الذي يمتد في سياق أفق يمتد في الماضي ويشمل الحاضر ويمتد في المستقبل.
إن ما أعجبني بخصوص كيفية التعامل مع الماضي ومع الإرث التاريخي، هو رأي للفيلسوف الألماني “هانز جورج جادامر” (1900- 2002)، تلميذ “هيدجر”؛ حيث يرى أن الحقيقة انكشاف، أي كشف التلاقي بين التاريخ والتراث وأسئلة الحاضر، وانصهار أفق الحاضر بأفق التاريخ والتراث؛ فالتراث ليس موضوعًا يقف أمامنا، وبمعزل عنّا، فنحن متموقعون في التراث، وإعادة الاعتبار للتراث هو جزء من نسيج التأويلية عند جادامر؛ إنها الحوار بين الماضي والحاضر، والممارسة التأويلية ذاتها هي الفهم نفسه. فالإنسان، كل إنسان، كائن مؤول، تصله خيوط التواصل بالتراث ليس عبر النص المكتوب فقط، بل عبر الذاكرة أيضًا.
فلو طبقنا هذا المبدأ الذي يقول به جادامر، مبدأ انصهار الأفق، أفق الماضي والحاضر على تراثنا، وكذلك رأي أستاذه هيدجر؛ أي أننا لا نفهم نصًا أو مادة أو موقفًا إلا حين نملؤه بالموقف الجاري، أي لا نفهمه إلا من خلال وعي يقف في الحاضر.. لكن، أقول: العبرة أن يكون حاضرنا نحن، وماضينا نحن، لا ماضي غيرنا. فمعنى الفعل الماضي إنما يتحدد في ضوء الأسئلة التي توجه إليه من الحاضر، والأسئلة التي نسألها تنتظم بحسب الطريقة التي نرى فيها أنفسنا في المستقبل. ففي تاريخية كل فهم للماضي نقف في الحاضر استشرافًا للمستقبل. فالماضي يظل يؤثر على الحاضر، والحاضر أيضاً لا يمكن رؤيته ولا فهمه إلا من خلال مقاصد وطرائق رؤية وتصورات مسبقة منحدرة من الماضي. فالماضي عند جادامر ليس كومة من الوقائع يمكن تحويلها إلى موضوع للوعي، وإنما الماضي تيارٌ نتحرك فيه ونشارك لدى كل فعل من أفعال الفهم. فالتراث، إذن، ليس شيئًا يقف قبالتنا؛ بل هو شيء نقف فيه ونوجد من خلاله؛ وهو، في معظمه، وسطٌ بلغَ من الشفافية حدًّا يجعله غير مرئي لنا- تمامًا مثلما أن الماء غير مرئي للسمك. فليس هناك فهم خالص أو رؤية للتاريخ بدون الإشارة، أو الإحالة، إلى الحاضر؛ بل إن فهم التاريخ ورؤيته لا يَتِمَّان أبدًا إلا من خلال وعي يقف في الحاضر.
فالوجود هو العنصر الذي نعيش فيه، واللغة هي منزل الوجود، ونحن نعيش في اللغة وخلال اللغة، وهيدجر وجادامر يتفقان على أن اللغة هي مستودع التراث ووسطه الحامل. التراث يختبئ في اللغة، واللغة “وسط” شأنها شأن الماء. كما يتفقان- هيدجر وجادامر- على أن اللغة والتاريخ والوجود عناصر مترابطة وملتحمة ومنصهرة وملتئمة معًا، بحيث إن لغوية الوجود هي في الوقت نفسه “أنطولوجيته”، وهي الوسط الذي يحمل تاريخيته.
رؤية النص في ضوء الحاضر
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: كيف نفهم قول جادامر في مجال “النص الديني”؟
يرى جادامر أن الذي يقوم بتأويل “مشيئة قانونية” و”مشيئة إلهية”، ليس متحكمًا في موضوعه؛ بل هو خادم له. وعلى المرء- في الموقف التأويلي- أن يضع مذهبه تحت ضوء النص ويُخضعه لحكم النص ودعواه، إنه مطالَب بأن يترك دعوى النصِّ تكشف عن نفسها كما هي، كما أنه مطالب في الوقت نفسه أن يرى النص في ضوء الحاضر، وأن يترجم معنى الدعوى التي يطرحها النص إلى الحاضر. وفي عملية تفاعل الأفقين، أفق المؤول وأفق النص، والتحامهما، يتسنى للمؤول أن يسمع السؤال الذي كان يشغل النص والذي دعا النصَّ نفسَه إلى الوجود.
ولعمري، إن ما يُعرف في ثقافتنا من أن “العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب”، يؤكد لنا هذا المعنى، إلى جانب عمومية الرسالة وشموليتها وعالميتها بهدف التطبيق. لقد كانت الآيات تتنزل، فكان الصحابة يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار. وعند جادامر لا يحقق الفهم اكتماله إلا باكتمال جوانب ثلاثة هي: الفهم والتأويل والتطبيق. والأمر المهم عن مفهوم التطبيق في الفهم التاريخي، هو أنه ليس إحضارًا حرفيًّا للماضي؛ بل إحضار ما هو جوهري في الماضي إلى حاضرنا الشخصي، إلى فهمنا الذاتي، أو بتعبير أدق إلى خبرتنا بالوجود.
إن فهمنا لمسرحية ما، عندما “نعرف” ماذا “تعني”، ليس أمرًا مغلقًا على حاله، بل هو ربط للُّعبة المغلقة- التي هي المسرحية- بحاضرنا ومستقبلنا. هكذا يصرح جادامر: الفهم دائمًا يشتمل على التطبيق، التطبيق على الزمن الحاضر. ومن صفة التأويل الأصيل أن يربط نفسه بالسؤال الذي وضعه النص. أنْ تفهم النص يعني أن تفهم هذا السؤال. ولكي تفهم النص يلزمك أولاً أن تفهم أفق المعنى أو أفق التساؤل الذي يتحدد داخله اتجاه المعنى. فالنص هو خبر أو تقرير عن السؤال الذي يطرحه “موضوع النص” على النص. وحين يفهم المرء النص في ضوء السؤال الذي يجيب عنه، يتعين عليه أن يمضي متسائلاً فيما وراء النص من أجل أن يفسره. كما يتعين عليه أيضًا أن يسأل: “ما الذي لم يقُلهُ النص؟”، ولن يتسنى للمرء أن يفهم النص بمعناه، إلا بقدر ما يبلغ أفقَ سؤالٍ يضم أيضًا أجوبة أخرى ممكنة.
لو أتينا لقضية “التأويل”؛ وهي إحدى الإشكاليات الكبرى المثارة باستمرار.. كيف تنظرون إليها؟
قضية التأويل من أهم القضايا وأخطرها، فهي قضية الفهم وفهم الفهم. وما من علم من العلوم أو إنسان في الوجود إلا ويسعى للفهم، لكن الخطورة ليست في التأويل بقدر ما تكون في التحريف. لذلك تعدّ من أهم وأخطر الظواهر الإنسانية، لأنها- فيما أرى- ارتبطت بالإنسان كائنًا منْ كان؛ إذ لو نظرنا إلى التأويل على أنه محاولات الإنسان لاستكناه الغامض من اللغة، وإرادة الكشف عن معانى الكلمات، بل معنى الوجود ككل، بقصد الفهم؛ ولو نظرنا إلى اجتهادات العقل البشري عبر عصوره بحثًا عن الحقيقة، وتوخيًا للفهم؛ فسنجد أن الإنسان قد وُهب القدرة على التأويل منذ أن علّم الله آدم الأسماء كلها، في مقابل عجز الملائكة عن معرفة الأسماء ومعناها وما تؤول إليه.
فلما أنبأهم آدم كان ذلك إيذانًا بالقدرة على التأويل، فأصبح التأويل قرينًا للإنسان من حيث هو كائن عاقل، ناطق، رامز، مكلف، أخلاقي، متدين، مُؤوِّل.. إلى آخر التعريفات التي وضعها المفكرون والفلاسفة للإنسان؛ فكلها تعريفات تدل على قدرة الإنسان ومحاولاته عبر العصور المختلفة للكشف عنما استغلق عليه من معاني الأشياء والوجود بحثًا عن الحقيقة وسعيًا وراءها، سواء كانت الحقيقة: منطوقة ومسموعة، أو مقروءة مسطورة على صفحات الكتب المنزلة وغير المنزلة، أو المشاهدة في الآفاق، أو المحسوسة في الأنفس.
فكل محاولات العقل وتجلياته لفهم الحقائق لا تخرج عن كونها “تفسيرًا” أو “تأويلاً”. أي أن كل بحث قام به فيلسوف ما، أو مفكر ما؛ هو إلا محاولة لـ “فهم” حقائق الوجود، والكون وخالقه، والإنسان وإمكانياته، وعلاقاته… إلخ. كلها محاولات تدخل تحت التفسير أو التأويل بوجه عام، إذا ما قُصد بذلك الفهم، وفهم الفهم.
إنني أتطلع- من خلال الخبرات التأويلية التي عالجتها- في كتابي: (مقالات في فلسفة التأويل)؛ إلى معرفة كيف نتعامل مع تراثنا العربي الإسلامي تعاملاً تأويليًّا، حيًّا متجددًا لا نهائيًّا، مشمولاً بكل الأبعاد التي أفدنا منها، والتي تُستجد فيما بعد، لتشكيل وعي تأويلي قوامه الحس التاريخي والنقدي في تناول موضوعات التراث- أيًّا كان مجالها- وتشكيل عقلانية متميزة في فحص أصوله واكتناه تركيبته؛ وهو ما يسميه جادامر بالوظيفة الفعلية للتاريخ؛ أي تطبيق الدلالات التي تكشف عنها حقائق التاريخ والتراث على اللحظة الراهنة. فالوعي التأويلي يعكس ظهور التراث، والممارسة التأويلية تعكس انصهار آفاق الماضي والحاضر في حقيقة الفهم؛ فهو يضمن إنارة حاضرنا الراهن وحالتنا الواقعية، تأكيدًا لفاعلية الوظيفة التاريخية التي تردم كل مسافة وهمية بين الماضي والحاضر، لتجعل التاريخ يعيش فينا، على حدّ قول جادامر.
فإذا كانت الحقيقة هي كشف وإيضاح، أي “إنارة”، وفي الوقت نفسه محايثة لفاعلية الوظيفة التاريخية للتراث، وواقعية التساؤلات لقوى الحاضر؛ فهي تعبر عن نقطة تقاطع وانصهار آفاق التراث في فاعليته والحاضر في واقعيته.
التأويلات منها الصحيح والفاسد
هل “التأويل” يمثل حاجة فكرية وفلسفية؟ أم يمكن تجازوه بالوقوف أمام النص والتسليم له؟
بالفعل يمثل “التأويل” حاجة فكرية وفلسفية، كما أشرنا أعلاه من حيث السعي إلى الفهم؛ فَهْم كل شيء، فهم المعاني، فهم الوجود، فهم الحياة… إلخ.
لكن فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال، علينا أن نحدد: هل نقصد أيَّ نص أم النص الديني؟ بالطبع التسليم لأي نص أمر مرفوض؛ لأن هناك علاقة حوار بين النص وقارئه، علاقة تواصل بين مُرِسل ومرسَل إليه، بين رسالة ينبغي فهمها ومرسَل إليه ينبغي عليه فهم الرسالة وموضوعها ومقصدها وغايتها. ولا يتوقف الفهم عند المعرفة، بل الأمر يتطلب التطبيق أيضًا.
أما إذا تعلق الأمر بالنص الديني، وتحديدًا النص القرآني؛ فالأمر أيضًا يتطلب الفهم والتفسير والتأويل وصولًا للمعنى المراد ولمقاصد الشرع والشارع، وذلك استنادًا إلى أصول وشروط وضوابط تضبط حركةَ التأويل نفسَها. والنص القرآني نفسه يطالب العقل بتدبر النص القرآني، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، وغيرها من الآيات.
والتأويل باعتباره تفعيلاً للعقل في فهم النصوص الدينية، أدى إلى قيام علوم تمحورت حول الدين، أو انبثقت منه كنتيجة طبيعية لآلية التأويل ومحاولات العقل لفهم النصوص؛ وأهم هذه العلوم الإسلامية، كما أشرنا: علوم القرآن وأهمها علوم التفسير، وكذلك الفقه، وأصوله، وأصول العقيدة، والفلسفة، والتصوف… إلخ. جميعها علوم يدخل فيها التأويل باعتباره منهجًا للمعرفة، يفتح آفاقاً واسعة من العلاقة الجدلية بين النصّ الديني والفهم الإنساني المتجدد عبر الزمان. ومن هنا خاضت جميع الفرق والمذاهب والاتجاهات الفكرية على تنوعها في مسألة التأويل باعتباره ضرورة معرفية.
وتأتي خطورة التأويل من كونه موضوعًا للتعدد والاختلاف، ومن ثم الخلاف أو الانحراف، وعلى الأخص إذا ما تعلق الأمر بأصول العقيدة الدينية، وما يلزم عن بعض التأويلات من أثر سلبي على الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الناس في عصر معين. مما يؤكد أن هناك أنواعًا من التأويلات؛ فمنها الصحيح المقبول، ومنها الفاسد غير المقبول عقلاً وشرعًا، إذا لم تخضع لشروط وضوابط يعرفها العلماء.
التعامل مع النص القرآني كوحدة واحدة
إذن، ما ضوابط “التأويل”؟
من أهم ضوابط “التأويل”: معرفة متى يجب التأويل ومتى لا يجب، ومن المنوط بالتأويل؟ وما هي العلوم اللازمة لمن يقوم بالتأويل. لذلك يقول الفخر الرازي وهو بصدد ذكر متى يجب التأويل ومتى لا يجب: “إن المصير في التأويل إنما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدليل العقلي امتناعُ حمل اللفظ على ظاهره؛ وأمّا لَمّا ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دلّ عليه ظاهر اللفظ، كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثًا”.
كما ينبغي التعاملُ مع النص القرآني كوحدة واحدة لا تتجزأ.. وضبطُ العلاقات الرابطة بين الثنائيات التي تحكم عملية التأويل؛ وهل هي ثنائية انفصالية قائمة على علاقة “إما.. أو..”؟. وأهم هذه العلاقات: علاقة المعقول والمنقول؛ وهي لا يمكن أن تكون ثنائية انفصالية: إما العقل أو النقل؛ بل هي وحدة عضوية تؤكد حاجة كل منهما للآخر. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعلاقة بين المحكم والمتشابه، علاقة الظاهر والباطن، علاقة البرهان والتأويل، ومتى يتم تأويل الظاهر… كل هذه الثنائيات التي نتحدث عنها تنحل إذا قمنا برد الجزء إلى الكل، أو فهم الجزء في نطاق الكل؛ أي رد المتشابه إلى المحكم بقرينة سمعية أو عقلية. وهو أمر لا اختلاف فيه بين المذاهب الإسلامية. وفخر الدين الرازي يؤكد أن جميع فرق الإسلام مُقرون بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن.
من هنا أيضًا كان التأكيد على معرفة علم “المناسبات بين الآيات”.. وعلى التلازم الذهني؛ كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين، والضدين، ونحوه.. أو التلازم الخارجي؛ كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر.
وفائدة علم المناسبة “جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليفُ حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء”. وممن أكثر من استخدام هذا النوع الإمام فخر الدين الرازي، فقال في تفسيره: “أكثر لطائف القرآن، مودعة في الترتيبات والروابط”.
أيضًا أكد علماءُ التفسير الأوائل وجوبَ مراعاة نظم الكلام، ومعرفة اللفظ والتركيب، ومعرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير حركة لفظ معين.. لقد تحول التفسير أو التأويل- على يد علماء الإسلام وأعلامه المتخصصين- إلى علم للفهم له قانونه الذي يبين بوضوح الشروطَ الواجب اتباعها؛ سواء ما يتعلق منها بمفردات الألفاظ، أو التركيب والبناء اللغوي، أو السياق، أو الظاهر والباطن من المعنى.
ومعرفة أسباب النزول تفيد الوقوف على المعنى؛ لأن الكثير من العلماء أقروا بأن “بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز”، وتكلم العلماء عن أهمية اللغة، وعن حاجة المفسر إلى التبحر في معرفة لسان العرب، وتكلموا عن “حاجة المفسّر إلى الفهم والتبحّر في العلوم”، إذ إن حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه يحتاج إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية والتبحر فيها، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي، والخبر، والمجمل والمبين، والعموم والخصوص، والظاهر والمضمر، والمحكم والمتشابه والمؤوّل، والحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والمطلق والمقيد”. لأن كتاب الله بحره عميق، وفهمه دقيق، لا يصل إلى فهمه إلا من تبحر في العلوم؛ ولا يمكن تحصيل فهم القرآن بمجرد تفسير الظاهر من آياته.
لقد ربط علماؤنا بين التفسير والفهم والمعنى برباط قوي يجمعهم في بوتقة واحدة لا انفصام بين عناصرها. كما أوضحوا تعذرَ الفهم الكلي لدى الإنسان الفرد؛ مع اعتبار شروط الفهم ومتطلباته؛ لذلك أكدوا تناهيَ الفهم الإنساني، وفي الوقت نفسه أكدوا عدمَ تناهي معاني النص القرآني.
فأدركوا أن الإحاطة بفهم القرآن واستقصاء معانيه أمر متعذر حدوثه في زمن معين من الأزمان؛ ورغم أنه يتطلب الكثير من الشروط التي تتعلق بالهمة والعزيمة، والطلاقة اللغوية، والتدبر، واتساع مجال الفكر.. إلخ، إلا أنه مع كل هذا لا يمكن استقصاء معانيه. وفي ذلك يقول الزركشي: “لا يستقصى معانيه فَهْمُ الخَلْق، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطَّلْق؛ فالسعيد من صرف همته إليه، ووقف فكره وعزمه عليه، والموفَّق من وفقه الله لتدبره، واصطفاه للتذكير به وتذكّره”.
ومِن شروط الفهم ومتطلباته لدى من يطلب المعاني قصدًا للفهم، ما يذكره الزركشي بقوله- استكمالاً للنص السابق: “وإنما يفهم بعض معانيه، ويطلع على أسراره ومبانيه؛ من قويَ نظرهُ، واتسع مجاله في الفكر وتدبره؛ وامتد باعه، ورقت طباعه، وامتدّ في فنون الأدب، وأحاط بلغة العرب”. ولهذا يقول سهل بن عبد الله: لو أُعْطِىَ العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه؛ لأنه كلام الله، وكلامه صفته. وكما أنه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه؛ وإنما يفهم كلٌ بمقدار ما يفتح الله عليه. وذلك تأكيداً على الطابع اللامتناهي للفهم وللتفسير وللمعاني أيضاً.
مواضع لا وجه للتأويل فيها
وغني عن البيان أن ذلك يشمل بعض نصوص التراث الأصيلة التي تنفتح لتأويلات عديدة. كما أكد الفلاسفة أيضًا ضرورةَ مراعاة مستويات الناس وتعدد مراتب التصديق. فعند الغزالي، لا ينبغي على العامة تأويل، ولا ينبغي التصريح لهم بتأويل. لذلك يقول “تأويل العامي على سبيل الاشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق ممن لا يحسن السباحة. كما أن تصريح العالم بتأويله للعامي “هو أيضًا ممنوع؛ ومثاله أن يَجرّ السباح الغواص في البحر مع نفسه عاجزًا عن السباحة… وذلك حرام؛ لأنه عرضه لخطر الهلاك”.
ويرى الغزالي أن ما لا يجوز تأويله هو: الأصول الإيمانية الثلاثة؛ التي هي الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فهي أصول العقيدة التي لا ينبغي المساس بها ولا تأويل مهماتها؛ ومن مهماتها ما يتعلق بأخبار الغيب من الحشر والنشر والجنة والنار والمعاد الجسماني.. إلخ. وكل ما يتعلق بأخبار الآخرة لا يجوز تأويلها على اعتبار أنها تجمع بين “الحق” و”الإمكان”؛ فهي حق لأن قواطع السمع دلت عليها، وهي “ممكنة” لأن العقل لم يَقضِ باستحالتها؛ وما لا برهان على استحالته لا ينبغي أن يُنكر بمجرد الاستبعاد”، وعلى ذلك وجب التصديق بأخبار الآخرة شرعًا وعقلاً. ويذكر الغزالي أن هناك مواضع لا وجه للتأويل فيها أصلاً؛ مثل الحروف المذكورة في أول السور. لذلك ينصح الغزالي بأنه لا ينبغي أن يستبعد أن هناك بعضًا من الأمور التي لا يطلع عليها العلماء؛ والعالم الذي يدّعي الاطلاع على مراد النبي ﷺ في جميع ما أخبر به، فدعواه لقصور عقله لا لوفوره.
كما ينصح الغزالي بعدم استعمال التخمين والظن في التأويلات؛ لأن هذا مرخص به في الفقه لضرورة العبادات والأعمال والتعبدات التي تدرك بالاجتهاد. وما لا يرتبط به عمل إنما هو من قبيل العلوم المجردة والاعتقادات، فمن أين يتجاسر فيها على الحكم بالظن؟”. لذلك فإن ما قيل في التأويلات في نظر الغزالي أكثرها “ظنون وتخمينات”.
ويحدد ابن رشد أيضًا، ما يجوز تأويله من ظواهر الشرع وما لا يجوز؛ فيقسّم ظواهر الشرع ثلاثة أصناف يوضح من خلالها ما يؤول وما لا يؤول، وحكمه في كل صنف.. ويمكن العودة إلى كتابي: (مقالات في فلسفة التأويل).
هل الهدف من “التأويل” إحداث وَصْلٍ وتوفيق مع النص، أم انقطاع معه وتجاوزه؟
“التأويل” هو منهج فهم النصوص، سواء كانت دينية أو بشرية. ولا يمكن أن يتم تفسير أو تأويل أو فهم لأي نص دون وصل وتفاعل مع النص، ولا يمكن أن يتم ذلك عن طريق انقطاع وتجاوز للنص؛ لأن التأويل والتفسير والفهم يتطلب الحوار مع النص. فالعلاقة جدلية بين النصّ والقارئ.
وغني عن البيان أن النص- القرآني تحديدًا- ينادي الإنسان في كل مكان، ويأمره بتدبره، وتدبر ما ينادي به، إنه نص لغوي نابض بالحياة ليس منفصلاً عن وجودنا وحياتنا، ولا عن ماضينا ومستقبلنا، ولا عن تاريخ الإنسانية وصيرورتها؛ فينبغي على القارئ أن يبذل كل ما في وسعه من جهد تفسيري وتأويلي يتناسب مع حجم المسؤولية التي ألقيت على عاتقه. وينبغي على القارئ أيضًا أن يوظف كل علومه ومخزونه المعرفي والثقافي والتراثي واللغوي، لفهم كل حرف من حروف النص القرآني. كما أن النصّ ينادي القارئ ويقول له: لا تقف عند حدّ الفهم، بل الفهم يقترن بالعمل، بالتطبيق.
الألفاظ تتطور معانيها
كيف يمكن لمناهجنا الجامعية أن تسهم في إثراء الفكر الفلسفي؟
يمكن ذلك إذا وُضعت استراتيجيةٌ مستقبلية تواكب التطورات المتسارعة في علوم العصر، وفلسفةٌ تواكب الثورات العلمية التي لا تنفك تخرج علينا بعلوم جديدة تحتاج إلى فلسفة جديدة، وبمفاهيم جديدة تختلف تمامًا عن المفاهيم القديمة، وبمناهج جديدة تختلف عن تلك التي ما زلنا نحفظها ونرددها في جامعاتنا، وكأن الزمن توقف عند تاريخ الفكر العلمي والفلسفي!! وأصبحنا بدلاً من قراءته بعين التاريخ، أصبحنا نقرؤه بعين العلم، وكأنه علم للحاضر!! علينا أن نقرأ ونقرأ ونقرأ.. ونحن أمة اقرأ، لا نقرأ!!
حتى الألفاظ تطورت معانيها مع تطور العصر وتطور العلوم. ولننظر كيف يتحدث عصرنا عن العقل؟ في كتاب: (تكوين العقل- كيف يخلق المخ عالمنا الذهني؟) تأليف: كريس فريث Chris Frith، ترجمة وتقديم: شوقي جلال؛ يقول المترجم: نحن نعيش أسرى لغة تقليدية لها تصوراتها ومفاهيمها الذهنية، التي تختلف كثيرًا عما أفرزته إنجازات العلوم والتكنولوجيا من مفاهيم وتصورات مغايرة ومتطورة. لابد أن تتطور المناهج بتطور العصر كي تسهم في إثراء الفكر الفلسفي.
بِمَ تنصحون دارس الفلسفة.. وقارئها العام؟
النصيحة الأساسية أن يقرأ كثيرًا ويعتبر من قراءاته؛ فليس المقصود التلقين والحفظ، أو الحصول على كومة من المعارف؛ نحن في عصر الثورة المعلوماتية، والآلة بها من مخزون المعلومات ما يفوق القدرات البشرية. لذلك لم يعد يهم دارس الفلسفة الحصول على المعلومات؛ فالمعلومات متوافرة على “الإنترنت”، بضغطة يحصل عليها. إن ما يهم دارسَ الفلسفة هو اكتساب مهارة “التفكير الفلسفي” الذي يساعده على التفكير في أي موضوع كائنًا ما كان. فالمثل الصيني الذي يقول “بدلاً من أن تعطيني سمكة، علمني كيف أصطاد”؛ يحمل هذا المعنى.
إن تعلم مهارات التفكير تجعل الإنسان منتجًا فعالًا. الحياةُ مدرسةٌ لممارسة التفلسف: الفلسفة ظاهرة بشرية عامة تميز الإنسان بوصفه كائنًا عاقلاً ناطقًا رامزًا أخلاقيًّا، متدينًا. ومهمة أستاذ الفلسفة لا تنحصر في تعليم تلاميذه بعض الأفكار، بل عليه أن يهتم بتعليمهم: كيف يفكرون. أهمية “التفكير الفلسفي” تكمن في أنه يُكسبنا المهارات العقلية اللازمة لتحليل الحجج المؤيدة أو المعارضة في موقفٍ ما، وبالتالي تعليم مهارات التفكير.
“التفكير المنهجي” هو المفتاح
ومن الذين اهتموا بقضية التفكير المنهجي في فكرنا العربي، زكي نجيب محمود، الذي يرى أن “التفكير المنهجي” هو المفتاح الذي نفتح به الأبواب المغلقة المظلمة فتزداد نورًا ووضوحًا؛ فالتقدم العلمي أو الفكري أو الثقافي أو الحضاري- في نظر مفكرنا- لا يتم بتكديس المعارف أو الحقائق العلمي، إنما يتم بالتفكير المنهجي الصارم؛ من هنا كان تمييزه بين “المنهج” من جهة، وبين “الحقائق العلمية” من جهة أخرى؛ فإذا كانت مجموعة الحقائق العلمية التي يحفظها أبناؤنا في المدارس والجامعات بمثابة قِطَع من نفائس المعادن، فإن المنهج الذي أوصلنا إلى تلك النفائس، هو بمثابة المنجم الذي نظل نستخرج منه النفائس بعد النفائس. لذلك كانت دعوته إلى “منهجة” المواطن الذي نتولاه بالتعليم والتثقيف خلال المادة التي نقدمها إليه عن طريق القنوات المختلفة؛ بحيث يبقى للمواطن نظرته المنهجية التي اكتسبها بصرف النظر عن نوع المادة وحجمها.
وعلى دارس الفلسفة أن يعي أيضًا أن الفلسفة هي مدرسة الحياة، مدرسة الحرية، مدرسة الخبرات والتجارب الإنسانية، مدرسة الفهم: فهم الحياة وفهم تعبيرات الحياة، فهم الوجود؛ فالعلاقة وثيقة بين الحياة والتفلسف، وفعلُ التفلسف لا ينفصل عن الحياة وعن الوجود. فلاسفة الحياة يؤكدون لنا ذلك في أعمالهم، وفلاسفة الوجود يؤكدون لنا أيضًا أن فعل التفلسف معانق لفعل الوجود ذاته، وفعل الوجود هو فعل الفكر؛ فالفلسفة ملازمة للحياة معانقة للوجود، بل متطابقة مع الوجود نفسه على حد قول هيدجر.