يعد كتاب المفكر الألماني الراحل مراد هوفمان رحمه الله “رحلة إلى مكة ” مزيج بين السيرة الذاتية العميقة، والتأمل الفلسفي، وأدب الرحلات، نُشر الكتاب لأول مرة عام 1996 م وذلك بعد أربع سنوات من أداء هوفمان لفريضة الحج عام 1992م ويعتبر استكشاف عميق لتحول فكري وروحي قاده إلى اعتناق الإسلام، وتتويج هذا التحول بأداء الركن الخامس.
يقدم مراد هوفمان للقارئ، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، نافذة فريدة على معنى الإسلام وتطبيق أركانه، بعين غربية فاحصة وقلب مؤمن متدبر. وكما يشير هوفمان في مقدمة كتابه إن العمل هو “سيرةٌ روحيةٌ تشرح كيف يُحدث الإسلام تغييراً كونياً في نفس المؤمن”، وليس مجرد يوميات حج، بل هو استكشاف لـ”الحج الداخلي” الذي يوازي الشعائر الظاهرة، وشهادة على كون الحج نموذجاً مصغراً للحياة وتذكيراً بيوم الحساب.
من ضفاف الماين إلى أنوار مكة: مسار التحول الفكري والروحي
وُلد مؤلف الكتاب ويلفريد هوفمان في مدينة أشافنبورغ الألمانية عام 1931 لأسرة كاثوليكية. تلقى تعليمه الديني المسيحي ودرس القانون في جامعتي ميونخ وهارفارد. هذه الخلفية الأكاديمية والفكرية الغربية شكلت منطلقه نحو البحث عن الحقيقة، الذي لم يخلُ من تساؤلات وجودية وفلسفية.
الشرارة الأولى نحو الإسلام
كان لعمله كدبلوماسي ألماني في الجزائر (1961-1962) إبان الثورة الجزائرية دور محوري. هناك، لمس هوفمان عن كثب “الإنسانية المشرقة” للشعب الجزائري وصموده. يروي حادثة مؤثرة عميقاً في نفسه: تبرع سائق جزائري مسلم بدمه لإنقاذ زوجة هوفمان (المسيحية آنذاك) التي كانت تعاني من نزيف حاد، رغم ظروف الحرب والعداء الظاهري.
يقول هوفمان: “في ذلك اليوم فهمت أن الإسلام يبني أخوة تتخطى الدين” . كما وصف مساجد الجزائر بأنها “واحة صمت تذكرني بكنائس الرهبان البندكتيين” مشيراً إلى الجو الروحاني الذي لمسه.
القرآن الكريم ومنافذ النور
قاده شغفه بالفن التشكيلي إلى الإعجاب العميق بالفن الإسلامي، الذي رأى في تجريديته الهندسية وزخارفه تعبيراً عن التوحيد، وتجلى ذلك في انبهاره بالجامع الأموي في دمشق وقصر الحمراء في غرناطة. لكن نقطة التحول الحاسمة كانت مع قراءته للقرآن الكريم. تأثر بشكل خاص بالآية الكريمة من سورة النجم (الآية 38): ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾. يصف هوفمان هذه اللحظة: “انهارت أمامي فكرة الخطيئة الموروثة التي حملتها طفلاً”.
وجد في هذه الآية وفي مفهوم العلاقة المباشرة بين الإنسان وخالقه دون وساطة كهنوتية، إجابة شافية لتساؤلاته وتحريراً للعقل. كما وجد في “عقلانية” الإسلام ومنطقه الواضح، خاصة في عقيدة التوحيد الخالص، ما يتسق مع تكوينه القانوني والفلسفي، مقابل ما اعتبره “ألغازاً” في معتقدات سابقة.
الميلاد الجديد
بعد رحلة فكرية وروحية استمرت سنوات، أعلن هوفمان إسلامه رسمياً عام 1980 في المركز الإسلامي بمدينة كولونيا، واختار لنفسه اسم “مراد”، الذي يحمل معنى “المَقصود” أو “الغاية المبتغاة”، كرمز لبلوغه غايته الروحية المنشودة.
أركان الإسلام بعيون غربية
بالنسبة لهوفمان لم تكن الشهادتان مجرد ترديد لكلمات، بل إعلاناً لتحرر العقل من مفهوم “الخطيئة الأصلية” كما وجد في الإسلام طريقاً مباشراً إلى الله، حيث يصف هوفمان تجربته الأولى مع الصلاة بشفافية لافتة. لم تخلُ البدايات من تحديات جسدية، حيث عانى من آلام في العضلات والمفاصل بسبب الحركات غير المألوفة، خاصة السجود. يقول: “كأن مفاصلي تئن تحت وطأة حركات لم تعهدها” . لكن سرعان ما تحولت هذه الصعوبات إلى تجربة روحية عميقة، وأصبح السجود بالنسبة له “تذويباً للأنا في بحر الألوهية” ولحظات “راحة وسكينة” واتصال مباشر بالخالق.
أما الزكاة فهي تجسيد للتكافل الإنساني وتطبيقاً عملياً لمبدأ العدالة الاجتماعية والتكافل، وقيمة إنسانية عميقة تعكس مسؤولية الفرد تجاه مجتمعه، وهو ما يتجاوز مفهوم الصدقة الطوعية.
ووجد هوفمان في تجربة صيام رمضان مدرسة الصبر والتحرر من الاستهلاك، خاصة في أجواء ألمانيا حيث يطول النهار صيفاً، بمثابة تدريب قاسٍ ولكنه مفيد لأن الصوم يعلم الصبر، والتحكم في النفس، والشعور بمعاناة الفقراء والمحتاجين. ويذكر تجربته في برلين: “الامتناع عن الماء 16 ساعةً علمني أن العطش أقسى من الجوع” . واكتشف أن الصوم “ليس حرماناً بل تحريراً من عبادة الشهوة” ومختبراً للتحرر من عبودية الاستهلاك المادي.
إلى البيت العتيق
بعد عشر سنوات من إسلامه وعمرة أداها عام 1982، قرر هوفمان أداء فريضة الحج عام 1992. يصف هذا الفصل الاستعدادات التي سبقت الرحلة، والتي لم تقتصر على الجوانب المادية واللوجستية كالحصول على التأشيرة وحجز السفر، بل امتدت إلى تهيئة نفسية وروحية عميقة. انكب على قراءة الكتب والمراجع حول مناسك الحج وأحكامه، وحرص على تعلم الأدعية المأثورة. كانت مشاعره مزيجاً من الشوق واللهفة والرهبة من عظمة المهمة، مع التركيز على أهمية النية الخالصة.
مشاهدات من قلب الحج
يصف هوفمان لحظة ارتداء ثوبي الإحرام الأبيضين البسيطين بأنها تجربة مساواة جذرية. شعر كأنه يخلع “كل رتب الدنيا وألقابها مع ثيابي”. عند الميقات، وبدء التلبية “لبيك اللهم لبيك…”، لم تكن الكلمات مجرد ترديد، بل “صرخة وجود تُعيدني إلى فطرة آدم. وشعر بعمق الارتباط بدعوة النبي إبراهيم عليه السلام. كما يشرح محظورات الإحرام كجزء من هذا التجرد.
يصف وصوله إلى مكة ورؤيته للكعبة المشرفة لأول مرة بأنها لحظة مؤثرة بعمق، هزت كيانه. انطباعه عن الكعبة: “هذا المكعب الأسود يسحب الأرواح كما يجذب المغناطيس الحديد.
ينقل هوفمان صورة حية للطواف حول الكعبة، وسط حشود الحجيج المتنوعة الأعراق والألسنة، والتي رآها تجسيداً حياً لوحدة الأمة الإسلامية. يقول عن الزحام: “أجناس الأرض تدور حول مركزٍ واحد كأنها كواكب في فلك”. ثم ينتقل لوصف السعي بين الصفا والمروة، مستحضراً قصة هاجر عليها السلام، ورأى فيه رمزاً للسعي الإنساني الدؤوب المدعوم بالتوكل على الله.
الوقوف بعرفة: ذروة التجلي ومحاكاة يوم الحشر
يعتبر هوفمان يوم عرفة قلب الحج وذروته الروحية. يصف المشهد المهيب لملايين الحجاج على صعيد عرفات: “ملايين البشر وقوفٌ تحت شمس المحشر… كلٌّ يبكي بلغته ولكن بدموعٍ واحدة”. كانت وقفته هناك فرصة للدعاء والتضرع والتأمل العميق في معنى الوجود والمصير. شعر بأن الدعاء في عرفة “يذيب الأنا الفردية في البحر الإلهي” ويغسل الكبرياء.
إتمام المناسك وترسيخ المعاني
يسرد تجربته في المبيت بمزدلفة وجمع الحصى، ثم الانتقال إلى منى لرمي الجمرات، وذبح الهدي، والحلق أو التقصير. يرى في رمي الجمرات رمزاً لمقاومة الشر وإغواءات الشيطان، وتجديداً للعهد على اتباع سبيل الأنبياء. ويصف أيام التشريق والمبيت في منى كأيام لترسيخ هذه المعاني الروحية. ولم يغفل هوفمان في سرده عن نقل التجربة الحسية والجسدية للحج، بما فيها من مشقة الزحام والحر، معتبراً هذه الصعوبات جزءاً من رحلة الصقل الروحي وتطهير النفس.
تأملات ما بعد الرحلة
يصف مراد هوفمان طواف الوداع بمشاعر مختلطة من الامتنان لإتمام النسك، والحزن العميق لمغادرة الأماكن المقدسة. يقول: “كل شوط حول الكعبة كان خطوةً نحو فراق يؤلم أكثر من فراق الوطن”.
بصمات الحج وتغيير في المنظور
يؤكد هوفمان أن الحج لم يكن مجرد أداء لشعائر، بل رحلة تحويلية عميقة. شعر بأنه وُلد من جديد، وأن نظرته للحياة والإسلام والعالم قد تغيرت. من أهم مكتسباته: “التخلص من خوف الموت بعد أن عايشتُ المصير الجامع في عرفة” . ويقول عن أثر الحج: “الحج يُعيدك إلى العالم كأنك طفلٌ وُلد للتو، يحمل براءةً تسبق المعاصي” .
الإسلام في مواجهة تحديات العصر
لم يخلُ كتاب هوفمان من رؤية نقدية، سواء للعالم الإسلامي أو للغرب. دعا المسلمين إلى فهم جوهر دينهم وتجاوز المظاهر السطحية، والعمل على إصلاح الفكر الديني بما يتناسب مع تحديات العصر. كما انتقد التناقضات اللاهوتية في المسيحية التي دفعته للبحث خارجها، مثل فكرة التثليث وفداء المسيح . وواجه المفاهيم المغلوطة عن الإسلام في الغرب، مؤكداً أن *”الإسلام ليس عدواً للغرب، بل هو بديل أخلاقي وحضاري شامل لنزعة الاستهلاك المادي والفراغ الروحي الذي قد تعاني منه المجتمعات الحديثة.”
خاتمة “رحلة إلى مكة” كجسر حضاري
يظل كتاب “رحلة إلى مكة” لمراد هوفمان أكثر من مجرد سيرة ذاتية أو كتاب رحلات. إنه شهادة حية على قوة الإيمان وقدرة الإسلام على مخاطبة العقل والقلب في آن واحد. تميز الكتاب بأسلوبه الرصين، وعمق تحليلاته، وصراحته المؤثرة. لقد نجح هوفمان في تقديم صورة إنسانية وعقلانية للإسلام للقارئ الغربي، وفي نفس الوقت قدم للمسلمين رؤية متأملة لتجربة الحج من منظور فريد.