السعي وراء الحق في تقرير المسائل دون تعصب مذهبي هو الغاية والهدف الذي أدى بأبي محمد الجويني إلى عقد العزم على وضع كتاب سماه “المحيط” وشرط فيه بالأخذ المباشر من مورد الأحاديث والاعتماد على الحديث الصحيح ونبذ التمذهب، ثم شرع في التأليف على هذا النحو حتى بلغ الحافظ البيهقي ثلاثة أجزاء من الكتاب، فقام بواجب النصيحة للشيخ الجويني بكل إنصاف وصدق وآداب جمة في رسالة بعثها إليه فتقبلها الإمام الجويني بقبول حسن فترك التأليف.

وقفات مع أهم ملامح نصوص الرسالة

الوقفة الأولى: تعظيم الإمام البيهقي للسنة النبوية وأهلها

من تأمل رسالة البيهقي لأبي محمد الجويني ليجد سطورها معبرة عن مدى تعظيم الإمام البيهقي للسنة وعمق توقيره وإجلاله لها، وحبه لمن يرغب في تعليمها وإحيائها وحمايتها من الضياع والاندراس، وتمييز صحيحها من سقيمها، ولا سيما الفقهاء الذين بضاعتهم في علم الحديث والآثار قليلة ومزجاة، المعرضين عن منهج الإمام الشافعي في رواية الحديث قبولا وردا.

يقول رحمه الله: ” وكنت أسمع رغبة الشيخ رضي الله عنه في سماع الحديث والنظر في كتب أهله، فأشكر إليه، وأشكر الله تعالى عليه، وأقول في نفسي، ثم فيما بين الناس: قد جاء الله عز وجل بمن يرغب في الحديث ويرغب فيه من بين الفقهاء، ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم، من جملة العلماء، وأرجو من الله أن يحيي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار، حيث أماتها أكثر فقهاء الأمصار بعد من مضى من الأئمة الكبار الذين جمعوا بين نوعي علمي الفقه والأخبار، ثم لم يرض بعضهم بالجهل به حتى رأيته حمل العالم به بالوقوع فيه، والإزراء به والضحك منه وهو مع هذا يعظم صاحب مذهبه ويجله، ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله، ثم يدع في كيفية قبول الحديث ورده طريقته، ولا يسلك فيها سيرته، لقلة معرفته بما عرف، وكثرة غفلته عما عليه وقف، هل نظر في كتبه ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره، واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره! “

الوقفة الثانية: حسن الظن بالعلماء

كان الإمام البيهقي بين طيات سطور رسالته مثالا من أخلاق العلماء في حسن التعامل مع المصيب ومع المخطيء، وفي إحسان الظن بأهل العلم، والأمل لهم تحري الصواب وإصابة الحق، والبعد عن تتبع زلاتهم وإظهار أخطائهم، وانظر رحمك الله حسن ظنه بالإمام الجويني إذ يقول: “ثم إن بعض أصحاب الشيخ ـ أدام الله عزه ـ وقع إلى هذه الناحية فعرض علي أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى (بالمحيط) فسررت به ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار، لائقاً بما خص به من علم الأصل والفرع، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع

وإنه تمنحك هذه العبارة ما كان عليه العلماء من النقاء وانتفاء الغرض الشخصي وحسن القصد فيما بينهم.

الوقفة الثالثة: النصيحة المنسوجة بالأدب والتواضع

مما يسترعي الانتباه للتأمل والإمعان، أنه على رغم كون الإمام البيهقي يكتب هذه الرسالة نصيحة وتخطئة لمنهج الإمام الجويني في التعامل مع السنة النبوية، فإن ذلك لم تحرجه إلى الابتعاد عن التأدب، أو إلى إباحة الطعن والتهجم، وإنما تبرز لنا الرسالة كرم أصل الإمام البيهقي وسماحة نفسه، حيث استطاع الجمع بين أداء النصحية ورعاية حرمة الشيخ الجويني، وجعل حواره مع الشيخ حوارا علميا محترما، مليئا بالدعاء والأدب الجم من البداية إلى النهاية، ومن نماذج ذلك قوله: “سلام الله ورحمته على الشيخ الإمام،… فقلبي للشيخ -أدام الله عصمته- وادٍ، وبأيامه معتد، ولساني له بالخير ذاكر،..

الشيخ -أدام الله عزه-…

الشيخ -حرس الله مهجته-

أدام الله عز الشيخ

الشيخ -أبقاه الله 

الشيخ -حفظه الله

الشيخ -أدام الله توفيقه…الخ.

وهكذا الحرص الشديد من الإمام البيهقي على التقيد بمنهج الأدب مع تحقيق الغاية.

الوقفة الرابعة: في أهمية احترام التخصص

عزز الإمام البيهقي مبدأ أهمية احترام أهل التخصص في مطلع رسالته قبل خوضه في التنبيهات على أخطاء الإمام الجويني، وقرر ذلك بطريقة هادئة لبقة، تجنبا من إثارة حفيظة الشيخ الجويني، حيث يقول:

“وقد علم الشيخ -أدام الله توفيقه- اشتغالي بالحديث، واجتهادي في طلبه، ومعظم مقصودي منه في الابتداء: التمييز بين ما يصح الاحتجاج به من الأخبار، وبين ما لا يصح، حين رأيت المحدثين من أصحابنا يرسلونها في المسائل على ما يحضرهم من ألفاظها، من غير تمييز منهم بين صحيحها وسقيمها. ثم إذا احتج عليهم بعض مخالفيهم بحديث يشق عليهم تأويله، أخذوا في تعليله، بما وجدوه في كتب المتقدمين من أصحابنا تقليداً. ولو عرفوه معرفتهم، لميزوا صحيح ما يوافق أقوالهم من سقيمه، ولأمسكوا عن كثير مما يحتجون به، وإن كان يطابق آراءهم، ولاقتدوا في ترك الاحتجاج برواية الضعفاء والمجهولين بإمامهم، فشرطه فيمن يقبل خبره عند من يعتني بمعرفته- مشهور، وهو بشرحه في كتاب ((الرسالة)) مسطور، وما ورد من الأخبار بضعف رواته أو انقطاع إسناده كثير، والعلم به على من جاهد فيه سهل يسير.

يلاحظ أسلوب الإمام البيهقي في هذا الطرح كيفية إشادته بقاعدة التزام حدود التخصص وتوصيفه وبيانه لخطورة اقتحام مجال علم الحديث بلا دراية كافية ولا خبرة واسعة، وعضد ذلك بالواقع المشاهد من تصرفات بعض الشافعية المحدثين الذين يضيق عليهم الخناق إذا احتج عليهم بصحيح السنة فيحاولون ردها بطريقة تقليدية غير علمية، ومخالفة لمنهج المحدثين الذى عليه الإمام الشافعي، وذكر بعض الأمثلة في رد الإمام الشافعي للحديث اتباعا لمذهب القدماء من أهل الآثار، وكأن الإمام البيهقي بدأ بهذه المقدمة حماية لحرمة السنة وصونا لهيبتها وأصولها وتنويها بذلك لدى الجويني، لأنه إمام في الفقه والأصول وعلم الكلام، ولم يكن عالما بالحديث ومن ثم وقع منه الأخطاء الحديثية مع عبقريته، وهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن ينأ بنفسه من الخوض في غير فنه وأن لا يثق أو يعتمد على مجرد ذكائه.

الوقفة الخامسة: أهم المباحث العلمية المنتقدة على الإمام الجويني

كان انتقاد الإمام البيهقي على الإمام الجويني في كتابه “المحيط” على بعض قضايا حديثية، وفقهية، ومنهجية، وملخصه فيما يلي:

أولا:- تساهله واستدلاله بالحديث الضعيف.

وفي أكثر من موضع في هذه الرسالة أشار البيهقي إلى تساهل الجويني في رواية الحديث، وفي الاحتجاج به، إما تقليدا أو لقصور الباع في علم الحديث.

ومثال ذلك: قول البيهقي:” إن بعض أصحاب الشيخ -أدام الله عزه- وقع إلى هذه الناحية، فعرض علي أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى بـ: ((المحيط)) ، فسررت به، ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار…فإذا أول حديث وقع عليه بصري: الحديث المرفوع في (النهي عن الاغتسال بالماء المشمس) ! فقلت -في نفسي-: يورده، ثم يضعفه، أو يضجع القول فيه.

” …. قد شرك الشيخ -حرس الله مهجته- القوم فيما أحدثوا من المساهلة في رواية الأحاديث، وحسبته سلك هذه الطريقة فيما حكي لي عنه من مسحه وجهه بيديه في قنوت صلاة الصبح؛ وأحسن الظن برواية من روى: مسح الوجه باليدين بعد الدعاء” ثم ذكر طرق الحديث ومن ضعفها وأنه لم يثبت فيه أثر.

ويقول في موضع آخر: ” وقد حكى الشيخ أدام الله عزه في مسألة التسمية عن بعض الحفاظ: أنه سمعه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيمن نسي التسمية على الطعام ثم تذكرها: أنه يقرأ سورة الإخلاص. فتقوم مقام التسمية على أول الطعام”.

فقلت: يا ليته نسي هذا، وحفظ….عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:… فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يسمي في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره”.

ثانيا: عدم تفريق الإمام الجويني بين صيغة الجزم وصيغة التمريض عند إيراده للحديث غير الثابت. فصيغة الجزم موضوعة للخبر المقبول، بينما وضعت صيغة التمريض لما عداه.

يقول البيهقي:” يملي في مثل هذه الأحاديث – يعنى غير الثابتة -:” روي عن فلان” ولا يقول:”روى فلان”؛ لئلا يكون شاهداً على فلان بروايته من غير ثبتٍ.

ثالثا: التنبيه على رد الحديث أو قبوله بدعوى اختلاف الحفاظ في تصحيح الأخبار وتضعيفها دون الفهم الدقيق لمنهجهم، وهذا شبيه بمسلك من خالفنا في أصول الديانات في الاحتجاج علينا باختلافنا في المجتهدات، ثم قال البيهقي:” واختلاف الحفاظ في ذلك لا يوجب رد الجميع، ولا قبول الجميع، وإن من سبيله أن يعلم أن الأحاديث المروية على ثلاثة أنواع:

1- نوع اتفق أهل العلم به على صحته.

2- ونوع اتفقوا على ضعفه.

3- ونوع اختلف في ثبوته، فبعضهم يضعف بعض رواته بجرح ظهر له، وخفي على غيره، أو لم يظهر له من عدالته ما يوجب قبول خبره، وقد ظهر لغيره، أو عرف منه معنى يوجب عنده رد خبره، وذلك المعنى لا يوجبه عند غيره، أو عرف أحدهما علة، حديث ظهر بها انقطاعه، أو انقطع بعض ألفاظه، أو إدراج، لفظ من ألفاظ من رواه في متنه، أو دخول إسناد حديث في إسناد غيره، خفيت تلك العلة على غيره، فإذا علم هذا، وعرف بمعنى رد منهم خبرًا أو قبول من قبله منهم هذا الوقوف عليه، والمعرفة به إلى اختيار أصح القولين.

رابعا: حكاية الإمام الجويني عن بعض أصحاب الحديث: أنه اشترط في قبول الأخبار بأن يروي عدلان، عن عدلين، عن عدلين، حتى يتصل مثنىً مثنىً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر قائله!.

ويقول البيهقي مستدركا على هذا النقل:” والذي عندنا من مذهب كثير من الحفاظ، وعليه يدل مذهب الإمامين: أبي عبد الله البخاري، وأبي الحسين النيسابوري: أنهما إنما يشترطان أن يكون للصحابي الذي يروي الحديث راويان فأكثر؛ ليخرج بذلك عن حد الجهالة، وهكذا من دونه. ثم إن انفرد أحد الراويين عنه بحديث، وانفرد الآخر بحديث آخر، أو بحكاية، أو جرى له ذكر في حديث آخر، قبل.

خامسا: اعتبار الشيخ الجويني الأحاديث المراسيل من ترجيحات لا تقوم الحجة بها، سوى مرسل سعيد بن المسيب، خلافا لما عليه الشافعي من قبول المراسيل إذا اقترن بها ما يشهدها من الأسباب، وإنه قبل “مرسل التابعي إذا أسنده حافظ غيره أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأول أو كان يوافق قول بعض الصحابة، أو أفتى عوام أهل العلم بمعناه[1]، وتستوى هذه الشروط عند الشافعي في مرسل سعيد بن المسيب وغيره، ولذا ذكّر البيهقي الجوينى بعض المسائل التي بنى الشافعي عليها مراسيل غير سعيد بن المسيب حين اقترن بها الشرط، كقبوله بمرسل الحسن في كتاب ((الصرف)) ، في النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، فيكون له زيادته، وعليه نقصانه..وأنه ترك من مراسيل سعيد بن المسيب لما لم يقترن به ما يشده من الأسباب التي ذكرها، كحديث ” أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر مدين من حنطة” وغير ذلك من الحديث.

سادسا: تذكير أبو بكر البيهقي أبا محمد الجويني بخطورة الخوض في الروايةعن النبي صلى الله عليه وسلم من غير تمييز صحيحها عن سقيمها، ويقول:” ولعل الشيخ -أدام الله توفيقه- يحفظ…. عن عمرو بن ميمون، قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود قال آدم: سنة ما سمعته يحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حدث بحديثٍ يوماً، فجرى على لسانه:” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” فعلاه كربٌ، حتى رأيت العرق يتحدر عليه!

ثم قال:” إن شاء الله: إما فوق ذا، وإما قريب من ذا، وإما دون ذا”. فقال البيهقي معلقا:” فهذا طريق من علم ما في الرواية من غير ثبتٍ من الشدة.” ثم ذكر بعض آثار السلف المروية في هذا الباب، كقول عبد الرحمن بن مهدي:” احفظ: لا يجوز أن يكون الرجل إماماً: حتى يعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم مخارج العلم.

سابعا: عدم التثبت في النقل وحكاية ألفاظ الإمام الشافعي، ومثل ببعض نقول عن المزني عن الشافعي من غير تثبت مما قد يؤدي إلى تخطئة المزني فيما هو منه بريئ. وقال البيهقي: ومثال ذلك من الأجزاء التي رأيتها من كتاب المحيط من أوله إلى مسألة التفريق: أن أكثر أصحابنا – والشيخ، أدام الله عزه، معهم- يوردون الذنب في تسمية البحر بالمالح إلى أبي إبراهيم المزني. ويزعمون أنها لم توجد للشافعي، رحمه الله تعالى، وقد سمى الشافعي البحر مالحًا في كتابين، قال الشافعي في أمالي الحج في مسألة كون المحرم في صيد البحر كالحلال: والبحر إما العذب وإما المالح. قال الله تعالى: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ (الفرقان: 53).

ثامنا: التنبيه على بعض المسائل التى خالف فيها الجوينى الصواب، كتجويزه “لتحلية الدابة بالفضة” وبين البيهقي صعف مأخذ الشيخ في المسألة، وكذا تجويزه “المكتوبة على الراحلة الواقفة، إذا تمكن من الإتيان بشرائطها” مع ما في النزول للمكتوبة في غير شدة الخوف من الأخبار والآثار الثابتة، وعدم ثبوت ما روي في مقابلتها دون الشرائط التي اعتبرها!.

الوقفة الأخيرة: مع شجاعة الإمام الجويني تجاه انتقادات الإمام البيهقي

لما انتهى الإمام البيهقي من كتابة ملاحظاته على كتاب “المحيط” للإمام الجويني، لم ينشرها على الملأ بين الناس بل بعثها في الرسالة إلى مؤلف الكتاب، فلما وصلت  أبا محمد الجويني وقرئت عليه، قال: ” هكذا يكون العلم، وترك تمام التصنيف”.ولم يغمط الحق لما تبين له، كما لم يتكابر، فهذا هو الخلق النبيل الذى لا يقدر عليه إلا أهل الفضل من أهل العلم، وإنه لموقف مخالف للهوى ومجانب حظوظ النفس، وتقرير لمبدأ قبول النصيحة من أي كائن، والتمسك بالصواب إذا ظهر، لأن العلماء الربانيين عرفوا بأن التراجع عن الخطإ ليس فضيحة وإنما فضيلة ورفعة وأمر يُحمد، وهذا جانب من جوانب تاريخ علمائنا التى يجب إبرازه وأن يتربى عليها النفوس.


[1] مناقب الشافعي 2/ 31.