أعظم ما وصف به شهر رمضان المبارك أن القرآن الكريم نزل فيه، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، والمقصود بالنزول هنا هو نزوله الأول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وذلك كان في ليلة واحدة، قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]؛ وهي ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وتحدّث المولى عزّ وجلّ في كتابه عن عظمة القرآن الكريم، ومن خلال آياته الحكيمة نبيّن هذه العظمة من خلال مقالين متتاليين، وإليك التفصيل:

1ـ ثناء الله على كتابه:

أثنى الله تعالى على كتابه العزيز في آيات كثيرة، ممّا يدلُّ على عظمته؛ فقد وصفه «بالعظيم» في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقرآن الْعَظِيمَ *}[الحجر: 87].

ووصفه «بالإحكام» في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ*} [هود: 1].

وذكر هيمنته على الكتب السابقة في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وهذا الكتاب هو المهيمن الحافظ لمقاصدِ الكتب المنزلةِ قبله، الشاهد المؤتمن على ما جاء فيها، يُقِرُّ الصحيحَ فيها، ويُصحّحُ الخطأ.

ووصفه في أم الكتاب بأنه «عليٌّ حكيم» في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ*} [الزخرف: 4]. فهذه شهادةٌ من الله تعالى بعلوِّ شأن القرآن وحكمته، ولا ريبَ أنَّ من عظمة القرآن أنه «عليٌّ» في محلّه، وشرفه، وقدره، فهو عالٍ على جميع كتب الله تعالى، بسبب كونه معجزاً باقياً على وجه الدهر. ومعنى الحكيم: المنظومُ نظماً متقناً، لا يعتريه أيُّ خللٍ في أي وجهٍ من الوجوه، فهو حكيمٌ في ذاته، حاكمٌ على غيره،

والقرآن «حكيم» كذلك فيما يشتمل من الأوامرِ، والنواهي، والأخبار، وليس فيه حكمٌ مخالِفٌ للحكمة والعدل والميزان.

ومن ثناء الله تعالى على القرآن أن وصفه في ثلاث سور بأنه «كتاب مبارك». قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ *} [الأنعام: 92]. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [الأنعام: 155]. وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ *} الأنبياء: 50]. وبركة هذا الكتاب تمتدّ إلى يوم القيامة، وعطاؤه نامٍ لا ينفد .. يواكِبُ الحياة بهذا العطاء، ثم يأتي شفيعاً لأصحابه.

2 ـ عظمة مُنَزِّلِهِ سبحانه وتعالى:

العظيم: ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه عزّ وجلّ، والعظمةُ صفةٌ من صفاتِ الله، لا يقومُ لها خلق، والله تعالى خلق بين الخلق عظمةً يعظم بها بعضُهم بعضاً، فمن الناس من يعظَّم لمال، ومنهم من يُعَظَّم لفضلٍ، ومنهم يعظَّمُ لعلمٍ، ومنهم من يعظَّم لسلطانٍ، ومنهم من يعظَّم لجاهٍ، وكل واحد من الخلق إنما يعظم بمعنى دون معنى، والله عزّ وجلّ يعظّم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرفَ حقّ عظمة الله ألا يتكلّم بكلمةٍ يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله، إذ هو القائمُ على كلّ نفسٍ بما كسبت.

فالله تعالى هو العظيمُ المطلق؛ لأنّه عظيمٌ في ذاته وأسمائه وصفاته كلها، فلا يجوزُ قَصْرُ عظمته على شيءٍ دون شيءٍ منها، لأنَّ ذلك تحكم لم يأذن به الله. (عظمة القران الكريم ص 60)

فمن عظمته تعالى: أنّه لا يَشُقُّ عليه أنّ يحفظ السماواتِ السبع والأرضين السبع، ومن فيها، وما فيها، كما قال تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ *} [البقرة:  255].

وتتجلّى عظمةُ القرآن العظيمِ في عظمة مُنزِّله جلّ جلاله، ويتّضحُ ذلك جلياً في عِدّة آيات، منها:

قوله تعالى: {الم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ *} [السجدة: 1 ـ 3].

وقوله تعالى: {حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [الجاثية, الأحقاف: 1 ـ 2].

3 ـ فضلُ جبريل الذي نزل بالقرآن:

نوّه الله تعالى بشأن من نزل بالقرآن على رسولنا محمد ، وهو جبريلُ عليه السلام، أمينُ الوحي الإلهي، وذكر فضله في عدة آيات، منها:

قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *} [النحل: 102].

وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *} [الشعراء: 192 ـ 194].

وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بخمس صفات في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *} [التكوير: 19 ـ 21].

وهذه الصفاتُ الخمسُ تتضمّن تزكيةَ سندِ القرآن العظيم، وأنّه سماعُ نبينا محمد من جبريل عليه السلام، وسماع جبريل الأمين من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علواً وجلالة. (عظمة القران الكريم ص 93)

4 ـ القرآن تنزيل رب العالمين:

قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *} [الشعراء: 192 ـ 193].

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *} [القدر: 1].

وفيه ضميرُ العظمةِ، وإسنادُ الإنزال إليه تشريفٌ عظيم للقرآن.

من عظمة القرآن أنّه نزل من الله تعالى وحده لا من غيره، لنفع الناس وهدايتهم، فاجتمعت في القرآن العظيم فضائل، منها:

 • أنه أفضل الكتب السماوية.

• نزل به أفضل الرسل وأقواهم، جبريل الأمين على وحي الله تعالى.

•  نزل على أفضل الخلق محمد .

• نزل لأفضل أمة أخرجت للناس.

• نزل بأفضل الألسنة وأفصحها، وأوسعها، وهو اللسان العربي المبين.

1. القرآن مستقيم ليس فيه عوج:

قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا *قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَناً *} [الكهف: 1 ـ 2].

ونفي العوج عن القرآن له عدة أوجه، منها:

الأول: نفي التناقض عن آياته، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء: 82].

الثاني: إن كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف، وهو حق وصدق، ولا خلل في شيء منه البتة.

وأخبر تعالى كذلك عن القرآن أنّه ليس فيه تضاد، ولا اختلاف، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر، فقال تعالى: {قرآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]، أي: ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه، لا في ألفاظه، ولا في معانيه، وهذا يستلزمُ كمال اعتداله واستقامته.

فقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بأوصاف عظيمة تدلُّ على أنه كامل من جميع الوجوه، وعظيم بكل ما تعبر عنه الكلمات، منها:

  • نفيُ العوج عنه: وهذا يقتضي أنّه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلمٌ ولا عبثٌ.
  • إثبات أنه مستقيم مقيم: فالقرآن العظيم مستقيم في ذاته، مقيم للنفوس على جادّة الصوّاب، وإثبات الاستقامة يقتضي أنه لا يُخبرُ ولا يأمر إلا بأجلّ الأخبار، وهي الأخبار التي تملأ القلوب معرفةً، وإيماناً، وعقلاً، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله، والإخبار بالغيوب المتقدّمة والمتأخرة، وأن أوامره ونواهيه،

تزكي النفوسَ وتطهرها وتنمّيها وتكمّلها لاشتمالها على كمال العدل، والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين، وحده لا شريك له، فحقيق بكتاب موصوف بما ذُكر، أن يَحمد الله تعالى نفسه على إنزاله، وينفي العوج عن القرآن الكريم، وإثبات استقامته فتتجلّى عظمته، وعلوّ شأنه، ومنزلته عند الله. (عظمة القران الكريم ص 70)

2. خشوع الجبال وتصدُّعها:

قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} الحشر: 21] أي: لاتّعظ الجبلُ، وتصدّعَ صخرُه، من شدّة تأثره من خشية الله، ففي هذا: بيانُ حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشمَّ، وحجراً أصمّ، وضُرب التصدّعُ مثلاً لشدة الانفعال والتأثر؛ لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشق وتتصدّع، ولا يحصل ذلك بسهولة.

والخشوعُ: هو التّطأطؤ والرّكوع، أي: لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.

والتصدّع: التشقق، أي: لتزلزل وتشقق من خوف الله تعالى.

ولا شك أنَّ هذا تعظيمٌ لشأن القرآن، وتمثيلٌ لعلوّ قدره، وشدّة تأثيره في النفوس، لما فيه من بالغِ المواعظ والزواجر، ولما اشتمل عليه من الوعد الحقّ، والوعيد الأكيد، فإذا كان الجبلُ في غلظته وقساوته لو فهم هذا

القرآن كما فهمتموه ـ لخشع وتصدّع من خوف الله تعالى، فكيف يليقُ بكم أيُّها البشر ألاّ تلينَ قلوبكم وتخشعَ وتتصدّعَ من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبّرتم كتابه، والمقصود من إيراد الاية: إبرازُ عظمةِ القرآن الكريم، والحثُّ على تأمل مواعظه الجليلة، إذ لا عذر لأحد في ذلك، وأداء حق الله تعالى في تعظيم كتابه، وتوبيخ من لا يحترمُ هذا القرآن العظيم، وفيه كذلك تمثيل وتخييل لعلوِّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ.

3. انقياد الجمادات لعظمة القرآن:

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31].

فهذا شرطٌ جوابُه محذوف، والمرادُ منه: تعظيمُ شأن القرآن العظيم.

والمعنى: ولو أنَّ قرآناً سُيرت به الجبال عن مقارّها، وزُعزعت عن مضاجعها، أو قُطّعت به الأرض حتى تتصدّع وتتزايل قِطَعاً، أو كُلم به الموتى، فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن، لكونه غاية في التذكير، ونهاية في التخويف.

والمقصود: بيانُ عظم شأن القرآن العظيم، وفساد رأي الكفرة، حيث لم يقدّروا قدره العلي، ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره، مما أُوتي موسى وعيسى عليهما السلام . فالمعنى: أي: بإنزاله أو بتلاوته {وَلَوْ أَنَّ قرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ}، وزعزعت عن مقارها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام أي: شققت وجُعِلت أنهاراً {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ}، كما فعل بالحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه، أو جعلت قِطَعاً متصدّعة أي: بعد {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أحييت بقراءته عليها، كما أُحييت لعيسى عليه

السلام، لكان  هذا القرآن، لكونه الغاية القصوى في الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته.

4. تحدي الإنس والجن بالقرآن:

من مظاهر عظمة القرآن وعلوِّ شأنه، أنّ الله تعالى تحدّى الإنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثله، أو بعشرِ سورٍ من مثله أو بسورةٍ مثله. (عظمة القران الكريم ص 73)

قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء 88].

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [هود: 13 ـ 14].

ومع ذلك كله، ما ثابوا إلى رشدهم، وما وجدوا ما يتكلّمون به، فعادوا لما نهوا عنه، وقالوا: «اختلقه محمد عمداً»، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون، ووصل بهم إلى غايةِ التّبكيت والخذلان، وتحدّاهم أن يأتوا بسورةٍ مثلَ القرآن فعجزوا.

قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [يونس: 38].

ولما بُهِتَ الذين كفروا؛ ولم يستسلموا؛ صاروا كالذي يتخبّطه الشيطانُ من المسِّ، مرةً يقولون استهزاء: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ *} [الأنفال: 31] وأخرى يقولون عابثين: {ائْتِ بِقرآن غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].

وصار أمرُهم على ما يقول الله العظيم: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ *} [يونس: 39].

فهذا القرآن العظيمُ ليس ألفاظاً وعباراتٍ يحاول الإنس والجن أن يحاكوها، كلا وربّي، إنّه كلام الله تعالى، الذي تحدّى به الخلق كلهم، فقال عزّ من قائل حكيم: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء: 88].

فهذا تنويهُ بشرفِ القرآن وعظمتِه، وهذه الآية ونحوها تُسمّى آيات التحدي، وهو تعجيزُ الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم، أو سورة منه.

وكيف يقدرُ المخلوقُ من ترابٍ أن يكون كلامُه ككلام ربّ العالمين؟! أم كيف يقدِرُ الناقصُ الفقيرُ من كل الوجوه أن يأتيَ بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق، والغنى الواسع من جميع الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان؛ ولا في قدرة الإنسان، وكل مَنْ له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء؛ ظهرَ له الفرق العظيم.

فعظمةُ القرآن، وعلوُّ شأنه، لا تجعل للخَلْق من إنسٍ وجِنٍّ مطمعاً في الإتيان بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. (عظمة القران الكريم ص 77)


المراجع

ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “الإيمان بالقرآن الكريم”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: “عظمة القرآن الكريم”، لمحمود الدوسري.

1 – عظمة القرآن الكريم، محمود الدوسري، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 2014م.

2 – أركان الإيمان: الإيمان بالقرآن الكريم، علي محمد الصلابي.

3 – التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور.