يثير موضوع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أهمية بالغة لدى العلماء والمفكرين من المسلمين وغير المسلمين، وذلك لما يبدو فيه من غرابة تبعث على العجب وتدعو إلى التساؤل: متى كان نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يتميز عن غيره من المسلمين، ويبيح لنفسه ما يحرمه على غيره؟ ولماذا يكون عدد الزوجات محدودًا بأربع لجميع المسلمين، وتقيد الزيادة عن واحدة بشروط خاصة وفي أحوال خاصة، بينما الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحده هو الذي يتمتع بحرية مطلقة في هذا المجال.
وقد انتهز المفكرون من الأجانب هذه الفرصة وحسبوا أنها نقطة ضعف تشين محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- فأخذوا يوجهون سهامهم المسمومة، ويطعنون في خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويشوهون من تاريخه الحافل بالفضائل ويقولون: إنه رجل تسيطر عليه الشهوة الجنسية وتملك زمامه، وإنه حينما وجد أن تقييد عدد الزوجات بأربع لا يطفئ غلته ولا يرضي إربته أطلق لنفسه العنان كما يشاء، فجمع إلى عصمته هذا العدد الضخم من النساء.
وكان من واجب المسلمين الذين يتصدون للكتابة عن تاريخ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجلوا غواشي الشك في مثل هذه النقطة الغامضة حتى لا تضل فيها الأفهام وتزلها الأقدام. وقد نشطوا لذلك -والحمد لله- على توالي العصور والأزمنة، وبينوا الدوافع القوية التي كانت تحيط بزواج الرسول صلى الله عليه وسلم من كل واحدة من زوجاته الكثيرات، والتي كانت تجعل هذا الزواج هادفًا إلى المصلحة العامة دون سواها. وأقاموا حجتهم على دعائم قوية من المنطق السليم فتتبعوا تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وما عُرف عنه من العفة والطهارة في كل فترة من فترات حياته بشهادة أعدائه قبل أصدقائه، وكيف مرت عليه فترة الشباب الحرجة دون أن يتزوج، ولم يعرف عنه خلال هذه الفترة ما عرف عن الكثير من أترابه ولداته، من النزق والطيش والانحراف العابث، بل كان في كل أحواله وظروفه مضرب المثل في الخلق الكريم والمسلك القويم، وبعد أن تزوج من السيدة خديجة وكانت قد بلغت الأربعين، وهو سن يعفّ عنه الكثير من الشباب، كان محمد صلوات الله وسلامه عليه راضيًا بها ومطمئنًا لها، وسعيدًا بالمعيشة معها، لأنه لا يطلب من الزوجة إلا الإخلاص والوفاء، وقد وجد في زوجته خديجة الغاية المرجوة من الإخلاص والوفاء.
وهكذا ظل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته خديجة حتى بلغ من العمر خمسين عاما، ثم توفيت السيدة خديجة فتزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- سائر نسائه في العقد السادس من حياته، وفي مثل هذا العمر تضعف الغريزة الجنسية حتى لدى الأشخاص العاديين الذين لا يرهقهم التفكير. فما ظنكم بمن حمل الأمانة الكبرى، ووُسدت له الإمامة الكبرى، ومن استغرقت رعيته وأمته كل دقيقة من تفكيره وكل لحظة من حياته؟ وماذا يمكن أن يبقى له من الطاقة حتى يصرفها في ملذاته، أو يقسمها على سائر زوجاته؟
ولكن هذا المنطق السليم لم يقنع هؤلاء السادرين في الغي والضلالة فضلوا في موقهم من نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يطلقون حوله التهم الكاذبة والأراجيف الباطلة. فماذا يمكن أن يُقال لمثل هؤلاء ما دام الحقد على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قد أكل قلوبهم؟
إلا أننا سنقول لهم، وبحق ما نقول:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ
ويشتكي الفم طعم الماء من سقم
إننا نقول لهم ذلك ما داموا لا يؤمنون بالقضايا المنطقية. فإذا تجاوزنا ذلك كله فليس يعيبنا أن نقول: إن هذه خصوصية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أباح الله له ذلك تأليفًا لقلوب القبائل التي يتصل بها برابطة النسب، وحتى لا ينحصر شرف الاتصال بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في دائرة محدودة، وحتى يتسع المجال لنشر الإسلام في أكبر عدد من قبائل العرب ممن يرتبطون بمصاهرة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
وحينما نزلت الآية الكريمة التي تقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (1)
حينما نزلت هذه الآية كان لا بد من تطبيقها على جميع المسلمين عدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وكان من يدخل في الإسلام يطلق ما يزيد على أربع من زوجاته إن كان تحت يده عدد أكبر؛ حتى إن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نساء، فتخلص مما زاد على أربع منهن (2).
وسواء أكانت هذه الآية قد نزلت قبل أن يزيد عدد نساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أربع أو نزلت بعد أن زاد عددهن، فإن المعروف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد ظل غير مقيد بعدد خاص، حتى نزل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} (3) .
فلم يتزوج بعد ذلك. وحينما لحق بربه كان في عصمته تسع نساء، فماذا عسى أن يكون موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الزوجات؟
إن أزواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أمهات المؤمنين، وقد أنزلهن الله هذه المنزلة السامية فقال سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (4).
وقد جعل الله من كرامة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنده ألا تتزوج واحدة من نسائه من بعده، فتحرم على الناس ذلك بقوله سبحانه في نفس السورة: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} (5).
وإذا كان الله قد حرَّم على نساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجن من بعده فكيف يطلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- النساء الزائدات عن الأربع ويقضي عليهن بالترمل أبدًا، بينما يباح الزواج لأية امرأة إذا طلقها زوجها؟
إن من حق زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي أم المؤمنين أن تظل طول حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابسة هذا الثوب الكريم الذي جمَّلها الله به تعويضًا لها عما يمكن أن يصادفها من حرمان لا تتعرض له غيرها من سائر زوجات المسلمين بعد وفاة أزواجهن.
وقد قضى الله بذلك حيث قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} (6).
فهذه الآية تقضي بألا يزيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عدد زوجاته(7) ، وألا يبدل زوجة بأخرى مهما كانت الظروف والأحوال (8).
ونعود فنقول لهؤلاء المرجفين الذين يتهمون النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه رجل شهواني: رويدكم أيها المضللون وحسبكم.
إن الرجل الشهواني لا يطيق أن يصبر على عدد معين من النساء، لأن يرى لذته في أن ينتقل من زوجة إلى زوجة فيقضي مع هذه أسبوعًا أو شهرًا، ثم يبحث عن أخرى ليقضي معها الوقت الذي يليه، وذلك أمر ميسور للأشخاص العاديين الذين يستجيبون لشهواتهم. فنرى الرجل منهم إذا أراد أن يتزوج بامرأة أعجبه حسنها، وكان تحت يده أربع نساء يطلق الرابعة، ثم يتزوج بمن يشاء وتظل هذه العملية تتكرر كلما صرخ سعار الشهوة في نفسه، وبهذه الطريقة يستطيع أن يتزوج بتسعين امرأة لا بتسع نساء.
أسباب زواج الرسول
ولا بد لنا الآن أن نذكر كلمة موجزة عن الأسباب التي دفعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الزواج بسائر زوجاته:
فأما السيدة خديجة بنت خويلد، وهي أولى زوجاته، فقد تعرضنا للحديث عن زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
وأما السيدة سودة بنت زمعة فقد كانت زوجة لرجل يقال له السكران بن عمرو، وقد أسلمت مع زوجها وهاجرا معًا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما مات زوجها وعادت إلى مكة كان أهلها لا يزالون على الشرك، وخشي الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يفتنوها عن دينها، فآثر الزواج بها؛ حمايةً لها من الفتنة وخوفًا عليها مما يمكن أن يلحقها من الأذى والعذاب (9).
وأما السيدة عائشة بنت أبي بكر فهي بنت الصاحب الأمين والصديق الصادق للرسول -صلى الله عليه وسلم. وقد كان زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها، أعظم أمنية يتمناها أبو بكر -رضي الله عنه- وتسعد بها نفسه، وكان من أعز أماني الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يستجيب للرغبة التي تمتلئ بها نفس صاحبه الوفي المخلص(10).
ولقد زاد هذا الزواج في توثيق الرابطة القوية التي كانت بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وكانت عائشة -رضي الله عنها- بما وهبها الله من ذكاء وفطنة وعقل راجح وجمال في الخُلق والخَلق، من أقوى الأسباب في تدعيم هذه الصحبة والأخوة النادرة المثال.
وأما السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب: فقد كان زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها جبرًا لخاطر صاحبه الكريم عمر، وغسلاً لما لحقه من إهانة بسبب ابنته. ذلك بأنها متزوجة من ابن حذافة وكان قد شهد بدرًا وأصيب فيها. وقد مات بعد هذه الغزوة، فلما انقضت عدتها عرضها عمر على أبي بكر فسكت. وفي عرض عمر لابنته وهو العربي الأبي على أبي بكر دليل الثقة المطلقة. وفي سكوت أبي بكر طعنة اشتد وقعها على عمر، فشكا ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عرض عمر على عثمان أن يتزوجها بعد موت زوجته رقية بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاعتذر عثمان. وكان اعتذاره بعد موقف أبي بكر طعنة ثانية اشتد وقعها على عمر.
فشكا ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان.
ثم تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السنة الثالثة من الهجرة، فأكرم بهذا الزواج صاحبه عمر، كما أكرم أبا بكر قبله بزواج عائشة (11).
وأما زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية: فقد تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأس واحد وثلاثين شهرًا من الهجرة، وكانت تُسمى في الجاهلية أم المساكين لبرها بهم وإطعامها لهم. ولما كان زوجها ممن استشهدوا في يوم بدر ولم يكن لها من بعده من يعولها، فقد تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليضرب المثل لأصحابه في التضحية، كي يقتدوا به في الزواج من أمثالها ممن فقدن أزواجهن في سبيل الله، وقد كانت كبيرة السن ولم تمكث مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- سوى ثمانية أشهر ثم لحقت بربها(12).
وأما جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية: فقد كانت من سبايا بني المططلق وكان أبوها سيد قومه.
وقد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها على مبلغ من المال ثمنًا لحريتها، فألجأتها الضرورة إلى أن تسأل أهل المروءة واليسار لجمع هذا المال، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن لجأت إليهم في ذلك، فنظر إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- نظرة عطف وحنان، وأحس نحوها بشفقة بالغة وقال لها: “هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك” (13).
فقبلت هذا العرض الكريم الذي يعلي قدرها ويرد كرامتها.
وتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكان زواجها خيرًا وبركة على سائر قومها. وذلك أن أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن علموا بهذا الزواج تسابقوا في إطلاق سراح السبايا والأسرى من بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أيدينا حتى لقد أعتقوا أهل مائة بيت من قومها. فأسلم بنو المصطلق جميعًا، وعرف الناس جمعيا مدى الأثر الحميد الذي ترتب على هذا الزواج (14).
وأما زينب بنت جحش: فهي بنت عمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحفيدة جده عبد المطلب، وقد تزوجت أول الأمر من زيد بن حارثة وهو الابن المتبنى للرسول -صلى الله عليه وسلم- فلما قضى زيد منها وطرًا زوجها الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وكانت زينب غير موافقة على زواجها من زيد بن حارثة، ولكن كانت رغبة.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوية في ذلك. وقد أيَّد الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- في إتمام هذا الزواج حيث نزلت الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (15).
فوافقت زينب على الزواج من زيد بعد نزول هذه الآية.
ولكن طبيعتها العربية كانت تتأبى عليها أن ترى في زيد كُفئا لها ولذا ساءت العشرة بينهما، وكان زيد كثيرًا ما يشتكي للرسول -صلى الله عليه وسلم- من إساءتها إليه فيقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم: “أمسك عليك زوجك واتقِ الله” (16).
ولما بلغ الأمر بزيد نهايته ولم يعد في قوس الصبر منزع كما يقولون طلقها زيد، وزوجها الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أي أمره بالزواج منها، وكان ذلك لحكمة تشريعية جليلة، وهي إبطال تلك العادة الفاسدة التي كانت تُحرم زواج المتبنِّي بزوجة ابنه المتبنَّى، وذلك لأن هذه البنوة ادعائية فلا يمكن أن تترتب عليها آثار البنوة الحقيقية (17).
أما ما ذهب إليه بعض المستشرقين من قولهم إنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ذهب إلى بيت زيد، فرأى زوجته في ثياب بيتها فوقع حبها في قلبه، وأن زيدا حينما أحس برغبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الزواج منها أراد أن يطلقها، فتظاهر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفض وقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله (18)، ولكنه كان يخفي في نفسه من حبها ورغبته فيها ما أبداه الله وأظهره فعلاً. وكان بهذا يخشى الناس في عدم إظهار حبها … إلخ.
فهذا كلام يتجافى مع سياق الآية الكريمة: لأن ختام الآية يُظهر السر في إرادة الله لهذا الزواج الذي ألزم الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- فهو سبحانه وتعالى يقول: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} (19).
والواقع أن الله -عز وجل- أراد أن يجعل من زينب بنت جحش رضي الله عنها، تطبيقًا عمليًا لمبدأ من مبادئ الإسلام يهدم ما كان عليه العرب في الجاهلية، وهو أن زوجة الابن المتبنَى لا تحرم بعد طلاقها على الوالد المتبنِّي، فقضى بأن يتزوج زيد من زينب على الرغم من رفضها من مبدأ الأمر، واضطرارها للموافقة بعد نزول الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (20)، إلخ الآية. ثم قضى بأن يتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد طلاق زيد لها.
وأما قوله تعالى {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، فليس معناه أنه كان يخفي حبها في نفسه ولا يظهر الحقيقة لزيد. وإنما يقصد به أنه كان يخفي أمر الله له بالزواج منها، ويخشى الناس. أي يخشى قول الناس تزوج محمد من زوجة متبناه(21)، ويؤكد ذلك قول الله تعالى {زَوَّجْنَاكَهَا} ، أي ألزمناك بالزواج منها، مع خوفك من عواقب هذا الزواج وعدم رغبتك فيه.
وأما أم سلمة: فهي هند بنت أبي أمية المخزومية. وقد كانت قبل زواجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- زوجًا لعبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وهو من المسلمين السابقين، وقد هاجرت إلى المدينة وتحملت كثيرًا من المتاعب والآلام، وكانت أول مسلمة هاجرت في سبيل الله.
وقد أُصيب زوجها في غزوة أُحد ثم مات شهيدًا، فعزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: “سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا”. قالت: ومن يكون خيرا من أبي سلمة (22). وقد خطبها كل من أبي بكر وعمر فلم تقبل، فخطبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتزوجها تكريمًا لجهادها، وإعانة لها على تربية أولادها، وقد كانت من أفضل أمهات المؤمنين.
وأما صفية بنت حيي بن أخطب: فقد كانت من يهود بني النضير، وقد قُتِل أبوها مع بني قريظة، وقتل زوجها في خيبر. فاصطفاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأعتقها وتزوجها، وقد أسلمت وأسلم بإسلامها كثيرٌ من أهلها (23). وكانت تتصل في نسبها بهارون عليه السلام. ولا شك أن شرف نسبها هو الذي دفع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الزواج منها؛ صيانةً لها عن هوان الرِّق ومذلته. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحافظ على شعورها وكرامتها. ومن ذلك ما روي من أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك. فشكت ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: ألا قلت لهما وكيف تكونان خيرًا مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى (24)؟ وما روي من أن السيدة زينب أم المؤمنين لقبتها مرة باليهودية، فهجرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرين كاملين عقوبة لها وتأديبًا(25).
وأما أم حبيبة: فهي رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وقد أسلمت هي وزوجها عبد الله بن جحش، وكانا من المهاجرين إلى الحبشة حينما اضطهد المسلمون في مكة.
ولكن زوجها غلبت عليه شقوته، فضل السبيل، وارتدَّ عن الإسلام.
أما هي فبقيت ثابتة على عقيدتها، وضربت بذلك مثلاً عاليًا في الشجاعة والتضحية والإخلاص لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وكان لا بد من إنقاذها من هذه المحنة وهي دار الغربة، بعيدة عن كل عون ومساعدة. فكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي ليزوجها له، فعقد له عليها بالحبشة ودفع لها الصداق نيابة عنه، وتولى عقدها خالد بن سعيد بن العاص وكان ابن عم أبيها(26). ثم رجعت إلى المدينة سنة سبع من الهجرة لتأخذ مكانها بين أمهات المؤمنين.
وأما ميمونة بنت الحارث الهلالية: فقد تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريقه عمرة القضاء، سنة سبع من الهجرة، وذلك تأليفًا لقلوب أهلها إلى الإسلام. وقد تم ذلك بالفعل فأسلم كثير منهم؛ نتيجةً لهذا الزواج، وهي آخر امرأة تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد قالت عنها السيدة عائشة: أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم. وكفى بهذه الشهادة من عائشة فخرًا لها وشرفًا(27).
وأما مارية القبطية: فهي جارية أهداها المقوقس حاكم مصر للرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد اتخذت مكانتها بين زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وولدت له إبراهيم(28).
وبعد وضوح الأسباب التي أدت إلى زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا العدد من النساء، والظروف التي حتمت هذا الزواج، وجعلته أساسًا لجمع الشمل وتأليف القلوب، يتبين لنا إلى أي حد يحاول أعداء الإسلام أن يلصقوا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأكاذيب والمفتريات ما هو منه براء.