قديمًا كانت القبائل والعائلات والأسر تتحرك بين البلاد فلا يمنعها مانع، إذ إن مفهوم الأمة الواحدة كان أكبر من الحدود، والمسلم والعربي كان يعتبر أي بلد تحت حكم المسلمين من بلاده التي يمكن أن ينتقل إليها، بل ويستقر ويعيش فيها.
فتجد الكردي يعيش في مصر، والمغربي يعيش في الشام، والحبشي يعيش في الجزيرة العربية… إلخ. هذا اليسر في التنقل والاستقرار كان من أسباب ازدهار الحركة العلمية في المنطقة العربية.
فلا يخلو بلد من عالم -أو عالمة- تُشد إليه الرحال، ويقصده طلاب العلم والفتيا.
وانتقال العلماء يكون سببًا في دفع التعصب، وسبيلاً لسعة الأفق؛ وذلك بالاطلاع على الآراء والمناهج المختلفة. وكانت المناظرات العلمية بين العلماء الوافدين وأصحاب البلد مما يثري الأفكار وينضجها.
ومن الأسر التي تجولت في المنطقة العربية أسرة المسندة المعمرة زينب بنت سليمان الإسعردي.
الاسم والنسبة : هي زينب بنت سليمان بن إبراهيم بن هبة الله بن رحمة الإسعردي([1]).
وهي تنتسب إلى (إِسْعِرْد)، ويقال لها -أيضًا: سِعِرْت، وسعرد، والتي تقع حاليًا في الجنوب الشرقي من تركيا، وقد ذكر الزبيدي أنها قرية بالشام([2])، وليس الأمر كذلك.
وهي بلدة انتسب إليها الكثير من العلماء والساسة والأدباء.
تاريخ المولد: لم يحدد العلماء تاريخ مولدها، بل لم يتطرقوا إليه أصلاً في ترجمتها، ولكنها على العموم قد ولدت في أواخر الربع الأول من القرن السابع الهجري.
أبوها : هي ابنة المحدث الفقيه الخطيب الزاهد أبي الربيع سليمان بن إبراهيم بن هبة الله بن رحمة الإسعردي.
و”رحمة” هو اسم أم جده، وبها قد عُرف جده.
وقد ولد سليمان الإسعردي سنة سبع وستين وخمسمائة -وقيل: سنة تسع وستين وخمسمائة- بإسعرد، ورحل منها، وطلب العلم فسمع بدمشق، وبمصر (القاهرة)، وبالإسكندرية.
وقد انقطع إلى الحافظ عبد الغني المقدسي مدة، وتخرج به، وسمع منه الكثير، وكتب بخطه كثيرًا.
وكان كثير الإفادة حسن السيرة.
ولم يبخل على ابنته زينب بعلمه؛ إذ إنه قد أسمعها الكثير -حسب قول المؤرخين.
وقد سئل عنه الحافظ الضياء فقال: خيّر ديّن ثقة.
وأقام ببيت لهيا، وتولى الخطابة والإمامة بجامعه.
وتوفي في الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وستمائة ببيت لهيا([3]).
أساتذتها ومشايخها : قد سمعت زينب بنت الإسعردي من الشيخ الإمام الفقيه الكبير مسند الشام سراج الدين الزبيدي صحيح البخاري، ومن شمس الدين أحمد بن عبد الواحد البخاري، وابن الصباح، وعلي بن حجاج السلفي، ومن المسند المعمر رحلة الوقت أبي المنجى بن اللتي البغدادي، وكريمة.
وأجاز لها أبو محمد الجوهري التاجر البغدادي المعروف بابن الأهوازي، وأبو عبد الله البغدادي، وخلق([4]).
تلامذتها وطلابها : سمع منها علماء كبار مثل: شيخ الإسلام تقي الدين السبكي، وشمس الدين الذهبي صاحب السير، و عماد الدين أبي عبد الله الدمياطي الشيخ الفرضي الإمام المحدث.
وسمع منها أبو عبد الله شمس الدين الغزولي “مسند الشافعي”([5]).
وسمع الشيخ العادل المقرئ الفاضل نور الدين علي بن عثمان منها من الخلعيات([6]).
ومن كبار رجال الدولة الذين سمعوا منها أحمد بن خضر بن عبد الرحمن نور الدين الشافعي، وهو أحد موقعي الدست([7]).
وممن سمع منها شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي المعروف بابن الأطروش([8]).
المذهب الفقهي : يغلب على ظني أن زينب بنت الإسعردي كانت حنبلية المذهب؛ إذ إن أباها كان حنبليًّا، وترجم له صاحب “ذيل طبقات الحنابلة”([9])، وتتلمذت هي على يد الشيخ الزبيدي الحنبلي مدرس مدرسة الوزير عون الدين بن هبيرة([10]).
وأما تلامذتها فكان منهم الحنبلي والشافعي.
المذهب الاعتقادي : كان أبوها سليمان الإسعردي في العقيدة على مذهب أهل الحديث والأثر (سلفي)، ويقال: إن البعض كانوا يؤذونه، فيكشطون الدال من الإسعردي، ويعجمون السين فيصير الأشعري، فيغضب لذلك([11]).
ولعلها تشربت من أبيها سليمان مذهبه هذا في العقيدة، وتركت المذهب الرسمي للدولة وقتها وهو المذهب الأشعري.
مناقبها : ذكر المؤرخون من مناقبها أنها تفردت بأشياء في الرواية([12]).
وأنها أحد من روى “صحيح البخاري” بالقاهرة عاليًا([13]).
طوافها بالبلاد :ولد أبوها سليمان بإسعرد في ديار بكر، ثم انتقل إلى الشام ومصر، ثم تولى الخطابة ببيت لهيا بدمشق، ومات فيها، لكن ابنته لم تعش في دمشق حتى مماتها، بل انتقلت إلى القاهرة ونزلتها، وأقرأت فيها، وفيها توفيت ودفنت، وإن كنت لم أقف على سبب تركها لدمشق ونزولها القاهرة([14]).
وفاتها : قد عمّرت المسندة زينب بنت الإسعردي، وقد تجاوزت الثمانين عند وفاتها، فقال المؤرخون: توفيت -رحمها الله تعالى- وهي في عشر التسعين([15]).
وكانت وفاتها بمصر في ذي القعدة سنة خمس وسبعمائة من الهجرة([16]).