لقد كان من نتاج هذه النهضة العلمية ظهور العديد من العلماء في مختلف العلوم والفنون، حيث كان لهم أثر بارز في مسيرة العلم ونشر الثقافة العربية والإسلامية، ومن بين هؤلاء شيخ الإسلام تقي الدِّين ابن دقيق العيد رحمه الله (625 – 702هـ)، أحد الفقهاء والعلماء والمحدثين البارزين الذين برزوا في عصر المماليك في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي.
هو شيخ الإسلام تقي الدِّين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مُطيع ابن أبي الطاعة القُشيري المنفلوطي الشافعي المالكي المصري، تفقه على والده في “قُوص” بصعيد مصر، وكان والده مالكي المذهب. ثم تفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فحقق المذهبين، وأفتى فيهما، وسمع الحديث، وولي قضاء الديار المصرية، ودرَّس بالشافعي ودار الحديث الكاملية.
المولد والنشأة
ولد ابن دقيق العيد في عرض البحر عندما كان والداه متوجهان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج في 25 من شعبان 625هـ، ولما قدم أبوه مكة حمله وطاف به البيت وسأل الله أن يجعله عالمًا عاملاً.
ونشأ ابن دقيق العيد في “قوص” بين أسرة كريمة في صعيد مصر، تعد من أشرف البيوت وأكرمها حسبا ونسبا، وأشهرها علما وأدبا، فأبوه أبو الحسن علي بن وهب عالم جليل، مشهود له بالتقدم في الحديث والفقه والأصول، وعُرف جده لأبيه بالعلم والتقى والورع، وكانت أمه من أصل كريم، وحسبها شرفًا أن أباها هو الإمام تقي الدين بن المفرج الذي شُدّت إليه الرحال، وقصده طلاب العلم.
وتعود سبب شهرته باسم ابن دقيق العيد، أن جده مطيعا كان يلبس في يوم عيد طيلسانا ناصع البياض، فقيل كأنه دقيق العيد، فسمي به، وعُرف مطيع بدقيق العيد، ولما كان علي بن وهب حفيده دعاه الناس بابن دقيق العيد، واشتهر به ابنه تقي الدين أيضا، فأصبح لا يُعرف إلا به.
بدأ ابن دقيق العيد طريق العلم بحفظ القرآن الكريم، ثم تردد على حلقات العلماء في قوص، فدرس الفقه المالكي على أبيه، والفقه الشافعي على تلميذ أبيه البهاء القفطي، ودرس علوم العربية على محمد أبي الفضل المرسي، ثم ارتحل إلى القاهرة واتصل بالعز بن عبد السلام، فأخذ عنه الفقه الشافعي والأصول، ولازمه حتى وفاته. ثم تطلعت نفسه إلى الرحلة في طلب العلم، وملاقاة العلماء، فارتحل إلى دمشق في سنة 660 هـ وسمع من علمائها ثم عاد إلى مصر.
استقر بمدينة قوص بعد رحلته في طلب الحديث، وتولى قضاءها على مذهب المالكية، وكان في السابعة والثلاثين من عمره، ولم يستمر في هذا المنصب كثيرًا، فتركه وولى وجهه شطر القاهرة وهو دون الأربعين، وأقام بها تسبقه شهرته في التمكن من الفقه، والمعرفة الواسعة بالحديث وعلومه، وفي القاهرة درس الحديث النبوي في دار الحديث الكاملية، وهي المدرسة التي بناها السلطان الكامل سنة 621 هـ ثم تولى مشيختها بعد ذلك، وكان على تبحره في علوم الحديث يتسدد في روايته، فلا يروي حديثًا إلى عن تحرٍّ واحتراز، ومن ثم كان قليل التحديث لا عن قلة ما يحفظه ولكن مبالغة في التحري والدقة.
مؤلفاته
لابن دقيق مؤلفات فقهية تنطق بعلو كعبه في هذا الميدان، منها “إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام” للعلامة الحافظ عبد الغني النابلسي وكتاب العمدة يحتوي على مجموعة من الأحاديث مبوبة على أبواب الفقه، مثل باب الطهارة وباب الوضوء، وباب التيمم، وقد قام ابن دقيق العيد بشرح الكتاب، فتصدى لبيان معاني الحديث، وما به من بيان، واستنبط ما فيه من أحكام، وأقوال الفقهاء فيه واختلافاتهم.
وإلى جانب هذا له “شرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه”، و”شرح مختصر الزبيدي في فقه الشافعية“، و”شرح مختصر ابن الحاجب في فقه المالكية”، غير أن هذه الكتب فُقدت ولم يصل إلينا منها شيء.
لكن أشهر مؤلفاته كتاب الإلمام الجامع لأحاديث الأحكام، في عشرين مجلداً، وهو من أعظم ما صُنف في مجاله. كما وضع في علوم الحديث كتاب الاقتراح في معرفة الاصطلاح.
و قد كان ابن دقيق ذا عزيمة عظيمة في التأليف.، وله كتب أخرى في مجالات متعددة نذكر منها: اقتناص السوانح، وشرح الأربعين النووية، والإمام شرح الإلمام.
كما له تصانيف في أصول الدين، وجملة من الفتاوى والمباحثات الفقهية والأصولية، لا يجمعها كتاب، وقد أورد السبكي في طبقات الشافعية نماذج منها، وقد صدرها بقوله: فوائد الشيخ تقي الدين ومباحثه أكثر من أن تُحصى، ولكنها غالبًا متعلقة بالعلم من حيث هو؛ حديثًا وأصولاً وقواعد كلية.
وبجانب امتيازه في التدريس والفقه والتأليف، خطيباً بارعاً، له ديوان شعر ونثر لا يخرج عن طريقة أهل عصره الذين عرفوا بالسجع والمحسنات البديعة.
قالوا عنه
قال عنه أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري الحافظ: “لم أرَ مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ، وكان للعلوم جامعاً، وفي فنونها بارعاً، مقدماً في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيراً بذلك شديد النظر في تلك المسالك.. وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، مبرزاً في العلوم النقلية والعقلية. نشأ في صمت وانشغال بالعلم.
ويصف ابن سيد الناس مكانة شيخه ابن دقيق العيد في هذا الفن بقوله :”وكان للعلوم جامعًا، وفي فنونها بارعًا مقدمًا في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفردًا بهذا الفن النفيس في زمانه”.
وذكر الأدفوي في الطالع السعيد: “حكت زوجة أبيه، بنت التيفاشي، قالت: بنى عليّ والده، والشيخ تقي الدين ابن عشر سنين، فرأيته ومعه هاون وهو يغسله مرات زمناً طويلاً، فقلت لأبيه: ماهذا الصغير يفعل؟ فقلت له: يا محمد أي شيء تعمل؟ فقال: أريد أن أركّب حبراً، وأنا أغسل هذا الهاون”.
ويقول الأدفوي: ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد، ومن تأمل كلامه علم أنه أكثر تحقيقًا وأمتن وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم وأتقن.
وقد وصفه كثير من المؤرخين وكتّاب التراجم والطبقات كالسبكي وابن فضل الله العمري والأدفوي وغيرهم: بأنه لم يزل حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه.. وقف نفسه على العلوم وقصدها، فأوقاته كلها معمورة بالدرس والمطالعة أو التحصيل والإملاء.
مجدد المائة
روى أبو داوود رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال (إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وقد اتفقت الكلمة واتحدت عند العلماء المعاصرين لابن دقيق العيد بأنه مجدد تلك المائة، والإمام المقدَّم بالعلم والفتوى والزهد والقضاء، وحينما توفي قاضي القضاة في مصر، وهو التقيّ عبد الرحمن ابن بنت الأعز، وخلا بموته هذا المنصب وذلك في عهد السلطان منصور بن لاجين أشار أحد المقربين إلى هذا السلطان قائلاً: ألا أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم؟
قال له: نعم.
قال: عليك بابن دقيق العيد.
ويذكر عدد كبير من المؤخرين أن ابن دقيق العيد كان على رأس المائة السابعة الذي حدد للأمة أمر دينها بعلمه الغزير واجتهاده الواسع، وشهد له معاصروه بالسبق والتقدم في العلم، فقد كان ضليعًا في جميع العلوم اللغوية والشرعية والعقلية، ويؤكد السبكي ذلك فيقول: ولم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، المشار إليه في الحديث النبوي، وأنه أستاذ زمانه علمًا ودينًا.
الأديب وقاضي القضاة الصارم
كان ابن دقيق العيد على انشغاله بالفقه والحديث أديبا بارعا، وخطيبا مفوها، ولو انصرف إلى الأدب لكان له منزلة ومكانة، ويجمع معاصروه على براعته في الخطابة وتفوقه فيها، فكان يملك أفئدة الناس بأسلوبه المؤثر ونبراته الصادقة، وعظاته البالغة.
كما تولى ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة في أخريات حياته في 18 من جمادى الأولى 695 هـ بعد وفاة القاضي ابن بنت الأعز، وقبله بعد تردد وإلحاح، وكانت فترة توليه القضاء على قصرها من أكثر سنين عمره خطرا وأعظمها شأنا، فقد أصبح على اتصال وثيق بالسلطان وكبار رجال الدولة، لكن كان له من ورعه ودينه وعلمه ما يجعله يجهر بالحق ويدافع عنه، فلا يقبل شهادة الأمير لأنه عنده غير عدل، وإن كان الكبراء والعلماء يتملقونه ويقتربون إليه،
ولطالما كانت العلاقة بين الفقيه والسلطان علاقة جدلية ومتجذرة في التاريخ، فالأول يحقق مبادئ الدين، ويُحاجج لضمان بقائها وانتشارها والركون إليها كمرجع لا محيد عنه، والسلطان يرى في الفقيه منافسا يحد من جموحه ورغباته، وغالبا ما كان يدخل في صدام معه في حال لم يشرعن ما يريده في صورة فتاوى وآراء ومواقف دينية تُقنع الجماهير، وتجعلهم يقبلون أفعال السلاطين كمسلَّمات. فقد أثمرت ظاهرة “فقيه السلطان”، عبر تجلياتها المتعددة ومساراتها التاريخية، ذلك الفقيه الذي طالما جعل الأوامر السلطانية كالشريعة الإلهية، لكن ابن دقيق لم يكن من هؤلاء. فقد كان من الفقهاء النوادر الذين واجهوا السلطة المملوكية في أشد لحظاتها قوة وبطشا بثبات وثقة وقوة لافتة، وكان معاصرا للعلامة عز الدين بن عبد السلام الذي كان من جملة كبار العلماء الذين واجهوا السلطة الأيوبية في لحظات بطشها وظلمها في دمشق، ثم في القاهرة أيضا حين لجأ إليها، ولم يمنعه لجوؤه وكرم السلاطين والأمراء المماليك نحوه أن يوجّه سهام النقد إليهم حين دعت الحاجة إلى ذلك، انطلاقا من المسؤولية العلمية والأخلاقية التي كان يدركها تمام الإدراك.
ويذكر له وهو في منصبه أن رفض قيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون بجمع المال من الرعية لمواجهة التتار، معتمدا على الفتوى التي أصدرها العز بن عبد السلام بجواز ذلك أيام سيف الدين قطز، وقال للسلطان: إن ابن عبد السلام لم يفت في ذلك إلا بعد أن أحضر جميع الأمراء كل ما لديهم من أموال، ثم قال له في شجاعة: كيف يحل مع ذلك أخذ شيء من أموال الرعية، لا والله لا جاز لأحد أن يتعرض لدرهم من أولاد الناس إلا بوجه شرعي، واضطر السلطان أن يرضخ لكلام القاضي ابن دقيق، الذي ارتفع بمنزلة القاضي وحافظ على كرامة منصبه، فتطبيق الأحكام الشرعية هو سبيله إلى العدل دون تفرقة، والالتزام بالحق هو الميزان الذي يستعمله في قضاياه وفتاواه.
الدقيق في كلام ابن دقيق
يعتبر الامام والعالم ابن دقيق رحمه الله من أهل النظر الدقيق والتأصيل العميق في علم (الفقه وأصوله).
وله من دقيق التصوير وبديع التأصيل ما يشهد له، وقد كان الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله يهتم بجمع كلامه و القواعد التى يذكرها و الضوابط التى يسردها في أول طلبه .وقد تجمع لدينا بعض هذه الأصول والضوابط التى ذكرها ابن دقيق رحمه الله في كتبه وهي متعلقة بالاصول الكلية او الضوابط العامة وليست خاصة بضابط عند مذهب دون آخر او متعلقة بمسألة دون مسائل، وهي مما تفرد به ابن دقيق قدر الامكان:
- قال ابن دقيق رحمه الله : “متى دار الحكم بين كونه تعبدا أو معقول المعنى كان حمله على كونه معقول المعنى أولى ، لندرة المتعبد بالنسبة الى الاحكام المعقولة المعنى “.
- سمع كلام ابن تيمية وقال له بعد سماع كلامه ما كنت أظن أن الله تعالى بقي يخلق مثلك. وسئل ابن دقيق العيد بعد انقضاء ذلك المجلس عن ابن تيمية فقال هو رجل حفظة فقيل له هلا تكلمت معه فقال هو رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت. وقال ابن دقيق العيد أيضا: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد.
- قال ابن دقيق :”والتراجم التى يترجم لها أصحاب التصانيف على الأحاديث إشارة إلى المعاني المستنبطة منها على ثلاثة مراتب :
أ – منها ماهو ظاهر في الدلالة على المعنى المراد مفيد لفائدة مطلوبة .
ب – و منها ما هو خفي الدلالة على المراد ، بعيد مستكره ، لايتمشى إلا بتعسف .
ج – ومنها ما هو ظاهر في الدلالة على المراد ، إلا أن فائدتة قليلة لا تكاد تستحسن ، مثل ما ترجم ( باب : السواك عند رمي الجمار).
- قال ابن دقيق رحمه الله : “أن مورد النص إذاا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرا في الحكم ، فالأصل يقتضى اعتباره وعدم اطراحه ” .
وفاته
توفي يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة 702 هـ، ودفن السبت بسفح المقطم شرق القاهرة، وكان يوماً مشهوداً وصلي عليه بسوق الخيل بالقاهرة وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء وجمع غفير من الأمة. وقد ترك ابن دقيق العيد الكثير من المؤلفات في الحديث وعلوم الفقه، ما زالت تعتز بها المكتبة العربية حتى يومنا هذا.