جاءت في السنة النبوية أحاديث في الظاهر تنهى عن طلب المناصب الريادية وهو أصل تربوي أصيل، ينبغي الركون إليه في الأغلب، والتمسك به في الحالات العامة، لكنه “قد يجاء بخلاف الأصل”، فيأتي ما يدعو للتشوف للإمارة والحرص عليها، إذا أريدت بذلك مصالح شرعية، ومقاصد كالتمكين لدين الله وخدمة المستضعفين، على أن تنقية القصد من الشوائب والأغراض لازم لكل فرد فيما طلب وفيما ترك.
وقبل الحديث عن هذا الموضوع يجدر بنا أن ننظر إلى آليات دخول الوظيفة، وما الأصل فيها قانونا وشرعا.
لقد دأب عدد من التشريعات على حصر آليات دخول الوظيفة في المسابقات[1]، بينما جعل بعضها دخولها ممكنا عن طريق ترسيم العمال غير الدائمين، والوكلاء العقدويين[2].
أما المسابقات فهي الطريق الأسلم في نظرنا شرعا لدخول الوظيفة العمومية، وذلك لعدة اعتبارات:
الأول: أنها تعطي الفرصة لاختيار الأصلح والأكفأ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من استعمل عاملا على قوم، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخان جميع المسلمين»[3].
الثاني: أنها توفر نوعا من العدل بين المستحقين للوظيفة يمنع الجور والمحاباة في حقهم، ويمكن أن يستأنس لهذا شرعا بستة الشورى، فقد اعتبرهم عمر مستحقين بالوصف[4]، أو بالتعيين، وأتاح الفرصة للاختيار بينهم[5].
الثالث: أنها تحول دون الإكراه، كما تحول دون الكارهين للوظيفة لو عينوا فيها، فهم أحرى (إذا كانت كراهتهم لها شرعية) أن يزهدوا فيها زهدا قد يكون سببا لضياعها.
على أن هذه الميزات معيبة من ناحية أخرى بأمور:
الأول: أن الأصل الشرعي المقرر عدم الترشح للأمانات، والرغبة فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه»[6]، وقوله: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها»[7].
الثاني: أن فتح هذا الباب يؤدي لترشح الضعفاء وغير المؤهلين لتحمل الأمانات، والراغبين في مردودها المادي فقط دون تحمل مسؤولياتها يؤدي بهؤلاء إلى تولي الأمانات، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أبا ذر فقال: “لا تأمرن على اثنين[8]، وقال: “لا تتولين مال يتيم”[9]، وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك بالضعف[10]، وقال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة»[11].
وعلى هذا فإن الطريق الأنسب للتوظيف هو أن تختار الإدارة المسؤولة من بين خريجي كل تخصص أمثل المؤهلين المستعدين، وتعرض عليهم العمل، فمن وافق كونته، وعينته في وظيفته.
على أن تجعل في التخصصات المطلوبة من التكوين ما يصلح لها مما يجعل الموظف في الأعمال الكفائية يخرج قادرا على ولوج سوق العمل الخاص والعام دون الحاجة إلى كبير تكوين يمضي فيه السنين والأعوامَ.
فإذا تعذر هذا الطريق، فإن طريق المسابقات أيسر وأهون، ويمكن أن يُخرَّج وجه الترشح لها على قول نبي الله يوسف عليه السلام لعزيز مصر: {اجعلني على خزائن الأرض}، كما قد يستأنس له بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم لطلب أبي سفيان الإمارة[12]. وبتلبيته صلى الله عليه وسلم طلب عثمان بن أبي العاص حين سأله إمامة قومه فقال: “يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: «أنت إمامهم»”[13]، وقد استأنس بعض العلماء بهذا للتفريق بين الإمارة والولايات، وإن كان في ظواهر النصوص ما يشوش على هذا التفريق.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من حسان بن ثابت حرصا على التكليف بمهمة هجو قريش منافحة عن الإسلام، وعن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشق بالنبل» فأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهجهم» فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك.
ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه، قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا، حتى يلخص لك نسبي» فأتاه حسان، ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لحسان: «إن روح القدس لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله»، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسان فشفى واشتفى»[14]، والشاهد قول حسان رضي الله عنه: ” قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه”، وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وتكليفه بعد ذلك، ورضاه عن أدائه من بعد.
وهذا يدل على جواز طلب الإمارة والترشح لها خاصة عند الضرورة، وعندما يقل الأكفاء، أو تسد الطرق أمامهم، وقد قال عمر لأبي هريرة رضي الله عنه: “قد سأل يوسف العمل وكان خيرا منك”[15].
فعلى من وجد في نفسه الكفاءة والقدرة، أو شَهد له بذلك العدول أن يبحث عن الإمارة والولايات ومختلف الوظائف، وأن يحرص عليها، وأن يبعد عنها الضعفاء، وأن يخلص في ذلك لله، وأن يبتغي في ذلك وجه الله، وأن ينقي نيته من الشوب، وأن يحتسب ما يحتسبه الصالح إن خطب على خطبة الفاسق، فقد استثناه علماء المالكية من النهي عن الخطبة على الخطبة[16]، وأن يعتبر أن تفويت المناصب على الضعفاء والسفهاء مصلحة شرعية راجحة[17]، ومنقبة على الله أجرها، ومنه سؤال العون عليها.
وكل ذلك والمسلم يجعل بين عينيه قول الله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما}، وقوله: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر}، وقوله: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}، وقوله: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}.