نواصل في هذه الحلقة الثانية من الحوار مع الأستاذ الدكتور عز الدين معميش ، رئيس تحرير “موسوعة الاستغراب”، أول موسوعة في العالم الإسلامي ترصد الغرب، حديثَنا حول بعض الأسئلة المتعلقة بفهم الغرب، والتطور التاريخي للدعوة إلى دراسته، بجانب التعرف على أبرز اتجاهات الموقف من الغرب .. فإلى الحوار:

هل العالم العربي قادر على تقديم رؤية معرفية جوهرية للغرب.. في ظل الفارقِ الحضاري بينهما، ودعواتِ التبعية والأخذ منه دون تمييز؟

يمكن للمؤسسات الأكاديمية العربية أن تقدم رؤية جوهرية في دراسة الغرب، إذا استندت إلى منطلقات تأسيسية وموضوعية وقواعد ناظمة لمجال الاستغراب وأدوات تمكينه من معرفة عميقة بالحضارة الغربية؛ والتي من أهمها: ضرورة الانتباه إلى المفاهيم التي قامت عليها وتطورت في إطارها؛ فدون استيعابها وإدراكها لن يكون بمقدورنا الدراسة الواعية لفكر الغرب ومنظومته، ومن ثمّ تتحوّل تلك الدراسات إلى مجرد دراسات غربية بيبلوغرافية تُدرج ضمن علم المناطق أو الجغرافيا البشرية والثقافية أو التاريخ العام لأوروبا وأمريكا.

وشخصيًا كتبتُ الكثير من البحوث حول هذه المنطلقات والقواعد، وأكّدتُ ضرورةَ الاحتكام إليها، وتعمقتْ هذه الرؤية مع مؤتمرات وندوات متخصصة، موجهة لهذا المقصد، حيث تمُكِّن هذه المنطلقات والقواعد من الاحتكام إلى المعرفة العلمية، ومن ثم التأسيس لحقائق قريبة من الواقع في فهم الغرب اليوم كما كان وكما يتغيّر باستمرار، انطلاقًا من فكرة التحقيب الحضاري، التي تبنّاها عدد من فلاسفة الحضارة، من أبرزهم توينبي وشبنجلر وديورانت ومالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري.. في ضرورة فهم الظاهرة الغربية من خلال بنيتها الزمنية والفكرية؛ فالغرب الحديث والحداثي بُني على هذه الفرضية الضمنية؛ وهي أن الكائن زماني، وبالتالي فإن ديمومة اتصاله بذاته؛ إنما هي اتصال بالمتغيّر فيه.

ولعل من أهم المنطلقات والقواعد؛ توصيف وتحديد الذات الواعية المباشرة لدراسة الغرب أو تحديد هوية الاستغراب، وتوطين المعرفة الاستغرابية في المجال المعرفي المناسب، والتفاعل مع حركية الاستغراب وتنوع مجال تداوله واستعصاؤه عن الحدّ والرّسم، ودراسة الغرب في سياق مبدأ “الدورة الحضارية”، وفك الاشتباك بين “الاستشراق” و”الاستغراب”، وإدراك الفوارق البنيوية الداخلية للغرب وتنوع عناصره العرقية والثقافية والدينية، واستحضار التأثير الحضاري الشرقي في الحضارة الغربية.

لا شك أن “الدعوة لدراسة الغرب” لها عقود وهي تتردد في الأجواء الأكاديمية والفضاء المعرفي العام.. كيف ترصدون تطورها التاريخي؟

برزت الدعوة إلى دراسة الغرب في عالمنا الإسلامي وفق منهج نقدي شامل، منذ مدة طويلة، لكنها لم تتحول إلى دراسات شاملة ومؤسّسية على غرار التجارب الاستغرابية الأخرى؛ مثل الروسية واليابانية والصينية، إذا استثنينا بعض الدراسات والجهود العربية في أمريكا مع إسماعيل راجي الفاروقي وجمعية العلماء المسلمين الاجتماعيين، ثم المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي اضطلع بدور مناهضة التحيّز المعرفي والغزو الفكري والتغريب القسري الممنهج، وأيضًا بعض المؤسسات الأكاديمية الإسلامية في تركيا وماليزيا وإيران ولبنان، والتي اتسمت بالمؤسسية والشمول والتنظيم في عدد من القطاعات ذات البعد التعليمي والبحثي والحضاري، من ناحية رصد السيرورة التاريخية.

وبشكل عام، إذا تحدثنا عن السياق الإسلامي، فإنه يمكننا القول إن روجيه جارودي باعتباره مسلمًا، أول من تبنى الدعوة لدراسة الغرب بمناهج خارج التأطير المركزي الغربي؛ وذلك في كتابه المشهور (في سبيل حوار الحضارات)، حين دعا إلى دراسة الحضارات جميعًا بموضوعية وإنصاف ودون مركزية، وضرورة نقد الحضارة الغربية واستخلاص نقائصها بالنظر إلى مرآة غيرها من الحضارات، ثم تبعه عالِم المستقبليات والاستشراف الحضاري الدكتور المهدي المنجرة في عدد من كتبه.

وقد ظهرت أيضًا من قبل ومن بعد، جهود فردية مثّلت مشاريع ورؤى تجديدية في فقه التواصل والحوار مع الآخر؛ نذكر منها جهود أبي الأعلى المودودي ومالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري وطه عبد الرحمن، و”أهيسكا” من تركيا، و”توكّلي طارقي” و”الأردكاني” من إيران… وغيرهم.

كما ظهرت دراسات جزئية عامة؛ يعالج معظمها زوايا من الفكر الغربي، وتُعبِّر أخرى عن انطباعات عامة عن ثقافة الغرب أو مجتمعه وسياساته، دون تفريق بين الغرب وأوروبا التاريخية، ودون استناد هذه الدراسات والانطباعات إلى منهج علمي واضح المعالم، وفي غياب لحضور الذات في المقاربة والمعالجة والنقد، حيث اتّسم أكثرها بإبراز خلل في ناحية بعينها أو مزايا في قضايا معاصرة يريد صاحبها من ورائها تسويق قابلية تلك الأفكار للتطبيق في البيئة الإسلامية أو انتفاء جميعها تمامًا.. وذاك ما يجعلها تنحرف إلى التغريب أو التغرّب (البعد عن الواقع) وليس “الاستغراب” المصطلح المشتق من الفعل الخماسي، والأفعال التي تكون على وزن “استفعال” تدل في الغالب في علم التصريف العربي على المبالغة في الطلب الذي يعني بذل الجهد في استكشاف الشيء. لذلك، فماهية الاستغراب تتأسس على المبالغة في معرفة الغرب وبذل الجهد والوُسع في رصده ودراسته دراسة نقدية واسعة.

ولعل من أبرز المحاولات التي تغربت عن الواقع أو الذات، فكرة “حسن حنفي” في الاستغراب ودراسة الحضارة الغربية، فقد اتّصفت بالبعد عن الموضوعية والمنهج الملائم لدراسة الحضارة الغربية؛ حيث يُبيّنُ المنهج الذي اتّبعه حسن حنفي ومجموعة من النقاد والباحثين اليساريين في دراسات الاستغراب، عن قصور في الإلمام بالظاهرة الغربية من ناحية، وتمثُّل ٍللظاهرة الاستشراقية ومحاكاتها من ناحية أخرى، وهو ما يؤدي إلى نتائج غير موضوعية؛ لاختلاف الزمن والتراكم المعرفي والآليات المنهجية والأهداف والمقاصد.

ولم يكن مصطلح “الاستغراب”؛ ليثير الفضول والاهتمام من هؤلاء وغيرهم لو أنه جاء وفق وضْعٍ ونحْتٍ آخر ليس فيه إثارة من ناحية التركيب، وليست فيه محاكاة لنحت “الاستشراق” وارتباطاً به وزْنًا وموضوعًا؛ فقد كانت دراسة الغرب قائمةً منذ زمن؛ فيما يسمى بـ”الفكر الغربي” أو “الدراسات الغربية”؛ لكن استعماله بهذا النحت وإضفاء صفة “العِلمية” عليه من “حسن حنفي” ومن جاء بعده وسار على اصطلاحه، أخرجه إلى الإثارة والأضواء والاهتمام والفضول وادّعاء براءة الاختراع.

ثلاثة اتجاهات

الموقف من الغرب، تتنازعه اتجاهات شتى متباينة.. كيف تنظرون إليها؟

يمكن أن نرصد الاتجاهات العامة في حقل المعرفة الاستغرابية ومجال الدراسات الغربية؛ في ثلاثة اتجاهات كبيرة، وكل اتجاه منها يشتمل على توجهات فكرية ومدرسية متعددة إيجابية وسلبية من حيث العلاقة بين الذات والآخر أو من حيث إعمال الذات القارئة في الآخر الغربي. وهذه المجالات هي:

1- الاتجاه العلمي: الذي يهتم بالتحقيق التاريخي والعلمي للأطروحات الغربية، وخاصة التي جاءت في سياق الاستعمار والاستشراق، ويتتبع المنهجيات الحديثة والمعاصرة التي استخدمها المستشرقون؛ بالرد والنقد والتمحيص.

2- الاتجاه المعرفي: الذي يدعو إلى تفكيك ودراسة ونقد النموذج المعرفي المتحكم في العقل الغربي؛ من خلال المفاهيم التي استند عليها وتطور في إطارها؛ وضرورة فهم الظاهرة الغربية من خلال بنيتها الزمنية والفكرية الحديثة والمعاصرة، وتجسّد في مناهج وحركات فكرية وعلمية كثيرة.

3- الاتجاه الحضاري: الذي ينطلق من قوانين الحضارة ودورتها في الصعود والهبوط، وفي تأصيل فقه العلاقة مع الآخر الغربي، وأهمية الاستفادة من سنن التاريخ والطبيعة في التدافع والاستشراف الحضاري.

والتأسيس الحقيقي لمعرفة أصيلة ترصد الغرب في جميع تجلياته رصدًا موضوعيًا ومنهجيًا، لا يتحقق إلّا بمعرفة مكوّنات الفكر الغربي، والحضارة الغربية بعد انبلاج عصر الحداثة والإحاطة بتفاصيلها، ومعرفة بنيتها الثقافية والسياسية والاجتماعية الجديدة، وإدراك اختلافها عن حضارات أوروبا التي سادت قبل قيامها في مرحلة الحداثة، مع الإلمام بجذورها ودراسة علاقتها بمكوِّنات الحضارة الجديدة.

وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة تصحيح مغالطات مهمة، وقع فيها كثيرٌ من الباحثين، بما تسبّبوا في تمييع موضوع الاستغراب وتحريف مفهومه، والمتاجرة به في مجال العلوم والحوار والعلاقات الدولية؛ سواء بادّعاء تأسيس علم جديد أو منهج كلي في فهم التاريخ الأوروبي أو تأسيس وعيٍ محاكٍ للوعي الغربي؛ من خلال استلهام المنهجيات نفسها في الدراسة والنقد، كما فعل حسن حنفي ومن دار في فلكه؛ إذ إخضاعُ الظواهر للوعي المشكَّل، ومن ثمَّ انبلاج مفهوم للغرب لا يخرج عن الوعي الماركسي والجدلي، أو في علاقة الاستغراب بالاستشراق؛ وأنه قام ردةَ فعلٍ ضدّه، أو في محاولة البحث عن شرعيّة للاستغراب بِلَيِّ النصوص واستنباطات غير مناسبة؛ ما هو إلاّ تغرّب وتغريب.

كما أن بعض الاتجاهات اليسارية؛ كعادتها، حاولت احتكار هذا المجال المعرفي بقتله باسم العِلمية وتحويله إلى علم مصْمَت. والناظر بعمق يرى أنه لا وجود بدايةً لعلمٍ اسمه: علم الاستغراب؛ بل هناك حركة علمية، وفكر متحرك انطلق لبلورة مناهج في فهم عميق للحضارة الغربية بعيدًا عن المناهج المستوردة. وهذه الحركة موجودة في حضارات ودول أخرى غير عربية وغير مُسلمة؛ مثل اليابان والصين والهند وكوريا وروسيا.. وتكمن المشكلة في القفز على المسلّمات العلمية في التأسيس المعرفي للعلوم وتطورها التاريخي ومنهجها وفلسفتها وبنيتها؛ فليست المسألة مرتبطة بتأليف كتاب أو رغبة ملحّة أو ردة فعل تجاه الخصوم والأعداء؛ لكنها مرتبطة بالعلمية والمنهجية والمصداقية.

إن تحويل الغرب إلى مدروس، لا يعني تحويله لُزومًا إلى مفعول؛ فعملية تحويل مؤثِّر إلى متأثِّر، وفاعل إلى مفعول؛ تتعلق بإعادة بناء حضاري شامل؛ داخليًّا وخارجيًّا، أي لا بدّ من ترميم الذات وبنائها قبل التفكير في الآخر وفي كيفية التفاعل والتعامل معه. ثم إن الانطلاق عندهم في قراءة ودراسة الغرب، يكون من ضرورة إعادة بناء التراث وقراءته طبقًا للواقع للحيلولة دون التغرُّب في تعاملنا مع الواقع؛ وهي في حقيقة الأمر دعوة للتغرُّب عن الذات، كون الذات المستنبطة من الواقع في غياب الأدوات العلمية الصحيحة في دراسة التراث؛ هي ذات غريبة، ومن ثمَّ فالتغرُّبُ لا ينحصر في اللجوء إلى التراث الغربي فقط، بل يكمن أيضاً في استنباط قراءة للتراث ليست ذي صلة بالأصول والهوية، فهو تغرُّبٌ داخلي وتغريبٌ باسم التراث.

التحرر من التبعية

وماذا تقترحون لرؤية متوازنة فاعلة من الغرب؟

لرؤية متوازنة وفاعلة من الغرب، لا بد من تجاوز المركزية الغربية في بناء المعرفة، فقد استطاع طوال قرون عبر وسائل عدة- من أهمها الحركة الاستشراقية والأدوات الاستعمارية الكلاسيكية، المتمثلة خصوصًا في تزييف التاريخ واستئصال الهويات، ثم عبر وسائل الإعلام- أن يصنع المعرفة وفقًا لتصوراته، حتى المعرفة المتعلقة بذاتنا الحضارية، ثم يعيد تصديرها لنا، وهو ما أنتج ما اصطلح عليه مالك بن نبي بـ “الانبهار الحضاري”، ومكّن للتبعية المستديمة من الشرق للغرب.

وطبقًا لما سبق، فلا بد إذًا من التحرر من هذه المركزية وهذا الانبهار وما استتبعهما من تبعية وانهزام نفسي وحضاري، وهنا يبرز الدور المهم للذات المسلمة أو الشرقية في تأصيل رؤية استغرابية موضوعية متوازنة لا تغرُّب فيها ولا اغتراب؛ إذ يكون الانفتاح في خدمة الذات، بتنقيح الوعي الكامن وتنقيته مما عَلِق به من عناصر دخيلة أدّت إلى انحراف عملية التأريخ والتحليل النقدي الشامل لمنظومة الحضارة الغربية في تجلياتها المختلفة؛ حيث تمثِّل هذه العناصر صفةَ الاغتراب عن الوعي الأصل، وإحلالَ وعيٍ مستورَد؛ وهو الوعي الذي يوصف بالهويّة المائعة؛ التي تتولّد من النظر إلى الذات بعين الغير، والنظر إلى الغير بعين الغير، ويُطلق عليه أيضا بحالة الاستلاب أو الاغتراب، والتي تعني حالة انفصالٍ أو “غُربة” أو “استلاب”، والإحساس بأن الإنسان ليس في بيته وموطنه أو مكانه.

إن تاريخ الغرب الحديث هو انعكاس للعقل التجريبي، فهو لا يميِّز بين الحياة والنشاط والسيرورة والصيرورة من جهة، والأشياء الجامدة من جهة أخرى، ولذلك يستلزم استيعاب التاريخ الغربي بشكل عام لنجاح حركة الاستغراب، والتي تتمظهر خصوصاً في الفلسفة التجريبية والتقنية، مع إنفاذ الذات الإسلامية القارئة في تجليات هذه الفلسفة ومظاهرها؛ أي توطين الوعي الذاتي النقدي في قلب الظاهرة الغربية المتجسِّدة في تجليات العقل التجريبي.

ولعمل هذه الذات بصورة معرفية منهجية وموضوعية صحيحة، لا بدّ من توفّر شروط تُعدُّ من المعايير المعرفية المتفق عليها؛ ومن أهمها أصالة الذات القارئة؛ أي أن يكون الوعي المباشر للقراءة والنقد غير متأثِّر بحيثيات الموضوع وبيئته ومحيطه، وبذلك تكون المعرفة بالموضوع صحيحة، والإحاطة بالموضوع من كل جوانبه، باكتشاف جذور ماهيته وتشكّله وعلاقاته، والاعتماد على الاستقراء الواسع المؤدي للحكم العام، بعيدًا عن الحدس والاسترداد اللذين اعتمدهما بعض فلاسفة الغرب، مثل “برجسون” و”هوسرل”.

وبعد النقد العلمي الموضوعي والنفاذ إلى المبادئ الحاكمة، والفكر المرجعي الغربي؛ ينبغي فهم واستيعاب مظاهره وتجلياته في شكل مؤسسات وحركات سياسية واقتصادية وتاريخية وفكرية ونسوية واجتماعية، والعمل على تقديم مشروع بديل يكون واقعيًّا وشاملاً في فهم الظاهرة الغربية، عكس الكثير من المشاريع المثالية الحالمة؛ التي يدعو بعضُها لدراسة كل تاريخ أوروبا منذ فجر تكوّنها في العهود القديمة؛ بتفاصيله الفكرية والدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية… وإدخاله في هذا الحقل دون مراعاة لحقيقة ومعنى الاستغراب والحقب الحضارية، ودون مراعاة للواقع؛ وهو استحالة دراسة كلِّ ذلك في حقل معرفي واحد، وبمنهجية واحدة، وحتى الاستشراق لم يتناول تاريخ الشرق بمنهجية واحدة وفي حقل معرفي واحد، بل كان لكل تخصص استقلاله؛ لذلك عُدّ الاستشراق حركة وليس علمًا.

الاستغراب الغربي

في المقابل، ما الدور المنوط بالغرب، حتى يفهمه الشرقُ فهمًا جيدًا؟

منذ بدايات القرن الماضي والدعوات تتوالى داخل الغرب، إلى ضرورة خروجه من مركزيته التي سُجن فيها لاعتبارات كثيرة. وقد رأى البعض أن يصطلح على هذه الدعوات الصادرة داخل الغرب بـ”الاستغراب الغربي” أو “الاستغراب ما بعد الحداثي”؛ حيث شهدنا تجاوز مدرسة ما بعد الحداثة للحداثة الغربية وقامت بنقدها ونقضها للأسس التي بُنيت عليها وتجلت في إطارها.

ومِن أول مَن وجه نقدًا قاسيًا للغرب، المؤرخ الحضاري أسوالد شبنغلر، حيث اعتبره كائنًا أصمًّا، أفقدته الماديةُ بوصلته الإنسانية التي قام عليها في حقبة التأسيس للحداثة في مواجهة الكنيسة، وأفقده طموحُه الإمبريالي والاستعماري دوره الحضاري الذي قام من أجله غداة مرحلة الكنيسة. ومن ثم، وقع أسير ذاته وانجر وراء أوهام التفوق العرقي والحضاري، وزيَّف لذلك الحقائق التاريخية ومعطيات العلوم والمعارف.

لقد زيّفت المركزية الأوروبية الحديثة بداية من القرن الثامن عشر للميلاد، التاريخَ ومعطيات علوم الإنسان والجغرافيا والأنتروبولوجيا، وعملت بالقوة الناعمة والصلبة على ترسيخ التصنيفات الحضارية والإثنوغرافية والثقافية، استنادًا إلى مبادئها ومصالحها وأساطيرها المؤسسة على الطهارة العرقية والتفوق الحضاري، وعمدت إلى جملة وسائل وأدوات واستراتيجيات خطيرة لترسيخ التفوق الأوروبي الغربي على الآخر، كانت ذات أثر كبير على مختلف المنظومات الحضارية في العالم؛ لعل من بينها: الاستعمار، والاستشراق، وتنميط الإنسان الغربي وتصييره إنسانًا سائلاً قابلاً للتشكّل حسب الحاجة الوضعية والمصلحة السياسية، وعمدتْ إلى فرض قسري مخالف للحقائق التاريخية والعلمية، لمركزية اللغة والجغرافيا والإنسان.

ولذلك إذا كان الغرب يريد التعايش مع الشرق وبناء جسور التواصل من جديد، فعليه التخلي عن هذه المركزية، وعليه أيضًا إعادة كتابة التاريخ وإعادة الأرشيف المهرب الذي يخص الحضارات الأخرى وخاصة الحضارة الإسلامية، إلى أصحابه؛ لتصحيح الصور النمطية السلبية الغائرة في لا وعي الغربي ومتبعيه من أبناء الشرق، وإعادة بناء المفاهيم بناء موضوعيًّا؛ لأن جل المفاهيم السياسية والثقافية والاجتماعية المعاصرة التي تُعد الأكثر انتشارًا، بدأت حسب روجيه جارودي مع اختطاف علم الدلالة وفقه اللغة في مرحلة التوسّع الإمبريالي الغربي من أجل احتكار مصادر الحقيقة؛ لأن نفي الموضوعية هو التبرير النظري لتزوير الواقعات والتلاعب بالمعارف والمصطلحات والأساس لسفسطة سياسية، كما أنها تؤدي دورًا خطيرًا في تكبيل الإنسان وانتزاع ما يؤمن به من مقومات عقدية صلبة؛ على غرار الإيمان بالغيب وتجاوز المستوى الأنطولوجي المادي، لأهميته الحساسة للإنسان في الوجود وفي إدراك الحقيقة واليقين.