اتجه علم الاجتماع في العقود الأخيرة إلى التخلي عن موضوعاته التقليدية؛ التي تتمحور حول فهم الحياة الاجتماعية وتحولاتها وتحليل دوافعها وتحديد أدوار الفاعلين الاجتماعيين فيها، لصالح موضوعات جديدة تتعلق بالثقافة والهوية والعنف والجريمة، وأخيرا الجسد الذي أخذت دراساته في التمدد والنمو حتى صار فرعا من فروع علم الاجتماع (علم اجتماع الجسد)، ثم تبع ذلك ظهور مجلات أكاديمية مختصة بتناول الظاهرة الجسدية، فلماذا هذا الاهتمام المفرط بالجسد بعد أن أنكره الغربيون لقرون طويلة، وما الدلالات التي ينطوي عليها، وما هي انعكاساته على العالم الإسلامي.

الجسد من التدنيس إلى التقديس

تعود جذور الرؤية الغربية للجسد إلى التاريخ اليوناني القديم حيث نظر الفلاسفة اليونانيون إلى الجسد بوصفه ثقل على الإنسان عائق للنفس من الانطلاق بحرية لأنه يحرمها من صيد الحقيقة ويمنعها بلوغ الكمال، وفي “محاورة فيدون” التي كتبها أفلاطون نجد أن الفيلسوف الحق هو من لا يلهث وراء اللذات، كلذة الطعام أو لذة الشراب أو لذة التواصل مع الجنس الآخر وإنما يحتقرها ويبتعد عنها لينخرط كليًا في النفس بؤرة اهتمامه الحقيقي، ووفقا لهذه الرؤية فإن الجسد هو “السوء الأكبر” بما يضعه أمامنا من عراقيل تحول دون بلوغ الحقيقة والانشغال بالنفس التي هي أسمى من الجسد، وهذا التصور للجسد بوصفه منافيا للنفس أو الروح ونقيضا لها تم تكريسه من خلال الفكر المسيحي الذي افترض أن الإنسان يتألف من جوهرين مختلفين هما الروح والجسد والعلاقة بينهما متوترة لأن الروح من طينة إلهية وهي متورطة في سجن الجسد، وعلى المرء الحقيقي أن يقهر جسده ويسعى للتملص منه وصولا إلى تزكية الروح.

استمرت تلك الرؤية خلال عصر النهضة الأوروبية لكن مع دمجها ببعض التصورات الوضعية فالجسد لدى ديكارت ليس سوى آلة “صنعها الله بطريقة منظمة تتجاوز في تفوقها كل الآلات التي يمكن للإنسان أن يخترعها”، والإنسان يتشكل من جوهرين مختلفين: جوهر مادي هو الجسد الذي يشبه العالم الخارجي، لكونه لا يفكر ولا يختار، فهو خاضع لقانونية وسببية صارمة وكأنه الساعة، في مقابل جوهر آخر نفسي يفكر ويختار، والإنسان ليس محدد بالجسد لأنه شبيه بالكائنات الطبيعية القاصرة والعاطلة عن التفكير والاختيار؛ فهي مفعول بها على الدوام، وإنما هو إنسان لأن لديه جوهرًا مميزًا هو الفكر والحرية”[1]. وهذا حل الفكر أي العقل والحرية محل الروح في الثنائية المسيحية القديمة لكن بقيت بعض الظلال الدينية التي تفيد أن الله هو خالق الجسد، وأنه في منزلة أدنى من العقل.

ومنذ القرن التاسع عشر طرأت تحولات على الرؤية الغربية، حيث اختفت الروح ولم يعد موجودا سوى الجسد، وقد عبر نتيشة عن هذا المعنى بقوله “إنني أرى جسدا لا غير، وما الروح إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد”، وبهذا يكون نيتشه قد أسدل الستار أمام التراث الإغريقي والمسيحي ومهد لفلسفة ورؤية جديدة تمجد الجسد وتضفي عليه صفات القداسة كما ظهر من خلال فلسفات الحداثة، وهو ما نجده لدى رواد التحليل النفسي كسيجموند فرويد الذي أولى اهتماما للرغبة الجنسية واعتبرها محركا للسلوك الإنساني، والبنيويين من أمثال ميشيل فوكو الذي كان أول من قام بتحليل الجسد سياسيا، معتبرا أن السلطة السياسية الرأسمالية تسعى لفرض هيمنتها على الجسد وقمعه وإخضاعه، وتتدخل لضبط رغباته الجنسية والحد منها تحت ستار من التقاليد والأفكار البالية قصد إنهاك قوته ودمجه في أنساق اقتصادية ناجعة.

واستنادا إلى ذلك أخذت دراسات الجسد منذ الستينات تتحول من مجرد كونها دراسات فرعية على هامش حقول معرفية عديدة إلى حقل معرفي ضمن علم الاجتماع له موضوعاته واقتراباته ومصطلحاته ومفاهيمه، وثمة أسباب تقف وراء ذلك من أهمها صعود الحركة النسوية واهتمامها بدراسات الجسد الأنثوي ومحاولات إخضاعه والسيطرة عليه، وذيوع فلسفات الحداثة كالبنيوية والتفكيكية وغيرها، وتزايد النزعة الفردية وما تبعها من سلب قداسة الحياة الاجتماعية والإطاحة باليقينيات الدينية والتوجه نحو تقديس الفرد عوضا عنها، وفي ظل هذا برز الجسد بوصفه دالا على الذات الفردية ومعبرا عن الهوية وسط هويات الآخرين المغايرة[2].

تنميط الجسد وإعادة تشكيله

بالتساوق مع تلك التحولات القيمية والمعرفية حدثت تطورات مماثلة في مجالات: الهندسة الوراثية، والجراحة التجميلية، والطب الرياضي، يسرت السبيل أمام التحكم في الجسد، وغدا بمقدور الإنسان أن يعيد تشكيل جسده وفقا لصورة متخيلة في ذهنه، ووفقا لما تكرسه الثقافة من صورة مثلى للجسد في المجتمع الحداثي الذي ينبغي أن يكون قويا وجذابا يلفت الأنظار، وتلك الصورة ليست متعلقة بالفتيات وحسب فهنالك اهتمام من جانب الرجال على اتباع أنظمة الحمية وارتياد الصالات الرياضية وتناول عقاقير طبية من شأنها إبراز بعض العضلات في أماكن بعينها من الجسد بل إن بعضهم يلجأ إلى عمليات تجميل وبخاصة العاملين في المجالات الفنية وعروض الأزياء.

وهكذا فإن الرغبة في التحكم بالجسد وإعادة بناءه كما يراها علماء الاجتماع ليست مجرد رغبة ذاتية للفرد وإنما هي استجابة للتوجهات الثقافية العامة، فعندما تؤكد الثقافة على الجسد الرشيق والنحيف، يصبح التماهي مع هذه الخصائص مسألة ضرورية لتطوير الذات ونيل القبول الاجتماعي وتحقيق النجاح في العمل، وهذا يعني أن الرضا أو عدم الرضا عن صورة الجسد تتشكل من خلال الثقافة السائدة، وحول هذا المعنى يقول فالون “إن الثقافة تلعب دورا بالغ الأهمية في تشكيل مثاليات المظهر بما في ذلك شكل الجسد وحجمه”.

من جانب آخر فإن الثقافة تجعل المرء وجسده عرضة للأحكام القيمية والنقد المستمر، فالنحافة على سبيل المثال يروج لها على أنها ليست معيارا على الجمال وإنما على تحكم الإنسان في ذلك وقدرته على ضبط شهواته وكبح جماحها، ومن هنا يتعذر على الشخص أن يشعر بالرضا نحو ذاته إذا كان بدينا ومن ثم يصبح أكثر عرضة للاكتئاب وفقدان الأمل.

وقد انتقلت تلك الثقافة بفعل تيارات العولمة إلى العالم الإسلامي الذي شهد في العقدين الأخيرين تغيرات كبيرة على مستوى البناء القيمي والثقافي، فالجسد الذي كان يتحرج من ذكره صار مادة أثيرة لوسائل الإعلام، وصارت الفنانات النحيفات مثالا للجمال في أعين الفتيات الصغيرات، وفي دراسة استطلاعية أجريت على الفتيات الجامعيات في الأردن خلال العام الجامعي 2014/2015 كشفت أن (61.7) بالمائة من الفتيات غير راضيات عن شكل جسدهن، وأن (64) بالمائة غير راضيات عن طولهن بينما (57.8) بالمائة غير راضيات عن وزنهن، علما بأن أطوالهن معتدلة وقوامهن وإن كان ممتلئا نسبيا إلا أنه لا يعكس سمنة، وهو ما يبين أن صورة الجسد المثالي لدى هؤلاء الفتيات هي صورة الجسد النحيف الطويل المنتشرة في الثقافة الغربية، وأن الصورة المحلية التقليدية التي كانت تعد الجسد الممتلئ علامة من علامات الجمال الأنثوي أوشكت على الاضمحلال في ظل سيادة نموذج الجمال الغربي[3].

وبطبيعة الحال تلعب الشركات الرأسمالية دورا في تعزيز هذا التوجه عبر وسائل الإعلام، وقد حققت نجاحا في هذا المجال حتى أن بلدا مثل مصر يعاني مشكلات اقتصادية بنيوية، بلغ حجم تجارة أدوات التجميل ما يقدر ب 1.7 مليار دولار خلال عام 2017 ، الأمر الذي ينبئ عن أن شرائح واسعة من النساء لا تنتمي للطبقة العليا أو الوسطى تعد المساحيق التجميلية أولوية في ظل أزمة اقتصادية عنيفة.

مما تقدم نتبين أن تطورات جذرية مست الرؤية الغربية للجسد فبعد أن كان كيانا مدنسا مهملا غدا في ظل الحداثة موضعا للرعاية ومجالا للبحث السوسيولوجي، ولكن هذا لم يرتق بشأن الجسد بل حط من قدره وجعله أسيرا للرأسمالية التي سعت إلى استغلاله وتوظيفه.


[1]  محسن المحمدي، تصورات مختلفة حول الجسد

[2] كرس شلنج، الجسد والنظرية الفردية، ترجمة: منى البحر، نجيب الحصادي، الأسكندرية: دار العين للنشر، 2009، ص23-24.

[3]  محمد عبد الكريم الحوراني، المكونات السوسيوثقافية لصورة الجسد: تطبيق مقولات علم اجتماع الجسد على عينة من النساء في المجتمع الأردني، عمان: دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، مج 43 ع 3، ص 2332.