تميل معظم الدراسات الاستشراقية إلى تصوير الحضارة العربية على أنها حضارة نصية دارت حول النص وارتبطت به وأنتجت حوله علوما كثيرة، وهو ادعاء لا يخلو من صحة لكنه يغض الطرف عن الإسهامات العربية في مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية، وهي اسهامات لاقت اهتماما متزايدا مؤخرا كعلوم الفلك والطب والصيدلة، غير أن علوما أخرى لم تلق ذات الاهتمام كعلمي الحيوان والنبات رغم وفرة مصنفاتهما وتنوع أساليب الكتابة فيهما، وفي السطور التالية نتناول بعض ما أنتجه العلماء العرب في هذين العلمين.

علم الحيوان: ماهيته وموضوعاته

اهتم العرب في جاهليتهم وإسلامهم بالطبيعة التي تحيط بهم ووصفوها في أشعارهم وكتاباتهم، وقد جرهم هذا إلى الاهتمام بالحيوان والكتابة عنه، وقد تواترت الكتابات حول الحيوان منذ القرن الثالث وتعددت موضوعاتها، وصارت علما كاملا له موضوعاته ومناهجه ومصطلحاته حتى صنفه حاجي خليفة ضمن العلوم المتدوالة في عصره، وذكر في تعريفه أنه “علم باحث عن خواص أنواع الحيوانات وعجائبها ومنافعها ومضارها، وموضوعه جنس الحيوان البري والبحري والماشي والزاحف والطائر وغير ذلك، والغرض منه التداوي والانتفاع بالحيوان، والاحتماء عن مضارها، والوقوف على عجائب أحوالها وغرائب أفعالها”[1].

وقد تعددت المصنفات في علم الحيوان وتنوعت موضوعاته تنوعًا كبيرًا، وقد أجمل محمد باقر علوان الكتب الحيوانية التي كتبها العرب، وعدها كالتالي:

– الكتب التي تتحدث عن نوع واحد من أنواع الحيوان كالإبل والخيل ..إلخ.

– الكتب التي تبحث عن طبائع الحيوان.

– الكتب التي تهتم بعلاج أمراض الحيوان وهي تندرج ضمن كتب علم البيطرة.

– الكتب التي تختص بشيء يمت من قريب أو بعيد إلى الحيوان بصلة مثل كتب: السرج واللجام والغذاء.

– الكتب اللغوية التي تهتم بالبحث في أسماء الحيوانات وصفاتها وأفعالها وألوانها، واشتقاق هذه المسميات واستعمالها في كتب الأدب والشعر.

– الكتب التي تهتم بعجائب الكون والمخلوقات.

– الكتب الدينية التي تبحث فيما يحل من الحيوان وفيما يحرم أكله.

وفي الأخير، الكتب التي تبحث عن الحيوان عامة وبجميع مظاهره[2].

نماذج من مؤلفات علم الحيوان

وتحوي المكتبة العربية لكل نوع من الأنواع السابقة كتبا عديدة، سواء أكانت منشورة أو غير منشورة، معروفة أو غير معروفة، ولا يسعنا في هذا المقال الإشارة لها جميعا، لذا نكتفي بالإشارة إلى بعض المؤلفات في هذا المجال.

وأقدم ما نعرف منها الكتب التي ترجمت عن اليونانية؛ فقد ترجم في صدر الدولة العباسية كتاب “الحيوان” لديمقراطيس، وكتاب “الحيوان” لأرسطاطاليس الذي يقع في تسع عشرة مقالة، ونقله ابن البطريق من اليونانية إلى العربية، ولأرسطو أيضاً كتاب في نعت الحيوان الغير الناطق، وما فيه من المنافع والمضار، كما ترجم أيضا كتاب “طبائع الحيوان” لأبي قراط[3].

بعد أن ترجمت هذه الكتب شرع العرب في التأليف في هذا المجال، فكتب جابر ابن حيان (200 هـ) كتاب “الحيوان” الذي لا يزال مفقودًا، ثم كتب الجاحظ (255 هـ) دائرة معارفه الضخمة المسماة “كتاب الحيوان”، وهو يقع في 7 مجلدات وله بضع مختصرات، وقد اعتنى الجاحظ في كتابه بدراسة التطور البيولوجي، وصنف الحيوانات في سلاسل خطية بدءا من الأبسط إلى الأكثر تعقيدا، وقام بتصنيفها في ذات الوقت إلى مجموعات حسب صفاتها المشتركة، ثم قسمها إلى مجموعات فرعية مستمرا في ذلك حتى وصل إلى الوحدة الأساسية وهي “النوع”، واعتبر أن الصراع هو القانون السائد في مملكة الحيوان، وذهب إلى أنه قانون إلهي حيث يجعل الله طعام بعض الحيوانات من جيف الحيوانات الأخرى، مفترضا أن الحيوانات الصغيرة تأكل الأصغر منها على حين لا تستطيع الحيوانات الكبيرة أن تأكل الأكبر منها[4].

ولعل من أشهر المصنفات في هذا الباب كتاب “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” لزكريا ابن محمد القزويني (682 هـ)، وهو كتاب جغرافي بالأساس لكنه يصف الأرض وتضاريسها وما بها من معالم جغرافية ثم يردف بذكر أهم الحيوانات التي تسكن هذه التضاريس المختلفة، ويرتبها على حروف المعجم.

ومنها أيضا كتاب “حياة الحيوان” للشيخ محمد كمال الدين بن عيسى الدميري (808 هـ) وهو أحد محققي العلوم الدينية، لكنه وضعه لتصحيح الألفاظ وتفسير الأسماء المبهمة التي جاءت في كتب المتقدمين،

وذكر أنه: جمعه من خمسمائة وستين كتاباً، ومائة وتسعة وتسعين ديواناً من دواوين شعراء العرب، وجعله نسختين كبرى وصغرى، وهو يمتاز بالجمع بين الأحكام الشرعية والحقائق العلمية والفرائد الأدبية.

 

النبات والفلاحة عند العرب

تدل الشواهد على أن التأليف في علم النبات تأخر قليلا عنه في علم الحيوان، وعلى أن نطاقه لم يتسع ليشمل الكتب المستقلة، فيفرد كل نوع منه بكتاب، كما حدث لأنواع الحيوان المختلفة، فكتب النبات يغلب عليها التعميم أكثر من التخصيص، يظهر هذا من عناوينها وأغلبها: كتاب النبات أو كتاب الزرع أو كتاب الشجر، وهو من العلوم الشائعة لدى العرب حيث عرفه طاش كبري زادة بأنه “علم يبحث عن خواص نوع النبات وعجائبها وأشكالها ومنافعها ومضارها، وموضوعه نوع النبات وفائدته ومنفعة التداوي بها”.

واتجهت دراسة النبات عند العرب ثلاث وجهات؛ وجهة لغوية تبين أسماء النباتات واشتقاقاتها اللغوية واستعمالاتها الأدبية، ووجهة طبية كما هو الحال في كتب العقاقير التي تبين خصائص كل نبات في العلاج، ووجهة عملية تطبيقية في كتب الفلاحة وما يتعلق بها من ري وخلافه.

وأول من عني بالتدوين في النبات النضير بن شميل (204 هـ) الذي خص الزرع والكرم والبقول والأشجار بالجزء الخامس من مجموعته اللغوية المسماة “الصفات”، أما أول من أفرد نوعا من النبات بكتاب خاص فلعله أبو عمرو الشيباني (206 هـ) مؤلف كتاب “النخلة”، وتابعه في ذلك الأصمعي (213 هـ) في كتاب “النخلة”، ثم تواترت المؤلفات في هذا المجال ومن أشهرها:

– كتاب في النبات لأبي حنيفة الدينوري (282 هـ): وقد جاء في ستة مجلدات، استقصى فيه مؤلفه ما جاء عن النبات في اللغة العربية، وكان يشرح هذه الألفاظ شرحا علميا بعد أن يعاينها بنفسه، فصار الكتاب عمدة اللغويين الذين جاءوا بعد، وعمدة الأطباء العشبيين، فلا يتخرج عشاب إلا بعد أن يستوعب الكتاب ويؤدي الامتحان فيه.

– الأدوية المفردة لأبي جعفر الغافقي (ت:561 هـ): ومؤلفه طبيب عربي من أهل الأندلس، وكان أعلم أهل عصرة بقوى الأدوية وخواصها، وقد اشتهر كتابه وذاع صيته حيث جمع فيه ما قاله علماء النبات في عصره والعصور السابقة.

– الجامع في الأدوية المفردة لابن البيطار (ت: 646 هـ): وقد ولد صاحبه في مالقا ثم جاب الأندلس والمغرب وشمال أفريقيا وسوريا وأسيا الصغرى، والتقى بعلماء النبات في هذه البلدان، وشاهد النبات التي تنطوي عليها هذه البلدان، ويحتوي الكتاب على (1400) صنف من الأدوية المختلفة مرتبة حسب الحروف الأبجدية، منها 300 صنف لم يتم ذكرها في كتب العقاقير من قبل.

صفحة من صفحات كتاب ابن البيطار “الجامع في الأدوية “

– الفلاحة النبطية لأبي بكر أحمد بن وحشية: وهو من أوائل المؤلفات العربية في علم الفلاحة، وقد تناول مؤلفه كل نبات ورد ذكره مع بيان أوصافه والأرض التي تناسبه ونوع السماد الملائم له إضافة إلى فوائده الغذائية واستعمالاته الطبية.

– كتاب الفلاحة لابن العوام الإشبيلي، وقد عاش في أواخر القرن السادس الهجري، ويتكون كتابه من جزئين فيهما خمسة وثلاثين بابا لكل موضوع من موضوعات الفلاحة، وقد جمع فيه بين خلاصة قراءاته في التراث العربي والإغريقي وبين خبراته العملية في علم النبات، حيث قدم وصفا دقيقا لحوالي 585 نباتا، ولذلك اعتبر (ماهيروف) كتاب الفلاحة أعظم الكتب التطبيقية العربية في علم النبات[5].

وفي الأخير يمكن القول أن العرب قد أثروا المكتبة العالمية بطائفة من المصنفات في علمي النبات والحيوان تجاوزت التراث اليوناني القديم، وأسهمت في إرساء القواعد والمناهج التطبيقية لهذين العلمين.

 


[1]حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1/695.

[2] محمد باقر علوان، كتب الحيوان عند العرب، بغداد: وزارة الثقافة والإعلام، مجلة المورد، مج1، ع 3-4.

[3]  حاجي خليفة، المرجع السابق، ص 1/695.

[4] محمد عبد الواحد الفقي، علم الحيوان في التراث الإسلامي، الكويت: الوعي الإسلامي، ع 303، ص 75-76. 1989

[5]  سليم فاضل، الفلاحة عند العرب، مجلة التراث الشعبي، مج 15، ع1-2، 1984، ص 256-258.