كثيرًا ما دار الجدل حول انتشار الإسلام، من زاوية تفنيد الشبهة المثارة عنه في هذا الصدد، وهي الزعم بانتشاره بالسيف؛ وكثرت الكتاباتُ في تفنيد هذا الزعم وبيان تهافته وعدم استناده لدليل.. لكن قلما كان الالتفات إلى انتشار الإسلام، من زاوية الأسباب الحقيقية أو الكامنة وراء هذا الانتشار، الذي جاء غير مسبوق في التاريخ؛ سواء من حيث مداه الزمني، أو امتداده الجغرافي.
فلم يمر قرنان على انطلاقة الإسلام حتى كان المسلمون- كما يرصد العلامة وحيد الدين خان- “قد أصبحوا أئمة العالم؛ وأصبحت حاضرتهم بغداد، عاصمة العالم الحضارية، بدلاً من اصطخر الإيرانية، ورمسيس المصرية، وروما الأوروبية”([1]).
ولهذا، فإن ما يطرحه المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون عن انتشار الإسلام، له أهمية قصوى؛ من حيث نفاذه بعمق إلى جوهر الأسباب الكامنة وراء هذا الانتشار، دون حصر المسألة فيما يتصل بتفنيد شبهة الانتشار بحد السيف.
لوبون رصد أمرين مهمين حول انتشار الإسلام؛ أحدهما يتعلق بالإسلام/ المنهج، والآخر يتصل بالمسلمين/ الحركة والدعوة. أما ما يتعلق بالإسلام فهو طبيعته السهلة، وما تقتضيه من وضوح عقائده؛ وأما ما يتصل بالمسلمين فهو عدلهم بين الناس، وحركتهم التي جاءت عنوانًا لدعوتهم.
سهولة الإسلام ووضوح عقائده
في الأمر الأول، سهولة الإسلام ووضوح عقائده، يقول لوبون: “تُشتَقُ سهولة الإسلام من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سرّ قوة الإسلام. والإسلامُ، وإدراكه سهلٌ، خالٍ مما نراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم، غالبًا، من المتناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحًا وأقل غموضًا من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد وبمساواة جميع الناس أمام الله”([2]).
ويضيف لوبون: “وساعد وضوحُ الإسلام البالغ، وما أَمَرَ به من العدل والإحسان، كلَّ المساعدة على انتشاره في العالم؛ ونُفسِّر بهذه المزايا سببَ اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام؛ كما نُفسر السبب في عدم تنصُّرِ أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام دينًا، سواء كانت هذه الأمة غالبةً أم مغلوبة”([3]).
أي أن هذه المزِيَّة للإسلام/ المنهج، كانت سببًا في انتشاره حتى بين من لهم رسالة سماوية يعتزون بها، وسببًا في ثبوته وثباته في قلوب معتنقيه الجدد.
بل إن هذا الانتشار– كما يرصد لوبون- قد أصاب المؤرخين بالعجب والدهشة؛ فراحوا يبحثون عن أسباب واهية له، بدلاً من البحث عن أسبابه الحقيقية! حتى زعموا أن الإسلام انتشر بسبب التحلل في أحكامه، والبطش في فَرْضِه!! وهو الزعم الذي رفضه صاحب (حضارة العرب).
يقولو لوبون: وقضى أعداء الإسلام من المؤرخين العَجَبَ من سرعة انتشار القرآن العظيمة فعزَوها إلى ما زعموه من تَحَلُّل محمد وبطشه. ويسهل علينا أن نُثبت أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس، فنقول: إن مَن يقرأ القرآن يجد فيه ما في الأديان الأخرى من الصرامة، وإن ما أباحه القرآن من تعدد الزوجات لم يكن غريبًا على الشعوب المسلمة التي عَرَفته قبل ظهور محمد… وما قيل من دليل حول تَحَلُّل محمد، نقضَه العلامةُ الفيلسوف بِيلُ منذ زمن طويل؛ وقال بيلُ، بعد أن أثبت أن ما أمر النبي بالتزامه من قيود الصيام وتحريم الخمر ومبادئ الأخلاق هو أشد مما أُمِرَ به النصارى: إن من الضلال، إذن، أن يُعزَى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يُلقي عن كاهل الإنسان ما شَقَّ من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يُبيح له البقاء على سيئ الأخلاق، وقد دوَّن هوتنجر قائمةً طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين؛ فأرى، مع القصد في مدح الإسلام، أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يُؤْمَر به إنسانٌ من التحلي بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن العيوب والآثام. ومما نبَّه إليه العلامة بيل أن ملاذ الجنة التي وُعِدَ بها المسلمون لا تزيد على ما وُعِد به النصارى في الإنجيل؛ جاء في الإنجيل: «لم ترَ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب إنسان ما أعده الله للذين يُحبونه»([4]).
إذن، مِن زاوية عزو انتشار الإسلام إلى التحلل، أي إلى ما قد يكون في أحكامه من إغراء، مثل تعدد الزوجات، فقد كان هذا التعدد معروفًا قبل الإسلام؛ وما دام الأمر كذلك فلا يصح أن يكون سببًا لانتشاره؛ لأن سبب انتشار الإسلام ينبغي أن يكون مقترنًا بظهوره، خاصًّا به، وليس معروفًا قبل مجيئه. وإن أخصَّ ما جاء به الإسلام هو عقيدة التوحيد؛ التي ميَّزته عن غيره من الأديان، بعد أن أصابها من التحريف في هذا الاعتقاد ما أصابها.
ولهذا يقول لوبون: “الإسلام يختلف عن النصرانية في كثير من الأصول، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي… وللإسلام وحده أن يباهِيَ بأنه أولُ دين أدخل التوحيد إلى العالم”([5]).
عدل المسلمين
أما عزو انتشار الإسلام إلى البطش والقوة؛ فيرفض لوبون ذلك، ويقرر خلافه، وهو عدل المسلمين بين الناس، وحسن التزامهم بمنهجه، حتى انتشر الإسلام في بلاد لم يكن فيها العرب غيرَ عابري سبيل. أي أن عدل المسلمين كان السببَ الثاني في الانتشار، بعد السبب الأول، وهو سهولة الإسلام ووضوح عقائده.
يقول لوبون: “القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد تَرك العربُ المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعضُ الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم؛ فذلك لما رَأَوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثلَه من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل. وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عربَ الأندلس فضَّل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام”([6]).
ويضيف: “ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العربُ فيها غيرَ عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يومًا فيومًا مع أن الإنكليز، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهِّزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعًا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى. ولم يكن القرآن أقل انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أيَّ جزء منها قط”([7]).
وما ذهب إليه لوبون، يتفق معه رجاء جارودي لاحقًا، فيقول: “إن ظاهرة انتشار الإسلام ليست صدفة؛ بل ترجع إلى ما يتميز به الإسلام من نظام يحقق العدل، والكرامة، والحرية لجميع الشعوب؛ دون نظر إلى ألوانهم، أو أجناسهم، أو انتماءاتهم السابقة”([8]).
أفلا تكفي هذه الرؤية المنصفة عن انتشار الإسلام، للكفِّ عن الإساءة إليه والانتقاص منه والزعم بأنه في أزمة!!
إن الإسلام/ المنهج، لا يزال يحمل أسباب بقائه وانتشاره، رغم ما وصل إليه حال المسلمين من تدهور؛ ولا يصح أبدًا أن يُتخذ واقع المسلمين دليلاً على بطلان فاعلية الإسلام ووقوعه فيما أصاب غيرَه من رسالات؛ فهو دين الله الخاتم ووحيه الباقي.
وقد التفت لوبون لذلك ورصده في كتابه، بإنصاف يستحق عليه الثناء والتقدير؛ فيقول: “جرت حضارةُ العرب، التي أوجدها أتباع محمد، على سُنّة جميع الحضارات التي ظهرت في الدنيا: نشوء، فاعتلاء، فهبوط، فموت. ومع ما أصاب حضارةَ العرب من الدُّثور، كالحضارات التي ظهرت قبلها، لم يَمسَّ الزمنُ دينَ النبي الذي له من النفوذ ما له في الماضي، والذي لا يزال ذا سلطانٍ كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تَخسر كلَّ يوم شيئًا من قوتها”([9]).
وتلك خلاصة مهمة من لوبون، قد يُتهم قائلها بالانحياز للإسلام والتعصب له، لو كان مسلمًا.. أما وقد جاءت من كاتب غربي، وفرنسي؛ فهي خلاصة شديدة الأهمية، بالغة الدلالة..!
([1]) “المسلمون بين الماضي والحاضر والمستقبل”، ص: 7، المختار الإسلامي، ط1، 1978م.
([2]) حضارة العرب”، لوبون، ص: 125، ترجمة عادل زعيتر، طبعة مكتبة الأسرة، 2000م.
([3]) المصدر نفسه، ص: 125.
([4]) المصدر نفسه، ص: 126، 127
([5]) المصدر نفسه، ص: 125.
([6]) المصدر نفسه، ص: 127، 128.
([7]) المصدر نفسه، ص: 128، 129.
([8]) حوار مع جريدة “الجمهورية” 23/ 3/ 1983م، نقلاً عن: رجاء جارودي رحلة الفكر والحياة، أبو المجد حرك، دار الفتح للإعلام العربي، ط1، 1985م.
([9]) حضارة العرب”، ص: 126.