غزوة الخندق (وتسمى أيضا غزوة الأحزاب) هي غزوة وقعت في شهر شوال من العام الخامس من الهجرة (الموافق مارس 627م) بين المسلمين بقيادة الرسول محمد ، والأحزاب الذين هم مجموعة من القبائل العربية المختلفة التي اجتمعت لغزو المدينة المنورة والقضاء على المسلمين والدولة الإسلامية.

سميت هذه الغزوة بهذا الاسم لأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمر النبي محمد ، حيث تصدى عليه الصلاة والسلام والمسلمون للأحزاب المتحالفة ضدهم، وذلك عن طريق حفر خندق شمال المدينة المنورة لمنع الأحزاب من دخولها، ولمَّا وصل الأحزابُ حدود المدينة المنورة عجزوا عن دخولها، فضربوا حصاراً عليها دام ثلاثة أسابيع، وأدى هذا الحصار إلى تعرِّض المسلمين للأذى والمشقة والجوع. وانتهت غزوة الخندق بانسحاب الأحزاب، وذلك بسبب تعرضهم للريح الباردة الشديدة، ويؤمن المسلمون أن انتصارهم في غزوة الخندق كان لأن الله تعالى زلزل أبدانَ الأحزاب وقلوبَهم، وشتت جمعَهم بالخلاف، وألقى الرعبَ في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده. وبعد انتهاء المعركة، أمر الرسولُ محمدٌ أصحابَه بالتوجه إلى بني قريظة، فحاصروهم حتى استسلموا، فقام الرسولُ محمدٌ بتحكيم من يرضون، وقد كان سعد بن معاذ الذي كان حليفا لهم قبل الإسلام، فحكم بقتل المقاتلة منهم وتفريق نسائهم وأبنائهم عبيدًا بين المسلمين، فأمر الرسولُ محمدٌ بتنفيذ الحكم.

المقدمات والأسباب

وقعت غزوة بني النضير بعد غزوة أحد، في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة بين المسلمين ويهود بني النضير، وذلك للأسباب التالية:

  • نَقْض بني النضير عهودهم مع المسلمين، والتي تشترط عليهم ألا يؤووا عدوا للمسلمين، وقد فعلوا ذلك في غزوة السويق، حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة بعد غزوة بدر، نذر ألا يمس رأسَه ماءٌ من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مئتي راكب قاصدًا المدينة، قام سيد بني النضير “سلام بن مشكم” بالوقوف معه وضيافته، وأبطن له خبر الناس، أي دلَّه على مواطن ضعف المسلمين.
  • محاولة اغتيال الرسول، إذ خرج في نفر من أصحابه عن طريق قِبَاء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامريين الهوازنيين، وهما رجلان من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري الكناني فقتلهما وهو لا يعلم أنهما كانا عند الرسول ، وذلك في أول يوم من رجب، فقالت قريش: “قتلهما في الشهر الحرام”. فخرج الرسولُ إلى ديار بني النضير يستعينهم في ديتيهما، وذلك تنفيذاً للعهد الذي كان بين النبي محمد وبين بني النضير حول أداء الديات، وإقرارًا لما كان يقوم بين بني النضير وبين بني عامر بن صعصعة من عقود وأحلاف. واستقبل بنو النضير الرسولَ محمداً بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، ويبدو أنهم اتفقوا على إلقاء صخرة عليه، من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسولَ أدرك مقاصد بني النضير، ويؤمن المسلمون أن الخبر جاءه من السماء بما عزم عليه بنو النضير من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل.

وردّاً على ذلك، صمم الرسولُ محمدٌ على محاربة بني النضير الذين نقضوا العهد والمواثيق معه، وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم، وأنذر بني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام. وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول مَن يقول لهم: “اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم…”، فعادت لليهود بعض ثقتهم، وتشجَّعَ كبيرُهم حيي بن أخطب وأرسل جدي بن أخطب إلى الرسول يقول له: “إنا لن نريم -أي لن نبرح- دارنا فاصنع ما بدا لك”، فكبَّر الرسولُ وكبَّر المسلمون معه، وقال: “حاربت يهود”.

ونزلت في غزوة بني النضير سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود، وفضحت مسلك المنافقين، وبينت أحكام الفيء، وأثنت على المهاجرين والأنصار، وبينت جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصت المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة، ثم خُتمت بالثناء على الله تعالى وبيان أسمائه وصفاته. وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر: “قل: سورة النضير”.

تخطيط اليهود وأحداث غزوة الخندق

وقعت غزوة الخندق بعد إخراج المسلمين ليهود بني النضير من المدينة، وإجبارهم على السكن في منطقة خيبر عقابا لهم على غدرهم وخيانتهم، فامتلأت قلوبهم ومشاعرهم بالغيظ والحقد، فكانوا هم المحرّك لهذه الغزوة، وأخذوا بتجهيز المكائد وحياكة الدسائس والمؤامرات ضد المسلمين في خطة لإنهاء سيطرتهم على المدينة والقضاء عليهم، فكانت أُولى خططهم هي الاستعانة بأهل مكة، وذلك لمعرفتهم بعداوة قريش للمسلمين، وانتظارهم لأي فرصة للقضاء عليهم، بالإضافة للإمكانات العسكرية لديهم، وعلاقتهم الواسعة مع القبائل من حولهم، فسمّيت هذه الغزوة بغزوة الأحزاب لاجتماع الأحزاب ضد المسلمين، وملاقاة المسلمين للابتلاء العظيم بسببهم، فكانت تمحيصاً لهم واختباراً لصبرهم، وكشف المنافقين منهم.

انطلق وفدٌ من اليهود بقيادة بني قريظة إلى مكة، وكان منهم حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو عمّار الوائلي، وحرّضوا قريشاً على مهاجمة المسلمين وقتال الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، ووعدوهم إن خرجوا للقتال بأنَّهم سيساندونهم وينصرونهم، ومن شدة غيظهم بالغوا في مدح قريش وجاملوهم على حساب دينهم، فشهدوا لهم بأنَّهم على حق وهدى بالرغم من علمهم بما عليه قريش من شرك وضلال، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (النساء – 51) فوافق ذلك هوى أهل مكة ووعدوهم بالعودة لقتال النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وذلك بعد الوعد الذي قطعوه في أحد، وتحرّكت رغبتهم في القضاء على الإسلام، ووجدوا في ذلك ردعاً للمسلمين لتعرّضهم لقوافل قريش التجارية.

سبب غزوة الخندق

اتفق أصحاب المغازي ومن جاء بعدهم من العلماء على أن سبب هذه الغزوة هو إجلاء يهود بني النضير من المدينة حيث إن الحسد والحقد قد تمكنا من قلوبهم مما جعلهم يضمرون العداء ويتحينون الفرص للتشفي ممن طردهم – وما طردهم إلا بسبب ما ارتكبوه ضد المسلمين – أو التحريش ضده وكانوا لا يستطيعون تنفيذ الأول وهو التشفي وحده، وهذا طبعهم الذي أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم في أكثر من آية منها على سبيل المثال قولهم لنبيهم موسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}(المائدة -24).

وعليه فإن سبب غزوة الخندق هو أن يهود بني النضير نقضوا عهدهم مع الرسول محمد وحاولوا قتله، فوجَّه إليهم جيشه فحاصرهم حتى استسلموا. ونتيجة لذلك، هم يهود بني النضير بالانتقام من المسلمين، فبدأوا بتحريض القبائل العربية على غزو المدينة المنورة، فاستجاب لهم من العرب: قبيلة قريش وحلفاؤها: كنانة (الأحابيش)، وقبيلة غطفان (فزارة وبنو مرة وأشجع) وحلفاؤها بنو أسد وسليم وغيرُها، وقد سُمُّوا بالأحزاب، ثم انضم إليهم يهود بني قريظة الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق.

غزوة الخندق وسورة الأحزاب

أحد أسماء غزوة الخندق هو “الأحزاب”، وقد نزلت سورة مدنية في القرآن الكريم هي “سورة الأحزاب” آياتها 73، وترتيبها في المصحف 33، في الجزء الثاني والعشرين، ونزلت بعد سورة آل عمران، تبدأ بأسلوب نداء للنبي ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ (الأحزاب -1).

ومن مواضيع السورة: توجيهات للنبي ، والتذكير بنعمة النصر على الأحزاب وعاقبة الخيانة في الحرب، وبيان أن النبي محمدا هو القدوة الحسنة.  ومن أهم أغراض السورة: التوجيهات والآداب الإسلامية: وبيان الأحكام الإلهية التي تنظم حياة الأسرة والمجتمع والحديث عن معركة الأحزاب (الخندق) وحصار بني قريظة بالتفصيل.

سميت “سورة الأحزاب” لأن المشركين تحزبوا على المسلمين من كل جهة، فاجتمع كفار مكة مع غطفان وبني قريظة وغيرها من القبائل على حرب المسلمين. ولكنهم رُدوا مهزومين بغير قتال، وكفى المؤمنين القتال بتلك المعجزة.

حفر الخندق

ذهب جمهور أهل السير والمغازي إلى أن غزوة الأحزاب كانت في شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة، وقيل إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري، وقيل إن هزيمة الأحزاب كانت يوم الأربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وقيل إنها وقعت سنة أربع من الهجرة. ويرى العلماء أن القائلين بأنها وقعت سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وهو مخالف لما عليه الجمهور مِن جَعْل التاريخ من المحرم سنة الهجرة.

كانت استخبارات الدولة الإسلامية على حذر تام من أعدائهم؛ لذا فقد كانوا يتتبعون أخبار الأحزاب، ويرصدون تحركاتهم، ويتابعون حركة الوفد اليهودي منذ خرج من خيبر في اتجاه مكة، وكانوا على علم تام بكل ما يجري بين الوفد اليهودي وبين قريش أولاً، ثم غطفان ثانيًا.

وبمجرد حصول المدينة على هذه المعلومات عن العدو شرع الرسولُ محمدٌ في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، ودعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار، بحث فيه معهم هذا الموقف. فأشار الصحابي سلمان الفارسي على الرسولِ بحفر خندق، قال سلمان: “يا رسول الله، إنا إذا كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تخندق؟”، فأَعجب رأيُ سلمان المسلمين. وقال المهاجرون يوم الخندق: “سلمان منا”، وقالت الأنصار: “سلمان منا”، فقال الرسولُ محمدٌ: “سلمان منا أهل البيت”. وعندما استقر الرأي بعد المشاورة على حفر الخندق، ذهب الرسولُ هو وبعضُ أصحابه لتحديد مكانه، واختار للمسلمين مكانًا تتوافر فيه الحمايةُ للجيش.

كم كان طول خندق غزوة الخندق؟

جاء في كتاب “أطلس السيرة النبوية“، للدكتور: شوقي أبو خليل: أن طول الخندق كان خمسة آلاف وخمس مائة وأربعة وأربعين متراً (5544م) ومتوسط عرضه أربعة أمتار فاصلة اثنين وستين (4.62) ومتوسط عمقه ثلاثة أمتار فاصلة ثلاثة وعشرين (3.23م)

وقد ركب الرسول فرسًا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعًا ينزله، فكان أعجبَ المنازل إليه أن يجعل “جبل سلع” خلف ظهره، ويخندق من “المذاد” إلى “جبل ذباب” (أكمة صغيرة في المدينة يفصل بينها وبين جبل سلع ثنية الوداع) إلى “راتج” (حصن من حصون المدينة لأناس من اليهود)، وقد استفاد الرسولُ من مناعة جبل سلع (وهو أشهر جبال المدينة) في حماية ظهور الصحابة.

كان اختيار تلك المواقع موفقًا، لأن شمال المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو، والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها، أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة، تقف عقبةً أمام أي هجوم يقوم به الأعداء، فكانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت “حرة واقم” من جهة الشرق، و”حرة الوبرة” من جهة الغرب، تقومان مقام حصن طبيعي، وكانت آطام بني قريظة في الجنوب الشرقي كفيلة بتأمين ظهر المسلمين، إذ كان بين الرسولِ محمدٍ وبني قريظة عهدٌ ألا يمالئوا عليه أحداً، ولا يناصروا عدوًا ضده.

كيف فاجأ “الخندق” أحزاب المشركين ؟

كانت خطة الرسولِ محمدٍ في الخندق متطورةً ومتقدمةً بالنسبة للعرب، إذ لم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم، بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريبًا عنهم، وبهذا يكون الرسولُ محمدٌ هو أولَ من استعمل الخندق في الحروب في تاريخ العرب والمسلمين، فقد كان هذا الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام، وأبطل خطتهم التي رسموها.

وقد اقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجو باردًا، والريح شديدة والحالة المعيشية صعبة، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة، ويضاف إلى ذلك العملُ المضني، حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم، وينقلون التراب على ظهورهم، ولا شك في أن هذا الظرف بطبيعة الحال يحتاج إلى قدر كبير من الحزم والجد.

وعندما وصلت جيوش الأحزاب من قريش، وبني سليم، وغطفان، وغيرهم إلى حدود المدينة في شهر شوال، وكان عددهم عشرة آلاف، وكانت المفاجأة عظيمة بالخندق الذي لم يسبق للعرب أن عرفوا مكيدة مثله، فقد أعدّوا عدّة لكل ما توقعوا مواجهته إلا هذا الخندق، فحاولوا عبوره واقتحامه بكلّ الطرق، فبدأ المسلمون برشقهم بالنبال لمنعهم من العبور، وعندما نجح بعضهم في العبور منهم؛ عمرو بن عبد ود، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، تصدّى لهم المسلمون، وبارزوهم حتى قُتل عمرو بن عبد ود على يد علي بن أبي طالب، وهرب بقيتهم، وظلّ المشركون يكررون المحاولة دون جدوى، وتصدت كتيبة أسيد بن حضير المؤلفة من مائتي مسلم لفرقةٍ من الفرسان كان يقودها خالد بن الوليد وردوهم منهزمين.

غزوة الخندق2
رسم توضيحي لأحداث غزوة الخدق

أول مستشفى ميداني

خلال غزوة الخندق أنشأ المسلمون أول مستشفى إسلامي حربي، فقد ضرب الرسولُ محمدٌ خيمةً في مسجده في المدينة، عندما دارت رحى غزوة الأحزاب، فأمر أن تكون رفيدةٌ الأسلميةُ الأنصاريةُ رئيسةَ ذلك المستشفى، وبذلك أصبحت أولَ ممرضة عسكرية في الإسلام، وجاء في السيرة النبوية لابن هشام: “وكان قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من به ضيعة من المسلمين، وكان قد قال لقومه حين أصاب سعدَ بنَ معاذ السهمُ بالخندق: “اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب”.

ويُفهم من النص السابق أن من أصيب من المسلمين إن كان له أهلٌ اعتنى به أهلُه، وإن لم يكن له أهلٌ، جيء به إلى المسجد حيث ضُربت خيمةٌ فيه لمن كانت به ضيعةٌ من المسلمين، وسعد بن معاذ الأوسي، ليس به ضيعة، ولكن لمَّا أراد الرسولُ محمدٌ الاطمئنان عليه باستمرار، جعله في تلك الخيمة التي أعدت لمن به ضيعة وليس له أهل، ذلك أن هؤلاء هم في رعاية الرسولِ محمد .

تأمين الأطفال والنساء

لما علم الرسول بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق، أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة، حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء، وقد فعل الرسولُ محمد ذلك لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين، لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال.

وضع الرسول النساء والأطفال في حصن فارع قوي حماية لهم، لأن المسلمين كانوا في شغل عن حمايتهم، لمواجهتهم جيوش الأحزاب، فعندما نقض يهود بني قريظة عهدهم مع الرسول، أرسلت بنو قريظة يهوديًّا ليستطلع وضع الحصن الذي فيه نساءُ المسلمين وأطفالُهم، فأبصرته صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول محمد، فأخذت عمودًا ونزلت من الحصن فضربته بالعمود فقتلته، فكان هذا الفعل من صفية رادعا لليهود من التحرش بهذا الحصن الذي ليس فيه إلا النساء والأطفال، حيث ظنت يهود بني قريظة أنه يحميه الجيش الإسلامي، أو أن فيه على الأقل من يدافع عنه من الرجال.

مفاوضة غطفان

اختار الرسول قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك في هذا الغزو أيُّ هدفٍ سياسي يريدون تحقيقه، أو باعثٍ عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفُهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها، ولهذا لم يحاول الرسول الاتصال بقيادة الأحزاب من اليهود (كحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع)، أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب، لأن هدف أولئك الرئيسي، لم يكن المال، وإنما كان هدفهم هدفًا سياسيًّا وعقائديًّا يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس، لذا فقد كان اتصاله فقط بقادة غطفان، الذين لم يترددوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم الرسول، فقد استجاب القائدان: عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني، والحارث بن عوف المري الغطفاني لطلب الرسول، وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة الرسولِ، واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع الرسولُ في مفاوضتهم، وكانت المفاوضة تدور حول عرض تقدم به الرسولُ يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه وبين غطفان، وأهم البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة:

  • عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودة ضمن جيوش الأحزاب.
  • توادعُ غطفانُ المسلمين وتتوقفُ عن القيام بأي عمل حربي ضدهم، وخاصة في هذه الفترة.
  • تفكُ غطفان الحصار عن المدينة وتنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها.

يدفعُ المسلمون لغطفان مقابل ذلك ثلثَ ثمار المدينة كلِّها من مختلف الأنواع، ويظهر أن ذلك لسنة واحدة. فقد قال الرسولُ لقائدي غطفان: “أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟”، قالا: “تعطينا نصف تمر المدينة”، فأبى الرسولُ محمد أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، وجاء في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر.

انهزام الأحزاب

عندما اشتد الكربُ على المسلمين أكثر مما سبق، حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديدًا، توجهوا إلى الرسول محمدٍ وقالوا: “يا رسول الله، هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر”، فقال: “نعم. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا”. كما دعا الرسولُ محمدٌ على الأحزاب فقال: “اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم”.

ويؤمن المسلمون أن الله تعالى استجاب دعاءَ نبيه على الأحزاب، فصرفهم بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم بالخلاف، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه، فقد كان يقول: “لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده. وجاء في سورة الأحزاب الآية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا”.(الأحزاب -9)

وهكذا كان انتصار المسلمين وانهزام أعدائهم، وتفرقهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم. وقد تغير الموقف لصالح المسلمين، فانقلبوا من موقف الدفاع إلى الهجوم، وقد أشار إلى ذلك الرسولُ محمدٌ حيث قال: “الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم”.

نتائج غزوة الخندق

كانت نتائج غزوة الخندق هي الغزوة السابعة عشر، من غزوات الرسول بالترتيب، وكانت غير متوقعة على الإطلاق من قبل الكفار، حيث غرهم عددهم وعدتهم، حين تأمروا على المسلمين وتجمعوا من مكة والمدينة ليقضوا عليهم، ويشتتوا شملهم، ويمكن اعتبار نتائج غزوة الخندق كالتالي:

  1. انتصار المسلمين على الأحزاب: حيث انتصر المسلمين نصرا عظيما ساحقا على الكفار، وجعلوهم يتقهرقروا فعادوا مدحورين إلى جحورهم منكسين رؤساهم، حيث كان يقودهم أبو سفيان، فكان كل منهم يشعر بالدونية والإنهزام.
  2. أخذ المسلمون موقع الهجوم بدل الدفاع: فقد كان عدد الكفار كبير، وهم يهاجموا المسلمون، أما بعد الدخول إلى ساحة المعركة كان جنود الله هم الاقوى، والمدد الألهي هو الأعلى، فكان المسلمون يقفوا وكأنهم ثلاثون ألف جند بعون الله وقدرته، حيث قال الرسول الكريم، “الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم”، صدق رسول الله .
  3. ظهور المنافقين وأعداء الدين: حيث اظهرت تلك الغزوة ما في قلوب الناس من شر، ومن يتجمل فكان الأمر عصيب يحتاج إلى ردة فعل تبين مدى الصدق ف الوعد والعهد، وما كان صادق في إيمانه، فوقف المسلمون على قلب رجل واحد خلف النبي ، وانضم الأعداء إلى الكفار واليهود، واولهم بني قريظة المنافقين الكاذبين.
  4. أدت غزوة الاحزاب لغزوة بني قريظة: فقد أدت غزوة الأحزاب لدخول المسلمين لغزوة أخرى، وهي غزوة بني قريظة، لكي يعاقب فيها اليهود عم بدر منهم لأنهم نقدوا عهدهم، وبرغم أن ذلك ليس بجديد عليهم ولكن كان يجب أن يتأدبوا حين يعاهدوا المسلمين ويتعاقدوا مع سيد الخلق، كما أن تلك الفترة كان المسلمون في أشد الحاجة إلى العون، والدفاع معهم عن موقعهم ودينهم، ولكن ظهر معدن اليهود بالوقوف في صف الكفار، ونقد العهد مع النبي .
  5. زيادة ثقة المسلمين في أنفسهم ودينهم: فما حدث في غزوة الأحزاب كان معجزة، أن ينصرهم الله وهم قلة، ويجعل اعدائهم يخافو من مواجتهتم، ويروا كرامات الدين الإسلامي الحنيف في ساحة القتال، ومدى صدق نبيهم وحبيبهم محمد ، كان لذلك واقع جميل في نفسه.
  6. دخول عدد كبير من فريق الكفار للدين الإسلامي: فبعدما رأى الكفار واليهود، كرامات الدين الإسلامين وقوة وثبات المسلمين بدأوا يتوافدوا للرسول بعد الغزوة ويعلنوا إسلامهم أمامه، ومن بينهم نعيم بن مسعود، الذي طلب من الرسول عدم معرفة قومة بأنه دخل في الدين الإسلامي، وامره الرسول حينها أن يقوم بالتفرقة بين الاحزاب وبني قريظة.
  7. لم يقاتل الكفار المسلمين: بعد التعرف على كافة التفاصيل، قد يتخيل احد أن سنت حرب عظيمة طارت فيها رؤوس وملئت حمامات الدم المدينة، ولكن الأمر ليس كذلك أبداً، فما حدث ان حين عسكر الكفار في المدينة جاءت الريح العاتية فأنتزعت خيامهم نزعاً، ففكوا الحصار، وكان عدد القتلى من المشركين في كل تلك المعركة ثلاث رجال، ومن المسلمين ستة، وبعد قليل تراجع وتقهقر الكفار، لخوفهم مما يحدث في ساحة القتال، وهو أن الريح خفيف على المسلمين شديد على الكفار

مصادر

1-أطلس السيرة النبوية ، شوقي أبو خليل

2- مرويات الإمام الزهري في المغازي، محمد بن محمد العواجي، المكتبة الشاملة.

3- السيرة النبوية – عرض وقائع وتحليل أحداث، علي محمد الصلابي.

 4- كتاب دراسة في السيرة، عماد الدين خليل

5- كتاب السيرة النبوية، أبي الحسن الندوي

6- مغازي الواقدي، الواقدي، ج1 – موقع: المكتبة الشاملة

 7- حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول، ج1

 8- غزوة الأحزاب، محمد أحمد باشميل

9- غزوة الخندق (غزوة الأحزاب) – موقع قصة الإسلام.