“فاقد الشيء لا يعطيه” مقولة تطرق مسامعنا دوماً ولكن ما مدى صحتها ؟ أو بالأصح هل هي مطلقة في كل الأحوال ؟ لو سلمنا مجازاً بصحة هذه المقولة من باب أن فاقد الخلق الحسن من الاستحالة أن تستقي منه هذا الخلق، وأن الفاقد للعلم المتصف بالجهالة يستحيل أن يمنحك ما ينمي علمك ومعرفتك، وأن الفاقد للمال الغير مالك له من أين يعطي إذا أراد ؟ فعلى الجانب الآخر هناك من يخالف تسليمنا بصحة هذه المقولة…والدليل على ذلك حينما نشعر بفقد إحساس ما نكون أكثر معرفة بالألم الذي يخلفه فقد هذا الإحساس، مما يجعلنا نسارع بمنحه إلى من نشاهده في مثل حالتنا حتى لا يشعر بالألم الذي عشناه، ومثال ذلك من يفقد العطف والحنان في صغره نجده في الكبر أكثر حرصاً على إعطائه لمن حوله رحمة بالأقربين إليه حتى لا يقاسوا الألم الذي قاساه، و أن من فقد الحب أو قاسى آلاما بسببه يبذل المستحيل ليكون كأفضل ما يكون مع من يحب بعد ذلك حتى لا يجلدهم بنفس السياط التي جلد بها. وأن الفاقد لنعمة رغد العيش يكون أكثر عطاءاً وبذلاً عندما تتسع معيشته وينعم بالمال الوفير لإدراكه أن الحرمان منه في السابق معاناة .
معنى هذه المقولة
دعونا نتفق أولا على معنى العبارة ففاقد الشيء لا يعطيه تعني أن من لا يملك شيء لا يستطيع أن يعطي غيره هذا الشيء ، وليس معنى العبارة أن من حُرم شيء فإنه لا يعطي غيره هذا الشيء الذي حُرم منه.
مثال للتوضيح من حُرم العطف لا يعني أنه ليس لديه خاصية العطف (لأن العطف صفه من صفات الإنسان فهو يملك صفة العطف أساسا كصفة في البشر سواء منح العطف أم حُرم منه).
لكن لو فُرض أن شخص وُلد بدون صفة العطف (لا يملك هذه الخاصية من الأساس) عندها لا يستطيع أن يمنح غيره العطف لأنه ليس صفه من صفاته بالأساس.
إذن معنى العبارة صحيح ففاقد الشيء (من لا يملك الشيء) لا يعطيه (لا يستطيع أن يمنحه غيره) (لأنه لا يملك هذا الشيء من الأساس).
لكل قاعدة شواذ
أحيانا نتعامل مع مقولات كأنها أبجديات نحكم بها خطأ على الكثيرين، أو قوانين نبني عليها قراراتنا فنخطأ أحيانا بحق من نطبقها عليه، من هذه المقولات “فاقد الشئ لا يعطيه ” فقد توارثنا هذه المقولة، واعتدنا أن نكررها دائما و تجاهلنا أن لكل قاعدة شواذ . ففاقد الشئ قد يكون هو أفضل من يعطيه، يعطيه ببذخ .. لأنه أدرى البشر بمرارة فقدانه.
فمن فقدوا الحنان والعاطفة هم أقدر الناس على منحها.
ومن فقدوا الأمان هم من يتوقون لمنحه لكل من أحبوا في الحياة.
ومن فقدوا التفاهم والدعم هم من يستطيعون أن يقدموه لغيرهم.
ومن لم يستطع نيل حظه في التعليم كان أكثر الناس حثاً لأبنائه على تحصيله.
ومن لم يحقق حلماً يسعى لتحقيقه لأبنائه.
يقولُ علي عزت بيغوفيتش في كتابه ” هروبي إلى الحريّة ” :
في الوقت الذي اهتزتْ فيه مدينة نابولي الإيطاليّة من الضّحك لعروض الممثل الكوميدي ” كارلينا ” جاء رجلٌ إلى طبيبٍ مشهور في المدينة، وشكا إليه اكتئاباً شديداً … اعتقدَ الطبيبُ في البداية أنّ المرض عضويّ، فباشرَ بإجراء الفحوصات المخبرية والتحاليل، فتبيّن له أنّ المريض في أحسن حال، واقتنع فعلاً أن المشكلة نفسيّة ! فقال للمريض : أنتَ معافى جسدياً، جرّب أن تبحث عن المرح والتّسلية، لماذا لا تذهب إلى عروض ” كارلينا ” ؟!.
نظر المريض في عيني الطبيب وقال له : أنا ” كارلينا ” سيّدي الطبيب !…
فسلام على الذين يُثبتون كلّ يوم خطأ المقولة الشهيرة : فاقد الشيء لا يعطيه !
سلام على الذين يُعطون ما لا يجدون!.
سلام على الآباء الذين حُرموا التعليم بسبب الفقر، فأبوا رغم الفقر أن يحرموا أولادهم، فذاقوا الويلات يبحثون لهم عن قلم وكتاب ومقعد دراسيّ في جامعاتٍ لا ترحم!.
سلام على الأمهات اللائي حُرمن الحنان والاهتمام فلم يُفسد هذا الحرمان فطرتهن، وما زلنَ يُغدقن الحنان والاهتمام!.
سلام على الموظفين البسطاء الذين لا يعرف أحد كيف تكفيهم مرتباتهم ورغم هذا تجد أحدهم يضع في يد فقير صدقة!.
سلام على الذين غرقوا في المعاصي ولم يجدوا من يأخذ بأيديهم إلى الله، ورغم هذا ما زالوا يُحبّون الله وأهله!.
سلام على الذين لم تُنسِهم الموسيقى القرآنَ، ولم تُكرّههم الملاهي بالمساجد، ولم يقدهم ركضهم وراء الأزياء إلى احتقار الحجاب!.
سلام على الذي تقلّد منصباً مرموقاً فظلّ إنساناً ولم يقل لنا ” أنا ربكم الأعلى “!.
سلام على الذين يرفضون الظلم وإن وقع على غيرهم، ويُعارضون القهر والاستبداد وإن سلموا منه!
سلامً على الذين لم تشغلهم وظائفهم عن الإحساس بالعاطلين عن العمل، ولم تُنسهم مناصبهم أن الآخرين بشرٌ أيضاً!.
سلامً على الذي تنازل عن رغبة حرام وهو قادر عليها، وحاور نفسه بالآية : ” ألم يعلم بأن الله يرى “، فرفض أن يكون الله أهون الناظرين إليه!.
سلام على هؤلاء البشر الحقيقيين الذين يخبروننا أنّ ثمة ضوء خافت في عتمة الحياة، ويجعلوننا نحلم أن هذا الضوء سيصبح يوماً ساطعاً، وتصبح الأرض مكاناً صالحاً للحياة… سلام على البشر الحقيقيين !