سيل جرار من الفتاوى هطل على سماء الدنيا، وانتشر في الآفاق شرقا وغربا حول آثار فيروس كورونا الذي أفزع العالم مسلمهم وكافرهم، أقعدهم في بيوتهم ساكنين خائفين، وعطلهم مصالحهم، فالشوارع الصاخبة لم تعد تسمع لها همسا، والمحلات التجارية التي كانت تضج بالناس حتى منتصف الليل خاوية على عروشها، والوزارات والمؤسسات التي كانت ملأى بالمراجعين والموظفين كأنها ديار بالية، والحدائق التي كانت تملأ نشاطا وحركة ولعبا؛ كأنها آثار السابقين، يمر الناس عليها مرورا سريعا، كأنها ديار ثمود، ومكث الناس في بيوتهم مكثا، بعدما ملئوا البعض بيوتهم بالأغذية والأطعمة والمشروبات، في سباق – غير محمود- نحو الجمعيات التعاونية والمحلات التجارية، يخطفون البضائع دون النظر إلى أهميتها أو إعادة التفكير في الحاجة إليها، حتى أصبح الناس في الجمعيات والسوبر ماركات طوابير تذكرنا بيوم الحشر، وما هو بيوم الحشر..
وخرجت قرارات وزارات الأوقاف بعدما تفشي المرض بالفتاوى التي تمنع المصلين من الذهاب إلى المساجد لصلاة الجماعة، وأخيرا عطلت صلاة الجمعة، فتحسرت القلوب وبكت الدموع، وتضايق البعض حتى ممكن كانوا لا يواظبون على صلاة الجماعة، أو كانوا بالكاد يصلون الجمعة في المسجد..
لكن الجميل هو التزام غالب المسلمين بالأوامر، فقد أدركوا أن من أصدر تلك الفتاوى ما أراد بالمسلمين إلا خيرا، ونهأنهم أنهم ما باعوا دينهم، لكنهم خافوا على النفوس من التهلكة، ففتش الفقهاء والعلماء في بطون الكتب، واسلتهموا روح الأدلة، على أن التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة من الأعذار المبيحة التي ترفع الإثم عن المسلمين، وأنها ليست محل غضب رب العالمين، ولشدة الشوق إلى المساجد، انبرى آخرون رأوا أن تعطيل المساجد مما لا يجوز فعله، ولا ينبغي الإقدام عليه، وأن الناس في المهالك إلى الله يلجؤون، و إليه يفرون، وعليه يتوكلون، وأن الذهاب إلى المساجد منجاة من المفاوز، لكنهم على الرغم من هذا، دعوا الناس إلى الالتزام بالأوامر والقرارات، ولزوم البيوت والمقرات، سائلين الفقهاء الآخرين، والمسئولين المنوطين بمراجعة الفتاوى والقرارات، وتلك لعمري مزية في الفكر الإسلامي جميلة، فما أجمل الانفتاح في التفكير، ومراجعة الأفكار والتقارير، مع المحافظة على قرارات ولاة الأمور، وأنه ليس للعامة مخالفة الأمر، إلا بقرار ممن ملك الأمر.
ونحن هنا نصدر الفتاوى والاتجاهات، وكيف عملت “ميكنة الاجتهاد الفقهي” في الأزمات، وأخرجت تلك الروح الحضارية، باتساعها في الآراء والأفكار، مع الالتزام بما يصدر عن الوزارات المسئولة من أوامر وقرارات.
وقد كانت الاتجاهات الفقهية على النحو التالي:
الاتجاه الأول: القول بجواز تعطيل المساجد في الجمع والجماعات، مع الإبقاء على رفع الأذان، شعيرة الإسلام.
ويمثل هذا الاتجاه جمهور الفقهاء المعاصرين، من غالب المجامع الفقهية، وهيئات الفتوى الكبرى، مثل: هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، والمجلس العلمي الأعلى بالمغرب ، واللجنة الوزارية للإفتاء بالجزائر، وهيئة الفتوى بدولة الكويت، ومجلس الإفتاء بالإمارات، والمجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والإفتاء، ولجنة الإفتاء بدائرة الإفتاء بالأردن، والمجلس الإسلامي للإفتاء في الداخل الفلسطيني، وفتوى أساتذة كلية الشريعة بجامعة قطر.
ومن الأفراد: الدكتور علي محيي الدين القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والدكتور خالد حنفي الأمين المساعد للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، الدكتور سعد الكبيسي، والدكتور مراد فضل الأستاذ بجامعة قطر، وغيرهم.
أدلة الفريق الأول: وقد استند جمهور الفقهاء المعاصرين في جواز تعطي الجمع والجماعات، وأن يصلي الناس في بيوتهم صلاة الجماعة ولهم أجرها، وأن تصلى الجمعة ظهرا أربع ركعات في مجملهم إلى عدة أدلة، من أهمها:
الاستناد إلى فقه الأعذار، فالشريعة التي أباحت التخلف عن صلاة الجماعة لأعذار كالمرض والمطر وغيرهما، وهي أقل بكثير من خطر انتشار عدوى الكورونا.
كما استندوا في هذا إلى عموم النصوص القرآنية والنبوية القائمة على التيسير ورفع الحرج، وكذلك النصوص التي تدل على جواز الترخص في ترك الجماعات.
وكذلك القياس على اعتزال المساجد لمن كانت رائحة فمه كريهة، كمن أكل ثوما أو بصلا، فيكون من باب قياس الأولى ترك الجماعات لما هو أخطر، الذي هو “فيروس كورونا”.
كما استندوا في ذلك إلى الترجيح المقاصدي، اعتمادا على قواعد مقاصد الشريعة، فحفظ النفس من الموت أو الهلاك من الضرورات، وإقامة الجماعة في المسجد من تكميلي ضروري الدين، فيقدم ضروري النفس على تكميلي الدين.
وغير ذلك من الأدلة التفصيلية التي ينتهي بها هذا الفريق إلى جواز بل وجوب تعطيل المساجد والجمع والجماعات بلا حرج.
الاتجاه الثاني: منع الجمع والجماعات في المساجد لمن هم مصابون بالمرض، أو يخشون على أنفسهم، ولو بالمظنة، وتبقى إقامة الجمع والجماعات واجبا، يقام بالحد الذي يمكن معه عدم تعطيل المساجد، إلا إذا قرر المختصون أن إقامة الجمع والجماعات مظنة انتشار العدوى، فيقيم الجماعة الإمام وعدد قليل معه.
ومن أبرز من ذلك إلى ذلك لجنة الفتوى بمجمع فقهاء أمريكا الشمالية، خاصة في البيان الأول والثاني، وكذلك هو رأي الشيخ محمد الحسن الددو، والشيخ سالم الشيخي، عضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وهو الرأي الأول لهيئة كبار العلماء بالسعودية، بعدما انتهوا إلى رأي جمهور الفقهاء المعاصرين في الفتوى الثانية لهم.
واستند هذا الفريق إلى الجمع بين الأمرين، وعدم اللجوء إلى الترجيح؛ إذ لا حاجة إليه، وأن النصوص التي تبيح التخلف عن الجماعات إنما هي لأصحاب الأعذار، أو من يخشون على أنفسهم، أما الأصحاء، فالواجب في حقهم إقامة الجمع والجماعات، ومع خشية انتشار المرض، تقام الجمع والجماعات بالحد الأدنى، عملا بجميع الأدلة، وعدم إهمال أحدها.
الاتجاه الثالث: وجوب إقامة الجمع والجماعات، وأنه لا يجوز تعطيل المساجد، ويمثل هذا الاتجاه بعض الفقهاء من أساتذة الشريعة، ولم يسجل لأي هيئة أو جهة إفتاء عامة أن قالت بهذا الرأي، فلم يصدر هذا الرأي عن اجتهاد جماعي.
ومن أبرز من قال بهذا، الدكتور حاكم المطيري الأستاذ بكلية الشريعة جامعة الكويت، والشيخ محمد سالم الدوو أحد فقهاء موريتانيا، والدكتور جدي عبد القادر وطاهر بلخير من الجزائر.
وقد اعتمد القائلون بهذا الرأي على عموم النصوص التي تدعو إلى إقامة الجمع والجماعات، وردوا على الأدلة التي استند إليها الفريق الأول بجواز التعطيل، وأن الخطاب إنما هو لآحاد المسلمين الذين يجوز لهم التخلف عن المساجد، أما في النازلة التي نحن فيها، فالأمر متعلق بولاة الأمور، فلا تنسحب أدلة جواز التخلف عن الجماعات بالأعذار على تعطيل المساجد بالكلية.
لكن من أبرز النقاط الرائعة التي انتهى إليها الشيخ محمد سالم الددو هو أنه يجب على الجميع الانصياع إلى القرارات وتنفيذها، وأنه لا يجوز مخالفتها، ولو كانت خاطئة.
ومن الملاحظ أن فقهاء الأمة لم ينشطوا في نازلة مثلما نشطوا في تلك النازلة (انتشار فيروس كورونا)، بل والسعي الحثيث لنشر الفتاوى بكل وسيلة ممكنة، وأن الأزمة أبرزت عن جهد جمعي رائع في الاجتهاد الفقهي، مما يعد ظاهرة صحية من جانب الفقهاء.