هاتان الفكرتان دينيتان بامتياز، ومن العقائد التي يؤمن بها المسلمون؛ إذ إن المسلمين يؤمنون برفع عيسى عليه السلام حين همّ به يهود همّ السوء، وأرادوا قتله، وسعوا به عند الحكام الرومان. ويؤمنون كذلك برجوعه في آخر الزمان.

فالغيبة مستفادة من قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 157-158].

والرجعة مستفادة من قوله صلى الله عليه وسلم: “لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ”([1]).

وهذا لا يمنع أن هاتين الفكرتين كانتا موجودتين في الأقدمين، ومن ليس عندهم كتاب سماوي، يقول ابن الأثير: “الرَّجْعةُ: مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروفٌ عندهم”([2]).

والمجوس تدّعي أنّ لهم منتظرًا حيًّا باقيًا مهديًّا من ولد بشتاسف بن بهراسف يُقال له: أبشاوثن، وأنّه في حصن عظيم بين خراسان والصّين([3]).

لكنه عند المسملين بدأ دعاة البدع والفتن باكرًا في استخدام هذه العقائد فيما يخدم اتجاهاتهم المنحرفة، ويدخلون في الدين ما ليس منه.

وأول من تكلم في ذلك عبد الله بن سبأ، وقد شرح يزيد القفسي بدايات الحديث بمثل هذه الأمور، وكيفية إدخالها وبثها بين المسلمين، بل والاستدلال لها، فيقول: “كان ابن سبأ يهوديًّا من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان رضي الله عنه.

ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه، حتى أتى مصر، فاغتمر فيهم، فقال لهم فيما كان يقول:

العجب ممن يزعم أن عيسى عليه السلام يرجع، ويكذب بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يرجع، وقد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: 85]، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى.

قال: فقبل ذلك عنه، ثم وضع لهم الرجعة فتكلموا فيها”([4]).

ثم تدرج به الأمر، وتمادى في غيه، فادعى أن الإمام عليًّا رضي الله عنه ما مات وما قتل، فقد ذكر عامر بن شراحبيل الشعبى أن ابن سبأ قيل له: إن عليًّا قد قتل.

فقال: إن جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته.

لا يموت حتى ينزل من السماء، ويملك الأرض بحذافيرها”([5]).

ثم توسع الأمر، وغلب أن كل إمام لفرقة يموت أو يُقتل يدعي أصحابه ومنتسبوه أنه ما مات، وأنه سيعود، أو يقرون بموته وقتله، ولكنهم يقولون برجعته، فمثلاً أصحاب أبي كرب الضرير يزعمون “أن محمد ابن الحنفية حيٌّ لم يمت، وأنه في جبل رَضْوَى، وعنده عينٌ من الماء، وعينٌ من العسل يأخذ منهما رزقه، وعن يمينه أسدٌ، وعن يساره نمر، يحفظانه من أعدائه إلى وقت خروجه، وهو المهدي المنتظر”([6]).

وقد تحدث الشاعر المشهور كثيّر عزة عن هذا الاعتقاد فقال:

ألا إنّ الأئمةَ من قُريشٍ   ***   وُلاةَ الحقّ أربعةٌ سواءُ

عليٌّ والثلاثةُ من بنيه   ***   هم الأسباطُ ليس بهم خفاء

فَسِبْطٌ سبطُ إيمانٍ وبرٍّ   ***    وسِبطٌ غيّبته كربلاء

وسبطٌ لا يذوق الموتَ حتى   ***    يقودَ الخيل يَقْدمُها اللواء

تغيّب لا يُرى فيهم زمانًا    ***   برضوى عنده عسلٌ وماء

ويزعم الدروز أن هذه الغيبة ستستمر ولن يعود الحاكم للظهور في الصورة الناسوتية إلا يوم القيامة، وهو اليوم الذي يظهر فيه مذهب الدروز على غيره من المذاهب والأديان”([7]).وها هم “الدروز يقولون بغيبة الحاكم [بأمر الله]، ويزعمون أنه لم يقتل ولم يمت، ولكنه اختفى أو ارتفع إلى السماء، وسيعود عندما تحل الساعة فيملأ الأرض عدلاً.

وتطور الأمر حتى قال المفيد: “واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات”([8]).

وأصبحت الرجعة عقيدة ثابتة، حتى قال الحر العاملي: إنهم “مأمورون بالإقرار بالرجعة واعتقادها، وتجديد الاعتراف بها في الأدعية والزيارات ويوم الجمعة وكل وقت، كـ: الإقرار بالتوحيد والنبوة والإمامة والقيامة”([9]).

ويشير الآلوسي إلى أن تحول مفهوم الرجعة عند الشيعة من رجعة الإمام فقط إلى ذلك المعنى العام كان في القرن الثالث([10]).

ولكن الملاحظ أن مدلولات هاتين العقيدتين سياسية عند الفرق الإسلامية، لكنها لبست لباس الدين والعقيدة حتى يستسيغها الأتباع، ولتبقى الفكرة التي جاء بها الإمام أو نسبوها إليه متقدة في قلوب أتباعهم، ولكي لا تموت فكرة إقامة دولتهم بموت إمامهم.

فإذا دبّ اليأس في قلوب الأتباع لم ينشطوا في إكمال ما بدأه إمامهم أو دعاته الذين يبشرون بفكرته ودولته.

فيكون القول بالرجعة مدعاة للتمسك بالفكرة، وعدم التواني عن محاولة إقام الدولة حتى في عدم وجود الإمام، بل يكون التمهيد والتوطئة لرجعة الإمام بإقامة دولته الموعودة.

وهذا شبيه لنفس الفكرة عند البروتستانت الذين يدعمون الصهاينة ودولتهم بكل قوة؛ إذ إنهم يعتقدون أن إقامة دولة يهود وبناء الهيكل يعجِّل بعودة المسيح.

وقد تكون هذه الأفكار ستارًا يستتر به الدعاة ليكونوا في موقع الأئمة، وإغلاق الباب على أي إمام قادم، فوجود إمام يستلم الراية بعد الإمام الميت أو المقتول يغلق الباب على فكرة الغيبة والرجعة، فتكون هذه الفكرة غطاء لطلب السلطة والجاه من قبل الدعاة والوكلاء والنواب، أو للاستئثار بالأموال التي تجمع باسم الإمام الغائب ولإقامة دولته.

وقد لاحظت أن هذه الأفكار ما زال لها ترسبات في عقول الناس، وإن لم تأخذ البعد العقائدي؛ إذ إن هناك من ينفي موت صدام حسين بالعراق، وموت عمر سليمان في مصر، وأنهما غائبان ومستتران فقط عن الأعين.

والملاحظ أن الشخصيات المؤثرة البارزة، والتي لا تتكرر كثيرًا، يعز على أتباعهم فقدها، فإذا انضم لذلك ضعف من يأتي بعدهم، فإن الغيبة والرجعة تكونان هما الملاذ النفسي الذي يجد فيهما الأتباع ضالتهم وعزاءهم.


([1]) أخرجه البخاري في “المظالم”، باب: “كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ”، ح(2476) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([2]) النهاية في غريب الحديث والأثر، (2/492).

([3]) تثبيت دلائل النّبوّة، (1/179).

([4]) الشريعة للآجري، (4/1984).

([5]) الفرق بين الفرق، ص(29) بتحقيقي.

([6]) الفرق بين الفرق، ص(67) بتحقيقي.

([7]) د. سليمان عبد الله السلومي: أصول الإسماعيلية، دراسة – تحليل – نقد، ص(286-287).

([8]) أوائل المقالات، ص(51).

([9]) الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، ص(64).

([10]) روح المعاني، (20/27)، وانظر: أحمد أمين: ضحى الإسلام، (3/237)، والقفاري: أصول مذهب الشعية الإمامية الاثني عشرية عرض ونقد، (2/912).